في سبيلها إلى حي الإبراهيمية ركبت هدى الحنطور، تطالعها بنايات الحي القصيرة كالوجوه الصامتة، إنها دون بنايات كرموز طولاً غير أنها أبهى مظهراً، لا جذور تطاردها هنا، لا ذكرى، لا عذابات.. وتعود تتأمل مشهد السحائب العالية فتتذكر صور القنابل المخيفة ذات الآثار المرعبة وتحني هامتها المجللة بشعرها الفاحم الطويل، ثم ما تفتأ تندمج وسط هذا الغنى الثقافي للحي الجديد كالتائهة في الميدان الكبير، فوق كرسي الحنطور الخلفي ترى الأشياء تمر وتتملكها قناعة بالحال الذي لا يدوم.. والأطفال بالمدرسة الإبتدائية رفاقها الذين تتلهى بهم عن نفسها وتتسلى بحضورهم عن أحزانها، أجل.. إنها تغدو بينهم طفلة من طراز طريف ولشد ما باتت تتلهف إلى لُقياهم في حصص الدرس تشوق الحبيب إلى الحبيب ! فلتبتعد من هذا الماضي الجاثم إذن ولتحفل بالحياة الحقة بالإبراهيمية، وأتاها خاطر - بينما تهتز بها عربة الحنطور فوق حصوات الأرض - يقول : "ألا يكون عبد الغني أهنأ بالاً لو أنها تناسته ولو إلى حين.. بلى.. وقد نسيها الشاب بعض نسيان فالتجأ - هكذا روى لها في رسائله غير مرة - إلى ملهيات كثر كتطويع الجريد وجني البلح وحتى تشييع الجنائز في منفاه الاختياري.. فلمَ لا تنساه؟".
إنها تنغمس - رفقة أطفال المدرسة - في معين البراءة وتستزيد من مائه الطهور، وحين تنضح الأشياء بالجدية المفرطة تتألق البراءة النقية كوجه الفجر، وقد يكون التخلي ملاذاً عند المبتلين وخلاصاً لدى من أعيتهم السبل.. وقالت (هدى) للتلاميذ بالمدرسة الإبتدائية في درس القراءة :
- وقد ترتب على ذلك أنه عند مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر كانت الإسكندرية قد استحالت إلى مدينة صغيرة يبلغ عدد سكانها زهاء ثمانية آلاف نسمة، (ثم كالتي تتمثل شيئاً في خيالها..) عمرانها متهدم، وبيوتها أشبه ببيوت القرى، وشوارعها ضيقة كثيرة التعاريج، ومعظم سكانها فقراء - ولم يبقِ من الإسكندرية القديمة سوى الاسم والأطلال الدارسة!
ورفعت تلميذة يدها فتساءلت بينما يجلل وجهها أشعة تتسلل من نافذة الفصل :
- وما الفارق بين نابليون وحملته الفرنسية وبين الإنجليز واحتلالهم؟
- إن كلاهما آثم في رغبته بامتلاك ما ليس له، وإن أتيا بأشياء يُنتفع بها، (ثم كالتي تفرق بين أمرين متقاربين..) ولكن يبقى أن نابليون واجه الشعب آتياً من طريق البحر في جهار النهار وانتصر انتصاراً لا سبيل إلى التشكيك فيه، علاوة على أنه ما عمد - مثلما يفعل الإنجليز اليوم - إلى إخضاعه من طريق غارات الليل التي هي ديدن الجبناء والرعاديد ! ومهما يكن،.. فإن على الأمة المصرية واجب أن تأخذ بأسباب المدنية الغربية حتى لا يعود المحتل الأجنبي، اليوم وغداً، يطرق بابها ويستبد بشعبها ثم يفرق بين أهليها.
وواصلت في شيء من فخار من يروي فصولاً لماضٍ يراه تليداً :
- وكتب نابليون لحكومة الإدارة :"هذه الأمة تختلف كل الاختلاف عن الفكرة التي أخذناها عنها من رحالتنا، إنها أمة هادئة باسلة، معتزة بنفسها،.. إن كل بيت كان بمثابة قلعة."، وفي هذا المعنى كتب أخوه في خطاب إلى جوزيف بونابرت :" إن في الشعب (شعب الإسكندرية) رباطة جأش مدهشة، فلا شيء يهزّهم، وليس الموت عندهم أكثر من رحلة عبر المحيط لدى الرجل الإنجليزي، أما طلعتهم فمهيبة، وإذا قارنا طلعتنا، حتى أقواها وأبرزها ملامح، بطلعتهم، فإنها سوف تبدو كطلعة أطفال.."، ويضح أن المشكل هنا يكمن في التخلف الذي أورثنا إياه العثمانيون لا في المعدن الذي جبلنا نحن عليه وقتها، لأن فيه، أي في معدننا، ووفقاً لمرويات الأجانب، خيراً جماً.
ثم وهي تجوب جنبات الفصل :
- ولم يعجب الفرنسيون بمظهر نساء الطبقة الدنيا آنذاك اللاتي كن يرتدين جلباباً واحداً، أزرق في العادة، ويسرن حافيات الأقدام، ويطلخهن حواجبهن بالكحل، وأظافرهن بالحناء !
ودلف إلى الفصل مدير المدرسة الأستاذ فضيل - تتقدمه منشة عاجية من ريش النعام - دون أن تدري الفتاة وكان يتسمع لحديثها الأخير فغمغم:" ولا ريب أن الفرنسيين لم يروا مثيلها (يريد هدى) يوم أن جاءوا.."، وخلع المدير طربوشه فكشف عن رأس أصلع ناعم الشعر لدى الجنبين مع هذا، وأسلم الطربوش للطاولة واقفاً بينما اهتزت حزمته المتدلاة بتأثير رياح البحر المتوسط التي يطل عليها الحي والمدرسة فتزمجر زوابعها وتثور، ثم تهتز لها صورة الجمادات والأحياء، وقد صاحب مقدمه (المدير) مجيء صندوق من الحلوى محمولاً على أذرع رجلين، وقال المدير للتلاميذ :
- إن هذه الحلوى جئنا لكم بها بمناسبة اقتراب انتصار الحلفاء في الحرب الكبرى ! واقتراب انتهاء الحرب جملة..
ولم تبدِ هدى سروراً كبيراً بالخبر الذي كانت تعرفه وإن جعلت توزع - رفقة الرجلين - الحلوى على الأطفال بخطى رشيقة كأنما تنشد رضاءهم في أهون الأشياء، واسترق فضيل - وبينما الحال هذه - إليها النظرات فانتابته سكرة اضطربت لها حواسه، وحل في نفسه إعجاب نهم، وحاول الرجل أن يبادئها الحديث، مفتعلاً انفعالاً، بقوله :
- ولا يجب أن نجيء على ذكر الإنجليز بسوء وقد انتهت الحرب لصالحهم، أو كادت.. ما يعني أن بقاءهم في بلادنا مستمر ونفوذهم لا يزال فاعلاً وعيونهم نشطة في كل نحو !
وتركت توزيع الحلوى حيناً، وقالت بينما تتقدم إليه خطوات :
- ما أعرفه أن مصير الحرب لا يزال معلقاً.
- إن الرهان على الحلفاء الساعة يشبه الرهان على حصان مكسور قدمه في سباق،.. لقد انقلبت الأمور على عقبيها بعد ستالينغراد، وكتب الله قبل ذاك للإنجليز معجزة النجاة في انسحاب دونكيرك.
- ثمة مفاجآت لا نعرفها.
- لقد وقعت المفجآت فعلاً.
وحرك هذه المنشة العاجية حركة قطرية يهش بها أمام وجهه، يقول :
- هل تحبين الألمان؟ إنهم قوم عنصريون..
- بل أكره الأنجليز،.. ولا أهتم بالسياسة ولا بالحرب إلا في حدود هذا (تشير إلى كتاب المنهاج المقرر..).
- أخشى أنك تخرجين بهذا عن المقرر، إننا في مؤسسة يديرها الإنجليز!
وصمتت فقال كالمستدرك :
- ومهما يكن فمن الجيد أن يكون المرء معتزاً بوطنه على النحو الذي تعرضيه.
وقالت :
- من الأولى أن يجد المرء وطناً جديراً بالاعتزاز به فعلاً.
ورن الجرس فعلا صخب وهرج وتفرق التلاميذ ومن ورائهم هدى على حين رمقها فضيل بنظرة إعجاب أخيرة، واختلجت في نفسه مشاعر جامحة شديدة بدا أنها شرعت تتوارى بمجرد حركته ماسكاً عصاه بعيداً منها، وانقضى الدوام المدرسي فوقفت تنتظر الترام الأزرق الشهير الذي يخترق الحي - فيأتيها على مهل، وكانت تجتهد في أن تجد سبيلاً يصل بها إلى موقف الترام بين حارات الإبراهيمية الضيقة وبيوته المتلاصقة، وعادت إلى حيث استقبلتها صابرين تقول في شيء من الحيرة :
- إن هذا جواب قد أتانا من عبد الغني !
وفطنت إلى ما وراء هاتيك الحيرة من نذير شؤم أسلمها للهفة متعجلة، فقضبت على الجواب وجعلت تقرأه وحيدة بين جدران صماء :" إن هذه رسالة أبعث بها إليك بعد توقف دام أسبوعاً، وأشهد أن وراء هذا التوقف الأمر المهم الذي يبرره، والشأن الجلل الذي يسيغه، ومهما يكن.. فيبدو أن البعوض الناقل لعدوى الملاريا قد وجد سبيلاً ما إلى دار عم سعيد حيث كنا، وقبلئذٍ، نقيم في وئام شامل مع طبيعة الجنوب،.. وإذا كانت الأمطار من دلائل الخيرات في دنيانا فإنها - ومن الوجه المناقض - المناخ الذي يكثر فيه نشاط البعوض.. وقد شهدت أيامنا الأخيرة مطراً كثيفاً، إنها بعوضة "الجامبيا"، على التحديد، وقد نقلها من أفريقيا جنود سلاح الطيران البريطاني، وجنود الفرق الإفريقية الإمبراطورية.
وقد أصيب من جراء هذا أبي عز الدين بالداء في يوم لم تطلع فيه شمس، فأظلمت الجوارح وخمدت الهمم وأساء الناس الظنون، وإذا هي إرادة الله، في الأول وفي الآخر، فلا اعتراض نبديه على ما قد وقع فوق التماس الحكمة الغائبة الخافية، وطلب الغفران على آثام لا نعلمها.. وآية هذا أن أحس (عز الدين) ليلة أمس إعياءً شديداً صاحبه ارتفاع في درجة الحرارة طارئ، وكذا قشعريرة مصحوبة برجفة، وهي الأعراض ذاتها التي نسمع عنها لدى المصابين بالملاريا في مركز أبي تيج وفي غيره بأسيوط، وقد صحبته في رحلة العناء هذه، منفطر الفؤاد، أهمس في أذنه بما يثبته ويعينه على احتمال الخطب.. وأذكر أنني لعنت الملك فاروق ووزارة النحاس باشا والإنجليز في ساعة واحدة فلم أكد أهدأ إلا بهذا، وبت أتساءل : أين السلام الذي بحثنا عنه هنا وهربنا من الإسكندرية لأجله؟ وقد سألته على فراش مرضه :
- ألا يكون خيراً لو أقريت بخطئك يوم أصررت على هجرتك من الإسكندرية؟
ومن المعروف أن بؤرة انتشار المرض في جنوب الصحراء الكبرى ونحوها لا تبلغ حدود الإسكندرية،.. وأجابني، لاهثاً، بأبيات من الشعر قديمة لم يذكر لي صاحبها، وإن كنت عرفت لاحقاً أنها لعنترة :
- "واختَرْ لِنَفْسِكَ منْزلاً تعْلو به... أَوْ مُتْ كريماً تَحْتَ ظلِّ القَسْطَل فالموتُ لا يُنْجيكَ منْ آفاتِهِ.. حصنٌ ولو شيدتهُ بالجندل"
وقد أتبع أبياته ذات المعنى قولاً - كهذيان المحمومين - لم أستوضحه على ما أورثني من الأسى، وإذا حلت بالفتى نائبة فخير له أن يصبر، ولتنزوِ الشكايات إلى الأبد في ركن الرجاء، ولنرجُ مع هذا أن تبزغ شمس المعجزات..".
وأمعنت في رسالته التفكير على ما أورثها طول التدبر من الأسف، وطافت بها أسراب الخيال بين الإبراهيمة وكرموز وأبي تيج كالطير المحلق في الأفق يزور الأغصان، وأحبت حياة الصبيحة بالإبراهيمية وأضنتها حياة كرموز وأبي تيج - التي كانت تتعرف على أحوالها من رسائل عبد الغني - فما عادت تعاشر مغيب الشمس ومجيء الليل إلا معاشرة المنتظر للإشراق وللصبح،.. ولم تمضِ إلا دقائق حتى دلفت فاطمة ومعها صابرين إلى حجرتها وقد بدا على وجه المرأتين أمارات تشي بالتأثر، لعلمهما بالأمر، وكانت صابرين تسارع متخفية إلى قراءة هاتيك الرسائل قبل أختها وتنزل ما فيها من عبارات الود وحراراة الحب على هشام عزمي،.. وقالت فاطمة في استشراف :
- والواجب يقتضي أن نخفي الخبر عن بهاء الدين ! لقد كان الأخوان كهذين (تشير إلى بنصرها ووسطاها) !
وقالت صابرين وفي نيتها رغبة في أن يتأجل عرسها إلى فتحي العطار :
- ألا يكون أجدر به أن يعرف محنة أخيه؟
وأجابت فاطمة في حكمة المرأة الكبيرة :
- وماذا يجني من وراء هذا إلا الحسرات؟ إن الجنود يمنعون الداخلين إلى القرى المصابة بالملاريا وكذا الخارجين منها، وأخشى أن تورثه اللهفة رغبة في زيارة أخيه تنتهي بما لا يحمد عقباه.
وتساءلت هدى في رجاء :
- وما عساه يكون الدواء؟
وقالت فاطمة :
- الأرجح أنه العشب والأدوية المستخرجة من شجرة الكينيا ما يستخدم في تطبيبه، الأفسنتين كذلك، إنه الجنية الخضراء.. إن الداء وحتى عصر اليوم عصي على الطب المعاصر!
وقالت هدى :
- مسكين عبد الغني لا ريب أنه على قلق دائب، وما أقرب العدوى إليه !
وقالت فاطمة كأنما تنكر عليها أمراً :
- واخجلتاه.. وهل تخشين عليه فوق خوفك على أبيه المصاب؟
وتولى هدى خجل فنهضت تستشرف الليل الغارق في ظلمة خرساء، فقالت صابرين لأمها :
- أولا يوجد في الصعيد مشفى واحد للحميات؟
وأجابت فاطمة بعد جلوسها، وكانت لآلام عظامها لا تجلس إلا مادة ساقيها من أمامها في حال ارتخاء :
- أعرف أن مشفاً للحميات قد تأسس على عهد فؤاد تبرع بقيمته أهل الصعيد بما يقدر، آنذاك، بنحو مائة ألف جنيه !
وقالت هدى وهي تدير رأسها عن ظلمة الليل إلى الداخل المنير :
- كان يجب أن يبقيا هنا !
وقالت فاطمة :
- ولا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب ! إنه القضاء لايعرف إلا النفاذ.
وعادت هدى بينهم تتذكر شيئاً كتبه عبد الغني لها في رسائله :
- كانوا يجففون المستنقعات، ويستخدمون الناموسيات، ويضعون فوق كل حفرة غطاءً، ولكن لا جدوى من هاتيك الإجراءات الاحترازية.. والأمل؟ أين الأمل؟ إني لا أكاد أرى ظله يلوح في دنيانا !
ولم تكد تتم كلمتها حتى علا صوت انفجار هائل، واكتست الدياجي بحمرة ذات لهيب، وخرج الناس في شوارع كرموز يهتفون :
- إنه صائد الطائرات وقد أصاب واحدة جديدة !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
أقام النيجرو عامه الفائت في بيت الفتوة النونو هرباً من ضباط الطوبجية، ولم يهنأ الرجل بحياة الاختفاء والانزواء بعد عقود من السطوة والزهو، كان يحدث أن يجيء الإنجليز ومعهم المؤن وقُفف البلح والتفاح إلى النونو فيتوارى عنهم اتقاءً لأذاهم، إنه يكاد - لولا تهيب العواقب - يفتك بهم مندفعاً في خيالات حمراء ملأى بالوحشية، ثم تعود تفتر همته ويتساءل عما جد بنفسه من تسليم للمحاذير : فمنذ متى والرجل يعمل حساب مآلات معاركه؟ وأي مسلك هذا جديد عليه غريب عنه؟ وكان يكره من النونو تعامله مع المحتل لولا أن حاجته إليه كانت تمنعه من الإفصاح عما يضمره نحوه حقاً من شعور، ولو كان بعبع الاحتلال الإنجليزي - حقاً وصدقاً - فلم يقبل بمؤنهم وعتادهم؟ صحيح أن الرجل يوزع شطراً منها على فقراء الأحياء الشعبية ويحتفظ لنفسه بجزء ولكن ألا يزال في مسلكه مما يصح أن يثير الريبة ويحمل على التساؤل؟.. ثم يحدث أن يأتيه صوت الماضي في كوم الشقافة وذكريات صباه فتنتابه سكينة عارضة - حيث كان يسأل أبوه :
- ولماذا سميت كوم الشقافة بهذا الاسم؟
ويجيب الأب، وكان إلى حاله من الطول وفراعة القامة أقرب :
- لأن فيها "الفواخرجية" وأولئك اشتهروا برمي بقايا أوانيهم الفخارية هناك فكونت ما يشبه التل أو الكوم، وأما الشقافة فهو الاسم العربي الذي عرفت به المنطقة !
ويعود يتذكر زجره له حين كان يتخلف عن المدرسة بعين الندم، ألا يكون أقرب إلى صابرين لو أنه ألزم نفسه اتباع هذا السبيل؟ وجاءه النونو بعد - فروغه من محاورة الإنجليز - يقول :
- ويوم الخميس تقام زفة صابرين إلى فتحي بن شيخ الحارة !
وانقبض النيجرو لسماع الخبر فكأنما هي الصاعقة نزلت به، وكان الفتوة لا يرضى إلا يكون صاحب الكلمة فيعترف له أهل الحي بهاتيك المكانة، فإذا أقيم فرح أو نصب مهرجان أو مشت في الطريق زفة عروس أو موكب مطّاهر فلا يكون إلا بعد استئذانه والإذعان لحمايته، علاوة - وهو الأهم - على أن عاطفةً ما كانت تحركه (النيجرو) نحو الفتاة (صابرين) منذ يوم أعاد فيه إليها حقيبتها من اللص - لم يفسرها تمام التفسير، كأنه الجهل الساحر أمام النقوش الفرعونية الغامضة، أو القلق الشغوف أمام الكنز المدفون في الأعماق السحيقة.. وقال :
- وكيف يتجرؤون على هذا دون إخباري؟
وأجابه النونو :
- وكيف يطلبون منك الحماية وقد مر ما يناهز العام دون أن يبصروا خيالاً لك في حيّهم؟ وقد أمسى كرموز واقعاً تحت سيطرة سلامة الغلأ بعد أن عدم من منافس له، هكذا أفضت شجارات النهار.. إنهم يقولون - في خلسة وخفاء - إن هذا العرس جاء على غير هوى الفتاة التي كانت تتطلع إلى عريس غير عريسها.
ولمٍ تمضِ إلا ثوانٍ حتى هرع النيجرو إلى حصانه الضخم فقبض زمامه متلهفاً كأنما أورثه الخوف دافعاً بعد نكوص، ووضع على وجهه لثاماً وتنكر في زي أعرابيين فلا عاد يعرفه المشاة الذين أنستهم مدة العام أمره وأبعدت من خيالهم احتمال حضوره، ووقف أمام باب بيت بهاء الدين يتصيد فرصة خروج الفتاة منه، وآن المغيب وكاد اليأس ينخر إرداته النشطة لولا أن سمع أصداءً لصوتها - كالغمغمة - تقول لفاطمة :
- إنها المحاضرة المسائية !
وهبطت الفتاة على عجل فاختار النيجرو لنفسه موقعاً إلى جوار الباب لا تراه فيه، حتى إذا مرت منه (الباب) انطلق وراءها متعقباً، وحدست الفتاة أمراً، وكانت - كدأبها - تدعي حضور المحاضرة المسائية المتوهمة لتتخذ من زعمها هذا فرصة تلتقي فيها بهشام عزمي، وعليه فكانت كثيرة الالتفات والقلق، وأما روحها فمنبت للهواجس والمظان، وأحست بالرجل رقيباً عليها فجعلت تهرع بعيداً منه كشأن المرء يفر من مصير يخشاه، وسرعان ما استحالت الهرولة ركضاً وعدواً بين بائعي الليمون واليوستفندي، وغابت الفتاة في زقاق من الأزقة وإن لم يخفِ عن الفتوة حركتها فاتبع سيره، وعرجت إلى اليمين بعد أن دخلت الزقاق فوقف الفتوة يسأل المشاة عن أمرها فأجابوه بعد أن فطنوا إلى ما وراء الصوت من حقيقته المخيفة، وما يزال على حاله حتى أطبق عليها الخناق واحتجزها بيديه فأماط عن وجهه اللثام، وقالت في خوف جم :
- أأنت مبعوث من طرف أبي؟
ولم يجبها الفتوة إلى سؤالها، وسألها سؤلاً :
- ألا تريدين زواجاً بفتحي العطار حقاً كما يقول الناس؟
وحنت هاماتها في ذعر فلما اطمأن الرجل إلى إيماءة رأسها تركها تمضي إلى حال سبيلها، وبات يرقب هرولتها وهي تبكي بينما يسترد أنفاسه المتعاقبة، والتفت إلى الناس الذين راحوا يتجمهرون صائحاً صياحاً شديداً :
- علام تنظرون؟!
وعادوا من فورهم إلى أشغالهم بعد أن اخترقت صيحته أغوارهم، وطفق بعضهم يتهامسون فوق الأسطح ويتبادلون حديثاً من النوافذ :
- لقد عاد أبو الأحمدات.. النيجرو !
وكان الحصان الضخم يتعقب حركة صاحبه في إخلاص فجاءه بالزقاق على مهل، ونظر إليه النيجرو يقول من واقع النسيان الذي عاشره في كرموز قبل أن يعود يتذكره الناس :
- وما أشد وفاء الحيوان قياساً إلى الآدميين !
وقفز إلى الحصان يتفكر في شأن هذا الشعور المسحور الذي نزل به ساعة اقترب من مجال الفتاة، إنها لحظة كاشتعال النيران بالحجارة أمام إنسان الكهوف.. إنها تخشاه، ولكن ألا يستحق هذه الخشية وحياته بين معارك وموتى وكر وفر؟ ألا يجدر بها أن ترتعش عند لقياه إذا كانت له هيئة قريبة من صورة الوحوش ؟! ما أشد حماقته حين حاصرها بيديه فلقد أورثها ذعراً ! لقد رأى في عينيها هذا الذعر ورصده في أنفها المتصاغر وعينيها المنكمشتين ووجهها الذابل، إنه يجير الضعيف ولا يدخر جهداً في نصرة المظلوم، ولا يضن بتقديم روحه في سبيل حق هضمه حاكم متسلط، أو اغتصبه غاصب متجبر، ألا يكفيه هذا فضلاً فوق أصحاب الشهادات العليا والمهمن المرموقة في حيّهم التعس؟ وألا تستوي العلوم أمام أخلاق المروءة التي يسخر في سبيلها جُل طاقته، ليل نهار؟ وما معنى القيمة المجردة من القدرة والسلطان؟ وعاد يتساءل : لماذا سارعت إلى التوجس منه وكأنما تخفي أمراً؟ إنه مخيف المنظر ولكنها متوجسة قلقة من أهون سبب،.. إنه عامل المصبنة وليس غيره، ولا ريب أن بينهما شيء مما يتطلع إليه من آي الحب المكنون،.. أحقاً ما يلوكه الناس عن علاقتهما؟ وما عساه إلا يقتله (هشام عزمي) إن حال بينه وبين مراده؟ ولكن ألا يكون مفسداً لحياتها بحماقته، رباّه.. إنه يريد لها السعادة معه وحده ولا يريد لها سعادة مع إنسان سواه، ولكن هيهات ثم هيهات ! وأي سعادة يجلبها فتوة في عمر الخمسين لفتاة في زمن الشباب؟ والتقط من البائع يوستفندياً حازه بغير ثمن، وتجمهر الناس حوله يصفقون في مسيره فرحين :
- لقد عاد أبو الأحمدات.. النيجرو !
وعاد إلى بيت الفتوة النونو الذي كان يعقد جلسة لم تعدم من قفف البلح والتفاح الإنجليزيين، فسأله الرجل :
- وماذا حدث؟
وأجابه النيجرو بعد أسلم ظهره للوسادة الوثيرة جالساً على الأرض مرتاحاً :
- صدقت الأقاويل ! إنها لا تريد زيجة من فتحي العطار.
وانبرى النونو يقول :
- إن هذا حسن،.. ولكن أخشى أن تكون قد عمدت إلى الخشونة المنفرة في تعاملك معها !
وقال النيجرو متأسفاً :
- لم يكن ثمة من خيار أمامي.
ولم تمضِ دقائق حتى حضر إلى جلستهما إسماعيل الجعب فقبل رأس الفتوة النيجرو قائلاً :
- لقد فسدت طباع الفتوات في غيبتك ! وأين كنت؟ ولقد طربنا لخبر رجوعك فتتبعت مسيرك إلى هنا !
وأجلسه النيجرو على يساره فاستفاض الرجل في وصفه :
- إن سلامة الغلأ أضر بنا وبالأهالي بعد خيانته عهد الفتوة الحقة،.. ما أبعد طباعه من محامد ومكارم من سبقه ! ومنذ رتب موكبه مذيعاً انتصاره على فتوات جبل نعسة وكوم الشقافة على الملأ لم ينعم أحد بالسكينة، وحتى لقد فُرضت الأتاوات، واُستبيحت الحقوق !
وقال النيجرو في ندم :
- كان يجب أن أُجهز عليه يوم أتانا إلى هنا متحدياً، ولكنه كرم الطباع يورث الإنسان الندم في هذه الحياة.
وقال النونو كأنما يرتب لعودته إلى كرموز :
- ولابد أن ترتب صداقة مع الإنجليز، وسوف أكون رسولك في هذا إليهم !
وهنالك انتفض النيجرو وجعل يلفظ دخان المعسل كمن سعل، قائلاً :
- حاشا الَّلهَ من أضع يدي في أيديهم،.. وإنما عداوتهم ما حييت ! (ثم كالذي يقصد النونو بقوله بينما يشخص إلى قفف البلح والتفاح..) وأخشى أن تكون السعة التي يهيأها لنا الإنجليز سبباً في نهايتنا، وإن هذه (يشير إلى ساعده المفتول) نقمة ونعمة في آن.واعتبر النونو بمقالة محدثه وإن جعل يأكل البلح والتفاح،.. وتوالت أيام على أهل الإسكندرية إلى أن جاء رأس العام (31 ديسمبر 1943م)، وحتى إذا انتصف الليل شرع الأهالي يلقون بالزجاج والفخار من نوافذ بيوتهم، إنها عادة اليونانيين العائشين بالمدينة تلقفها منهم الأهالي ظناً منهم أن في هذا طرد الشرور واستقبالاً لعام جديد، لقد قال الناس أيضاً : "فلتمضِ هذه السنة بغير رجعة ! ولتنتهِ الحرب ! فليفصح عصر الأيديولوجيات عن فائزيه، ولتعد الإسكندرية بعد دمار عروساً جميلاً، ولتغدُ الغارات ذكرى الأمس، الأمس البعيد.."، كان العالم شريكاً في هذا الرجاء بعد أن حل الخراب بالعواصم الأوروبية المهمة : من برلين، وروما، إلى موسكو، ولندن،.. إنه يَبَاب يبعث على الكدر ولكنه يخلق هذا التحدي الحضاري الضخم في إعادة الإعمار، ويوثق الأمنيات الكبار في انتظار انتهاء الصراع المتأجج وحلول السلام، وفي حي كرموز طغت مظاهر الاحتفال الطارئ على هذه الكآبة التي أمست واقعاً يومياً، واستمرت أصوات الارتطام منذرة بتهشم الزجاج والأواني والفخار في جنح الليل حتى حلت الواحدة ليلاً، فحينذاك كفت الأصوات بغير اتفاق ونعم الحي بالهدوء النسبي المتحفز انتظاراً لما هو آت، وعلم النيجرو أن اليوم عقد قران صابرين بفتحي العطار فتجهز وأعد للأمر عدته وتوثب للقاء، وضجت في كوم الشقافة ضجة الطرب والسرور، على حين قال الرجل (النيجرو) لإسماعيل الجعب بينما يلبس بونيته الحديدية :
- اليوم يوم تُسترد فيه الحقوق،.. هلم !