كان يوسف في حجرة صابرين يُلقي نظرة أخيرة على أخته في فستان زفافها، وقال معلقاً على صورتها النهائية :
- إنها مثل كارول لومبارد جمالاً، غير أن أنفها في مكانه !
ولاحظ يوسف - لحسه الفطري المشاكس الذي يحسن التقاط التفاصيل الصغيرة - شحوب وجه الفتاة وعجزها عن التجاوب معه، على أنه لم يلقِ للأمر بالاً، ربما، لحسه الفطري المشاكس عينه،.. وهرع إلى شرفة البيت المتصلة إلى الحجرة يستمع ويرى أواني الفخار المتهشمة على الطوار (الرصيف) والمتبعثرة فوق أديم الأرض وأمام الحوانيت، لقد كان هذا الحدث، وفي الحق، إلى نفسه أقرب من زفاف أخته، ودلفت هدى إلى الحجرة فأبدت استحساناً مماثلاً بهيئة أختها صابرين، لقد كانت لهدى اهتمامات بعالم الجمال والأزياء تفوق أختها ولأجل هذا بدا أن ثناءها في محله وذا اعتبار،.. وعادت تقول (هدى) وهي تلتفت إلى مشهد الشرفة :
- إنها عادة اليونانيين (تريد إلقاء الأواني من النوافذ في رأس السنة) الذين يتمركزون في حي الإبراهيمية، وأراهم في الرائحة والغادية بالمدرسة الإبتدائية وحولها،.. إن حي الإبراهيمية يعد حي الجاليات اليونانية بالإسكندرية !
وقال يوسف معلقاً في شغب :
- ما أروع هذا الضجيج !
وتزامن قوله هذا مع دخول بهاء الدين وفاطمة من الباب، وهرع يوسف إلى والديه فقال :
- هلا تسمحان لي بالانصراف؟ وسوف أعود أحضر هذا الشطر الثاني من حفل الزفاف، (ثم وهو يعدو دون أذن منهما..) حين يظهر المطرب.. وسوف أمسك بالشمع مع الماسكين..
وقصد الشاب إلى مقهى الفنانين - كدأبه بالأماسي - وقد حدس بأن ليلة رأس السنة سوف تحفل لأجلها قاعة المتفرجين بعد شقاء عام عصيب بما لا مثيل له من الحشد الغفير من طلاب السمر، وشحذ طاقته لعرض يؤديه على مرأى من أولئك فامتلأ بالحيوية وتمخض عصفه الذهني عن مزحة أو مزحتين، بيد أنه حين اقترب من المقهى ألفى أبوابه موصدة وأنواره منطفئة فوثب القلق إلى نفسه وألبسه لباس الريبة، وسرعان ما سمع نقاشاً لرجلين مشتتاً كالغبار فخطى ناحيته خطوات تكشفت له بعدها صورة رشدي عبد العظيم وهو يحاور ضابطاً إنجليزياً ومن وراءه (الضابط الإنجليزي) ضابطين مثله :
- "ولكننا لم نؤذِ ضباطكم قط، ولم نهدف إلى إفساد لياليكم هنا !".
ويجيبه الضابط :
- "لقد صدر الأمر بهدم المبنى..".
ويقول رشدي في نشدان:
-"إنها جماعة العربجية.. سيكون من الحكمة لو قبضت الشرطة الإنجليزية عليهم دون أن تهدم مقهى للفنون..".
وحدق يوسف إلى ملامح الضابط المتحدث رغم ما فرضه الليل من عتمة، ففطن إلى أنه الضابط تشارلي Charlie الذي سبق أن وجده في حجرة عفاف منذ ما يربو على العام، واقترن وصوله إلى هذا الاستناج بأن جاء صوت أنثوي اخترق هذه الجلبة، يقول :
- "إن اسمي عفاف.. وقد أنقذتك من العربجية..".
وحملق الضابط إليها زمناً أطول مما يجب في مثل هذه الظروف حتى قال :
- "أعذريني سيدتي.. ولكن لا يمكن أن أقبل بإهانة ضباطنا على هذا النحو المتكرر..".
- "لقد ذكرت شيئاً عن السمات الفاضلة والروح النبيلة التي وجدتها في تصرفي..".
وأجابها وهو يتذكر حديثاً قديماً، متأثراً بصورتها الحسناء البادية :
-"والمشكل أن هذا أمر تتفردين به بين دهماء المصريين الذين يرومون الفتك بنا.. سيدتي..".
-"إن دهماء المصريين يرومون السلام..".
- "ولا يريدون الإنجليز في حياتهم المسالمة أيضاً..".
وجيء بالمتفجرات وجعل الضباط ينتشرون داخل المقهى فيشرعون في اقتلاع الأبواب والشبابيك وغير هذا مما يُستفاد منه، وأراد تشارلي أن يتابع سير العمل مجتازاً الباب الخشبي لولا أن يوسف اعترضه، فقال الضابط له لما اصطدم به :
- "بحق السماء والأرض،.. فلتفسح عن سبيلي.. هل أنت صديق الآنسة؟ (يريد عفاف)".
-"أجل وسوف أخسر عملي مثلها..".
-"وماذا كنت تعمل هنا؟ أنت قصير وهزيل جداً..".
- "مونولجست..".
- "سوف تجد فقرة تؤديها حتماً بين أطلال المقهى..".
قالها بينما انتظر استجابة لمزحته تصدر من الضابطين المصاحبين له، وقال يوسف :
- "ما أثقل مزاحك !".
-"وما الخطأ فيه؟ ألم يكن تشارلي شابلن في أفلامه متسكعاً ومتشرداً؟!
وقال يوسف شيئاً في الدفاع عن تشارلي شابلن وكان دفاعه غريباً عن المقام :
-"لقد قدم شابلن مهن عصر الصناعة - خطوط الإنتاج الفوردية - كأفعال رتيبة ولانهائية، حيث يظل الشغيل يربط ذات المسمار بطول عمره، وأدان في فيلم "العصور الحديثة" لا إنسانية المصانع، وإنني مثله مونولجست أسرب موقفي مع الضحك..".
وواصل يوسف - واضعاً يديه عند خصره (وسطه) - اعتراضه مسير الضابط تشارلي فاقتاده صحبه من الضباط الإنجليز الذين شرعوا يتوافدون - اقتاداه إلى عربة يُنتظر أن تقله إلى محبسه، وظل يوسف يفكر في أثناء مسيره إلى هناك في مصير المقهى الذي يُنتظر أن يستحيل ركاماً، وكذا فيمن ينتظرون حضوره حفل زفاف أخته صابرين وفي تخلفه عن الحدث الذي لا يعوض، وفي أبيه ساعة يعرف بشأن عمله كمونولجست حين تتكشف من أمامه الحقائق الغائبة، ثم كيف عساه أن يدبر له الكفالة وهو الرجل الحائج؟ وأنى له بها؟ وأي زجر ونهر سيحفل به لقاؤهما؟.. فأورثه التفكر الأسى، وفطن الأهالي إلى مقدم عربات الإنجليز في حيّهم فصاروا يرمونهم بالأواني والفخار يخفون نواياهم العدائية الحقة وراء ستار الظاهرة السنوية العجيبة،.. وغاب وعيه (يوسف) وراء أصوات الأواني الفخارية التي جعلت تتهاوى فوق رؤوس الضباط الإنجليز وعلى قرب منه بينما تهرع عربته هرباً وفراراً، ويقظ من غفوته القصيرة في نقطة الطوبجية ففتح عينيه الزرقاوين على مشهد اجتماع عفاف إلى الضابط تشارلي، وقال (يوسف) لعفاف بينما يمسح عينيه :
- من أسف أن ينتهي خبر مقهى الفنانين على هذا النحو المفجع ! وقد أمست فقراتنا، أنا وأنت، فيه كالذكرى العابرة حبيسة العقل الزائل.. أو كالأخبار الوالية أسيرة وجدان من عايشها،.. وأين الأمجاد التي بحثنا عنها؟ أين طاولات الأبنوس والخيزران؟ وأين التهاويل الرائقة والحوائط الصلدة؟ وقد كان يتفق لي أن امتلأ بالامتنان حين أسمعهم (يريد الجمهور) يضحكون ويهتفون على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم فامتلأ برضاء يعز مثاله، وأحس اعتزازاً لا أعرف كنهه،.. والآن ماذا بقى؟ ماذا بقى من كل هذا إلا الركام والأطلال؟
وهنالك أمسكت عفاف بيد الضابط تشارلي فساور يوسف عجب قطعته المرأة متطوعة بقولها :
-"لقد أتممنا، أنا وتشارلي، عقد القران، وقد رضي هو بهذا بديلاً عن هدم المقهى..".
وتبعثرت عواطف الشاب بين سرور وألم، فلا عاد وجهه إلا منقسماً بين أمارات العاطفتين المتناقضتين،.. إن محبته للفنون غامرة شديدة تملأ دنياه بهجة وأمل، وأما محبته لعفاف فعلى مثال هذا الحب الذي يوليه لعالم المنصة الخشبية ودنياها المسحورة،.. وقد تجدد أمله في المحبة الأولى بعد يأس وخسر حبه الثاني بعد رجاء، لقد وقع هذا وذاك متزامناً وفي مثل خطف البروق،.. وقالت عفاف له في نشوة لا تعرف التوقف :
- والساعة تؤدي فقرتك فوق المنصة بعد أن أزال الضباط عنها المتفجرات..! وسوف يُفرج عنك في القريب،.. (ثم وهي تنظر إلى قرينها في امتنان فتنطق بإنجليزية متعثرة..) "والشكر، كل الشكر، لتشارلي..".
ودمدم يوسف دمدمة تبعها بقوله :
- لست جاهزاً لإضحاك أحد.
- حقاً؟ ولمَ؟
- ظننتك تتزوجين بي،.. كان خيراً أن يتهدم المقهى فيغدو ذكرى على أن تتزوجي بغيري.. ألست وسيماً طريفاً؟!
- من الوهم أن تتزوج مغنية وراقصة بطفل.
- لست طفلاً !
- أراك في شغب الأطفال ولو اجتزت عتبة المراهقة،.. سيكون اليوم مصيدة لجماعة حسين سليمان (كبير العربجية) !
- وما المقابل؟
- أن تخرج من هنا.
وتنهد يوسف كالذي قبل بالعرض مضطراً وقال :
- وكيف؟
- سوف ترى بنفسك..
خرج يوسف من نقطة الطوبجية والحزن يجري منه مجرى الدماء في عروقها، لقد كانت سماء الأول من يناير مترعة بالنجوم، وقد انبسط الظلام أمامه كأنه الأمواج تشيع في الأفق، وحين اقترب الشاب من مقهى الفنانين فأبصر الأحياء المكدسين بالحي الشعبي إلى جوار الأنوار الباهرة ساورته شفقة على أبناء جلدته، حتى عفاف تبدو جديرة بهذه الشفقة على ما تبديه من رضاء وسرور، فهذا رضاء المضطر وذاك سرور من أعيته السبل، وهل انقلب خلافهما - تشارلي وعفاف - وداً حميماً إلا أن تكون المصلحة الملحة جمعت بينهما في ليل مكفهر سحائبه؟ وألا يعد التواطئ على مناهض الإنجليز حسين سليمان ومن معه ولو كان عربجياً قحاً خيانة من نوع ما؟ إن عفاف ارتضت مصاهرة المحتل حفاظاً على لقمة عيش في مقهى شعبي.. فما أتعس خيارها ! ما أشد خذلانها لقضية الاستقلال والوطنية ! لا ليس الاستقلال ولا الوطنية ولكنه خذلان الحب الذي أولاه لها وإن دأبت على أن تستهين به، أجل.. إن هذا الوصف أهدى من غيره إلى وجه الحقيقة.. وغداً تثوب إلى رشدها فتصير له ويصير لها.. هكذا غدا يمني نفسه دون سند،.. وكيف؟ ألم يفت الأوان بغير رجعة؟ وهل غدت زفتهما الموعودة من بوابة القمر وحتى بوابة الشمس إلا نادرة كالحلم؟.. ولقد يلتمس لها الأعذار إذا كان أبوه بهاء الدين يصر على زواج أخته بأصدقاء الإنجليز أيضاً،.. أليس الجميع غارق في عين الحمأة؟ وأضنته الخواطر حتى استسلم لما هو واقع استسلام السفن لمصيرها في البحر ذي الموج الجارف.. وصعد إلى المنصة فتبدل حاله بعض تبديل بتأثير الوقوف أمام الحشود التي تمنحه جذوة نشاط، يقول :
- انظروا إلى هذا الوجه الوسيم؟ (يريد وجهه) إن أجمل العذارى في بلادنا كان يتحتم عليهن أن يشغفن بهذا الوجه حباً؟
وابتسمت عفاف فتابع :
- ماذا تريد النساء في هذا العالم؟
وتنفس المقهى بالحياة بعد أن كاد على شفا الدمار، وتلألأ كالأثر النفيس يكتشف بعد فقدان، فغمرت الوجوه ابتسامات، وصبت الكؤوس، وتبودلت الأحاديث، وسأل يوسف الحضور عن أمنياتهم بالعالم الجديد، فأجاب أولهم :
- أتمنى أن أحظى برحلة لصيد البط كالتي ينعم بها جلالة الملك ولكن أن أعود منها سالماً !
وقال ثانيهم، (وكان النحاس باشا قد تولى حينئذٍ زمام رئاسة الوزارء مرات ستة في مناسبات متفرقة) :
- أتمنى أن أعيش اليوم الذي يستريح فيه النحاس باشا من عناء الوزارة!
وهنالك دلف حسين سليمان ومن معه فطوقه الضباط الإنجليز وانهالوا على جماعته ضرباً وصفعاً، وقال يوسف للجمهور في صوت خفيض متأثراً بالمشهد الذي يدور :
- وأما أنا فأتمنى أن أشهد في العام الجديد يوم جلاء الإنجليز عن القطر المصري !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
كان بهاء الدين منتشياً برؤية ابنته ماثلة في منصة العرس رغم هذا الوجوم الذي ضرب على وجهها وانتقل أثره إلى جوراحها وشعورها، وشخص إلى صورتها الرافلة في فستانها النحيف المصنوع من الحرير، إنه ذو خطوط عنق عالية وأكمام طويلة، بسيط كل البساطة، وقد اشتهر طوال الثلاثينيات واستمر إلى ما بعدها كآخر صيحات الأزياء العالمية - شخص إليها مسروراً مغتبطاً، لقد أطاعت الفتاة أمره وقد خلبت هذه الطاعة لبه فكأنما أعجزه هذا الشعور - لما فيه من الكفاية والرضاء - عن النفاذ إلى أعماق بواطنها فاكتفى بذاك الظاهر المحبب منها دون سبر، إنه لا يريد أن يسلمها لرجل آخر ولكنه الناموس والضرورة، وإذا كانت السعة والوفرة - أو حتى الكفاية - حالته لاحتفظ بها دوماً أو لعله أرجأ زواجها إلى حين تنتهي الحرب وتستقر الأوضاع، هكذا جعل يعزي نفسه،.. وتمتم :
- ولتحفظها عناية السماوات في هذه الليلة، وفي الغد، وحتى نهاية الأجل! ما أشبه الأعراس السعيدة في أوقات الحروب إلى الزهور الجميلة في القفار !
وكانت فاطمة تقول له في همس :
- ألا يبدو فتحي غريباً في بذلته الأرجوانية؟
وأجابها منكراً عليها مقالتها :
- إن الرجال يبدون غرباءً وقلقين على الدوام في أعراسهم.
وجيء بالأطفال يحملون الشموع في براءة ملائكية، ورشت الأيادي ماء الورد على جانبي سبيل كان يخطوه العروسان كأنما تُجلله بحياة منعشة، وتساءل بهاء الدين تساؤلاً عابراً :
- وأين يوسف؟ ولمَ تأخر؟
ولم يكد يتم سؤاله حتى سادت جلبة في الأرجاء لم يتفهم الأبوان باعثها، وألَجَّ الحضور، وسمعا صوتاً يقول :
- أفسحوا السبيل،.. أفسحوا السبيل !
كان صهيل الحصان الضخم أسبق من غيره من لوازم تقترن بحضور الفتوة المخيف، وما إن ظهر النيجرو وزمرته في مشهد الاحتفال العام حتى تصدى سلامة الغلأ له وجماعته وقد أذعنت زفات كرموز - آنذاك - لحماية الأخير، وسرعان ما حلقت الكراسي فوق الرؤوس، وانقلبت الدكك رأساً على عقب، وتحول الحفل إلى معركة مخيفة تشج فيها الجباه، وتبقر البطون، وهرب فتحي العطار من منصة زفافه لائذاً بالفرار فلم يعثر له، يومذاك، على أثر، وأما أبوه عيسى فسرعان ما استغاث بمجيء شرطة الإنجليز طلباً للحماية، وجعلت فاطمة تردد آي القرآن كأنما تريد أن تتجشم وقع هذا التحول الذي طرأ على العرس السعيد فأحاله إلى بؤرة صراع دامية لفتوات الحي، وكان بهاء الدين يرقب من وراء حشود المتصارعين حركة ابنته التي اقترب منها النيجرو وسط هذا الاضطراب العام فحملها (النيجرو) إلى حيث انطلق بها فوق حصانه مبتعداً من نطاق العرس، وظل الأب يتعقب مسير الحصان مسترشداً بصهيل يسمعه هنا وهناك، ووقع سنابك لا تخطئه أذنه القلقة، وكانت عيون الحي (كرموز) ساهرة لا تنام تصل النهار إلى الليل،.. وانتهى مسيره إلى خرائب كان يربض فيها النيجرو فيستريح ويلتقط أنفاسه، وظل يرقبه حتى ترجل عن حصانه وبعده الفتاة وسأله:
- ماذا تريد من الفتاة أيهذا المجرم اللعين؟
واقترب النيجرو منه يقول :
- أريد أن أخلصها من مصير تريد أنت أن تورطها فيه.
وهنالك غضب بهاء الدين فأحمرت وجنتاه :
- ويحك ! أتكون أرحم بها من أبيها؟ لقد أفسدت للتو عرسها.
- إن إفساد عرس خير من إفساد حياة.
والتفت النيجرو إلى صابرين التي كانت صامتة ذاهلة كأن الطير على رأسها، فقال لها :
- ولمَ لا تتحدثين إليه؟
وقالت في انفعال كأنما هي حمم البركان حين ينفجر في ساعة ثورة :
- اليوم ساقني أبي إلى زيجة أكرهها، والساعة قادني الفتوة مجبرة إلى هنا.. ما أبغض الخضوع والإذعان ! وما أحقر نفوس لا تعرف غير التسلط !
وتساءل بهاء الدين في صوت يقطر أبوة :
- وهل تساوين بيني وبين الفتوة الأرعن؟
وهبت زوبعة هواء وتمخض العصف عن ثورة الغبار، فقالت وهي تعدو :
- فليتركني الجميع وشأني.
وظل الرجلان يرقبان غيابها وراء الغبار دون أن يتحرك منهم ساكن، فلما خلا اجتماعهما منها قال بهاء الدين للنيجرو :
- لماذا لا تجهز عليَّ إذن أيها القاتل؟
وأكال الأب عبارات السباب تجاه محدثه ثم بدأ يستمطر اللعنات عساه أن يستثيره، ولزم النيجرو الحياد بينما شرع يمتطي الحصان مبتعداً من بهاء الدين وسالكاً سبيلاً آخر غير هذا الذي سارت فيه الفتاة،.. وعاد بهاء الدين إلى العرس الذي كانت شرطة الإنجليز قد أمسكت بزمامه فحجّمت انفلاته وقومت شططه كأنما هو هدوء الإعصار، وسألته فاطمة في أمومة ملتاعة :
- وأين صابرين؟ وهل عثرت لها على أثر؟ إن الشهود يقولون بأن الفتوة النيجرو اختطفها..
وأجابها قولاً واحداً جعل يكرره :
- ستكون بخير ! ستكون بخير !
وتأخرت عودة الفتاة - طوال مدة هذا اليوم - فكثر القيل والقال، وأمست قصة العرس المنقلب أحدوثة القاصي والداني يلوكها العوام في أزقة كوم الشقافة وشوارع غيط العنب وحارات باب سدرة تندراً أو اعتباراً، يقولون في الخواتيم : "وعليه، تفرق العروسان، فغاب فتحي هرباً من الإنجليز، ولم ترَ صابرين في ديارها منذئذٍ.."، ومكث بهاء الدين يعاتب نفسه ويتذكر عبارات الفتاة تدق في رأسه كالناقوس المزعج :"ما أبغض الخضوع والإذعان ! وما أحقر نفوس لا تعرف غير التسلط !" فيرتد إلى حزن وأسى،.. كيف طاوعته نفسه أن يلزمها اقتراف ما لا تحب؟ وانظر ما صنعتُه بهذا العنت وما جنيتُه بهذا الصلف ! إن شظف العيش واكتفاءً راضياً بلقيمات تقيم أوده وأود ذويه كان أهون عليه من عاقبة كتلك، وإن محضر الفتاة صار عنده أثمن من صداقة الإنجليز ومن أحلام الرئاسة أو الثراء المتوهمة، لقد دقت التجارب على رأسه طبولاً ولكن ما أقسى هاتيك التجربة وما أتعس فصولها الجارحة ! لقد جر على نفسه إثماً عظيماً وغدا في حجرته - كالمنبوذين - وحيداً، كان يحس نفسه كمثل آدم في خطيئته فود لو أمكنه أن يخصف بأوراق من الشجر على عراء نفسه وشعوره، أو أن ينكص عن رغبته الملحة في ابتغاء الثمرة المحرمة.. وأشرق الفجر وتبدى وجه النهار والرجل بين تدبر ودعاء، وما يزال على حاله - تتصاعد في ذاته تيارات الهواجس حتى تصل إلى ذروتها كالكريشندو - حتى طُرق الباب فاهتاجت دواخل النفوس وجمحت في انتظار الفرج، وفتح بهاء الدين الباب فألفى يوسف - وكان الفتى قد سخّر ساعات الليل المتأخرة في البحث عن أخته - يقول بينما تجلل وجهه أشعة النهار الأولى كأنها ثريات من الذهب :
- رأيتها (يريد صابرين)،.. رأيتها لدى مسجد أبي الدراداء، وقد قالت لي بأنها توفي ديناً للإمام الراقد هناك.
وأثلج صدر بهاء الدين فاحتضن ابنه يوسف احتضاناً وانبرى يقبله، وقال متأثراً :
- كنت أعرف أن منفعة عظيمة ستأتي بها يوماً !
وأجاب يوسف في تعالٍ زائف يتصنع تواضعاً :
- أجل، إن هذا شأن الرجال العظام كلهم،.. يستجلبون الآمال في أوقات احتدام اليأس وانقطاع الرجاء.
ولم تمضِ إلا دقائق حتى لحقت به صابرين فكان وجهها أبيض في لون المرمر، وأما عيناها فساهمتان، راضيتان مع هذا، كانت الفتاة على هذه الحالة حين دلفت- كالمنيبة - إلى بيتها وقالت فاطمة وهي تلحظ هذا منها :
- إنها لم تأكل شيئاً منذ أمس.
وقال بهاء الدين في نبرة اعتذارية :
- إني أسألكِ، وأسألكم، الغفران !
وأجابت الفتاة أباها إلى طلبه مومئة برأسها إيماءة واهنة، قالت وهي تتلقف الخبز والجبن من فاطمة :
- وهل جرى لفتحي مكروه؟ أو لأبيه عيسى؟
وأجابها يوسف في شغب :
- لقد فر الأول (فتحي) فراراً لا يقدم عليه إلا كل رعديد معدوم الشجاعة ! وأما الثاني (عيسى).. فاحتمى بالإنجليز.
وقالت فاطمة وقد جلست تواسي ابنتها :
- لقد كان خيراً أن تنكشف طباعهم هذه ساعة المحنة قبل أن نتورط فيما لا رجوع فيه،.. ووراء كل نائبة تكمن عبرة ما.
وشربت الفتاة من كوب ماء رشفة أو رشفتين فقالت :
- رأيت الفتوة النيجرو، لقد حملني بعيداً من نطاق الأذى..
وبدا الحديث جديداً بالنسبة إلى يوسف وهدى وفاطمة (خلافاً لبهاء الدين)،.. وهنا تدخل يوسف كمن بعثر إثارة السرد في رمية :
- هل صحيح أن له قوة خارقة كالجبال ومعجزات يأتي بها؟ وهل أن لجلده ملمساً كجلودنا؟
وتابعت صابرين غير آبهة بحديث أخيها :
- لقد صارحني بمحبة يضمرها لي على حين كنا نهرب على ظهر الحصان من أتون المعمعة.
وأبدى بهاء الدين اعتراضه فقال :
- كيف طَوَّعَت له نفسه هذا؟ وهل جن جنونه؟ أم تراه قد مالت به الأرض؟
وسمعت الحضور نداءً يترامى من الشارع، وهرع يوسف - لخفته - قبل الجميع إلى شرفة البيت ليبصر المشهد بعينين محققتين فاحصتين، على أن النداء كان من القوة بحيث سمعه من في الداخل أيضاً، كان الفتوة النيجرو يجوب الحارات في موكب الانتصار وحوله نفر من أتباعه يهتفون :
- "اليوم، الأول من يناير من العام الجديد (1943م) نعلن انتصار الفتوة النيجرو وأشياعه على الفتوة سلامة الغلأ وأتباعه.. فهل من متحدٍ؟".
واشتد الهتاف حين اقترب من بيت العائلة المجتمعة :
-"وعليه تكون كوم الشقافة، وغيط العنب، وجبل ناعسة، والكارة، وباب سدرة، خاضعة له..".
وعاد يوسف إلى أهليه بالداخل يصور لهم طرفاً مما قد رأى، فأمسك بالكرسي وقلبه كأنه الحصان، قال في خيال خصب :
- رأيته يمشي هكذا.. بعينين - كالجنيات - يقدح منها الشرر ! (ثم وهو ينهض من كرسيه المقلوب..) كان الناس يصفقون لهم من النوافذ إذ ذاقوا الأمرين من عهد جثم فيه سلامة الغلأ، ومن شاكله، على أنفاسهم.
وعاد يوسف إلى حيث مشهد الشارع والموكب السائر، وكانت صابرين قد لحقت بأخيها يوسف فاستشرفت هذا الذي يدور، ولحق بها البقية تباعاً، وحضر قيامهم، والتقت عيناها المتطلعتان بعيني النيجرو فتبادلا نظرات في صمت عميق مسترسل حتى رد طرفه،.. لقد أنقذها الرجل من مأزق الزواج ولكنه اختار شر الوسائل لتحقيق مأربه هذا، ولعله أراد بالأمر إثباتاً لسطوة وإرجاعاً لهيبة لا عوناً لها، ولو كان على حظ من اللطف قليل أو كثير لعدته رسولاً منقذاً،.. ألا تستحق الزهرات الجميلة أناملاً أرق لالتقاطها؟ وأي شيء ينضح به وجهه - ولو كان في موكب نصر - إلا القسوة المفرطة التي تشربها طويلاً في ربوع العنف؟ أجل، إنه دميم تعس.. وفزعت الفتاة - كأنما فطنت إلى حقيقته بعد غفلة عارضة - فعادت منتفضة إلى حيث كانت، وعاد في إثرها الأهل، فقال بهاء الدين في شطط الغاضبين :
- إن الفتوات عادوا يتنادون للمبارزة،.. كأن كل ما جرى لا يكفيهم !
وقالت فاطمة في استبصار :
- إنهم ليسوا سوى صعاليك أشقياء ولو وجدوا من يردعهم للزموا جحورهم،.. وأما إذا اكتملت الأداة الحكومية واستكملت مقوماتها لاختفوا كالأشباح أو كالبخار..
وقال بهاء الدين كالذي تعلق وجدانه بأمل بعيد :
- يتطلب هذا التخلص من آثار الاستعمار أولاً لأنه ذريعتهم الواهية في حماية الأهالي،.. ولو لاح ظل زكي طبيلي لرأيتهم في كل زقاق يفرون.
وقالت هدى في نفور يتضاءل له أنفها :
- لقد سرت في جسدي قشعريرة الخوف والازدراء منهم،.. لعن الله المباهين أينما حلوا أو ارتحلوا !
ولاحظ بهاء الدين وجوم صابرين وعدم مشاركتها في حديثهم فقال وهو يحول رأسه إليها :
- وأنت.. ما رأيك فيهم؟
وقالت الفتاة ناعسة الجفنين :
- أعتقد أنني بحاجة إلى النوم،.. الآن !