بات عبد الغني مغموراً بالسعادة حين حطت قدماه أرض حانوت الأخشاب بالإسكندرية بعد طول اغتراب، كانت عودته تعني حياة جديدة له ولذويه.. ولعله غفل لثوانٍ عن حقيقة وفاة أبيه عز الدين - المالك الرئيس للحانوت - في لحظة عرف فيها بانتقال حانوت بهاء الدين إلى حوزته فتضاعفت غبطته حتى استحوذت على جوارحه، وأسكرته سكرة السرور،.. وفتح هاتيك النافذة التي كان يرى منها الشارع رأي عين، فقال وهو يطل برأسه متأثراً بما عايشه في أبي تيج من مذاق مر وحال عسير :
- يالجمال المدينة ! (ثم في أسف) كان ينبغي ألا نتركها أبداً !
وكان عصياً على الشاب - وهو حديث عهد بعودته - أن ينفصل عن حال الصعيد الذي تشربته حواسه طوال الأعوام الثلاثة فغدا جزءاً لا ينفصل من تكوينه وشخصيته،.. وكانت هدى مسرورة مرتين : الأولى لعودته، والثانية لعدم وقوع هذا الهاجس الذي يقضي بارتباطه بغيرها هناك، فعدت ما جرى دليلاً أوثق على استمساكه بها رغم المغريات.. وقالت الفتاة تحاول أن تصرف عن الجلسة أسباب القتامة :
- وهلا أمكنك أن تعدد أشياءً ثلاثة استرعت انتباهك في أبي تيج؟
وقال وهو يلحظ هذه المساحة الجديدة التي أضيفت إلى الحانوت القديم فأمسى الحانوتان كالكيان الجديد، أكثر رحابة :
- إن لهجتهم ليست واحدة تختلف من قرية لأخرى، وهم لا يحفلون بالصيحات أو الموضة التي تهتمين بها، وأحد لا ينام هناك دون عشاء مثلما يتفق أن يقع هذا بالإسكندرية في مرات !
ثم وهو يحني رأسه :
- تبدو الإسكندرية أسبق من أسيوط بأشواط من جهة التقدم في المرافق والخدمات، إن هذا التناقض لهو من دواعي الإشفاق في هذا العالم!
وساد صمت بين المتحاورين، فقال عبد الغني :
- إن صابرين حدثتني عن عملك بالمدرسة الإبتدائية بالإبراهيمية،.. هلا صحبتني إلى هناك يوماً؟
ومر في خيالها صورة فضيل مجتمعاً إلى عبد الغني فلم تحفل كثيراً بما قد يفضي إليه الاقتراح العابر، وحاولت أن تصده ولكن إصراره على رؤية الحي الثري - ثقافياً وديمغورافياً - قد غلب إرادتها في منعه، وصحبت هدى الشاب إلى المدرسة فدلفت أولاً دونه إلى حجرة المدير حيث كان صاحبها (فضيل) متطلعاً من النافذة إلى رمال الفناء المصفرة والأطفال يلهون على كثب منه فيتخذون من جذعي شجرتين عارضتين لمرمى مشترك، وكان ثمة طفلان يتشاجران مع ثالث فوقعت لهما الغلبة، إنه ينادي كمن يروم أن يفض شغباً واقعاً فيقول :"أتركاه وشأنه،.. أيها الأطفال المشاغبون.. يا من تختبئون في ظلال الأشجار.."، ولاحظ اقتراب مجيء الفتاة فاضطرب لمقدمها وعاد يتصنع صورة من يقلب الأوراق - كالمنشغل في الأمر المهم - على مكتبه، ولبس طربوشه - كالمتزين - بينما طرقت الفتاة على الباب فقالت :
- أهلاً سيادة المدير.. (ثم في تأثر وهي تلحظ هيئته النحيلة..) ولقد أثمرت الحمية حقاً !
وقال فضيل منتشياً في صوت لا يخلو من أسى، كأنه العزاء بعد طول انتظار :
- ليت أني أجد في عالمي من يقدر هذا الجهد والحرمان !
وقالت في صوت وسيط بين حرارة الاستقبال ورغبة الانتقال إلى صوب الغرض الذي جاءت من أجله :
- سوف تجد حتماً من يقدر جهدك ما دامت إرادتك لم تفتر !
وظن الرجل أن في حديثها إشارة إلى غرض يساوره ولم تقصده، فقال في سرور حقيقي :
- إن هذا لطف منك سابغ !
وخالت هدى أن الأمور قد تهيأت لمطلبها الرئيس فقالت في شيء من رسمية واضحة :
- سيادة المدير،.. أود أن أعرفك بعبد الغني الذي حدثتك عنه لماماً في أحوال شتى،.. إنه بدوره يود أن يتعرف إلى حقائق المكان الذي أعمل به !
وهنا تقدم عبد الغني عابراً خطاً يفصل الحجرة عما سواها خافضاً رأسه الذي يفوق النهاية العلوية لمساحة الباب بنحو شبر، وسرعان ما استبدل فضيل بوجه سمح وجهاً أكثر امتلائاً بالغضب، فكأنما انتقل من حال إلى حال، قال هامساً وهو يأخذ ينهض من كرسيه في شيء من استخفاف يحمل بغضاً :
- حقاً؟ ألم يمت من الملاريا في الصعيد؟ آه.. هكذا إذن.. (ثم وهو يتطلع إلى صورته المديدة في حسد فيعلو صوته حتى يبلغ حداً مسموعاً..) من العجائب أن يشتغل المرء وفي زمان القنابل الذرية بمهنة تقوم على الجريد،.. ألا تكون أقرب إلى العصر لو انصرفت عن هذه المهام اليدوية البسيطة إلى غيرها مما هو أنفع؟!
وقال عبد الغني في حسن نية :
- كانت هذه ضرورات الغربة، وأما اليوم فقد صرت مالكاً لحانوتين ! (ثم وهو يتطلع إلى فناء المدرسة ذي الرمال والخضرة..) أجمل بها من مدرسة رائقة حقاً !
قال فضيل :
- أجل.. تحسن حال التعليم كثيراً في مصر بعد مجيء الإنجليز كماً وكيفاً، أعني من جهة الميزانية والعدد !
ووجد عبد الغني نفسه مدفوعاً إلى القول :
- لا أخال أن هذا التحسن كان وراءه - حقاً وصدقاً - هدف النهوض بالدولة المصرية، بل إن وراءه تخريج موظفين طيعين للاحتلال البريطاني يصيرون تحت رئاسة إنجليزية، ولأجل هذا كان التعليم في وقت ما تابعاً لوزارة الداخلية ! وقد وجد البريطانيون أنفسهم في مأزق لأن هذا التطور في التعليم أفضى إلى انفتاح الآفاق كيما يطالب الناس بحقوقهم في الاستقلال متأثرين بما نادى به أمثال جمال الدين الأفغاني، وعبد الله النديم، ويعقوب صنوع، وغيرهم! إن شعوباً متعلمة أعرف بحقوقها من شعوب يسود فيها الجهل والجهالة.
وقال فضيل الذي لم يرقه حديث الشاب :
- وآفتنا نحن - المصريين - أننا نحسن الظن بأنفسنا أكثر مما يجب، ونتخيل ما ليس لنا من الميزات،.. بربك.. كيف تتصور حال البلاد إذا هي سلمت لحكم ذاتي مستقل ؟! إني أكاد أبصر صوراً مؤسفة من سوء الإدارة في شتى المجالات !
وقال عبد الغني بعد أن شنَّع عليه حديثه :
- علينا أن نحذو حذو الإنجليز في ميدان الحضارة دون أن ندع لبنادقهم وضعاً مسلطاً على رقابنا !
وقال فضيل :
- آه.. كمن يريد أن يجمع بين المستحيلين، إنه لتصور حالم هذا الذي تنعم به، علاوة على أنه يناقض طبائع الأشياء !
وقالت هدى وهي تشير إلى عبد الغني بينما لا تزال ناظرة إلى فضيل، محاولة أن تنهي بين الرجلين دواعي خلاف :
- هلا أمكنني أن أصطحبه (تريد عبد الغني) إلى الفصل كي يرى الأطفال هناك رؤية المشاهد؟!
ووجد فضيل الفرصة سانحة كي يفرغ شحنة من بغضاء تجاه منافسه فقال:
- إن هذا ممنوع،.. إني عظيم الأسف، آنسة هدى ! ولا أتصور أن تستحيل فصول مؤسسة تعليمية إلى مزار لكل غريب !
وولاهما فضيل ظهره ثم عاد يجلس إلى مكتبه متظاهراً بمواصلة ما قد بدأ، وعاد يخلع طربوشه خائباً كأنما لم يعد له من داعٍ للإبقاء عليه بعد أن وضح المرام، وكان يرى فيه (الطربوش) لباساً تركياً يقمع الرأس، ويحجب الفكر تحت ضباب من البخر والحرارة، فلا يرتديه إلا ابتغاء أن تكتمل صورته الرسمية.. ودار بينهما - هدى وعبد الغني - حديث احتوى على المواساة والود لم يحتمل أن يشهده فضيل الذي أغلق بدوره بابه أمام المتحدثين، وصعدت الفتاة الدرج حين حدث أن رن الجرس - صعدت في أسف، بينما انسحب عبد الغني - كالمتواري الغريب - فأبصر في مسيره فرقة موسيقى من التلامذة كانت تؤدي لحن النشيد الوطني بآلات الهارمونيكا، والماريمبا، والأكورديون، واقترب عبد الغني من عازف الهارمونيكا - وكان على الخلاف من زميليه خارج حجرة الموسيقى - فسأله بعد أن جثا إلى مستواه ودون أن تلحظ أستاذته :
- يالروعة العزف ! (وهنا تظاهر بالتصفيق..) هلا أمكنك أن تدلني على الأستاذة هدى ؟!
وصحبه الصغير إلى الفصل فجعل يحتذي مساره كالمتسلل، واجتاز حجرة فضيل يخفق قلبه بنشوة السارق الذي جاز نقطة تفتيش من الأمن، وجعل يتصنت إلى صوتها الذي يقول :
- مرحباً بكم،.. إنه ليوم جميل ! تذكروا أن تنظفوا أيديكم جيداً إذا هي لامست أسطحاً متربة،.. طلباً للسلامة واتقاءً للجوائح !
وقالت طفلة شامية :
- كيف يحوي اليوم الجميل على ذكر للجوائح؟!
- أنتِ مشاغبة كعادتك !
وتطلع عبد الغني إلى صورتها بين الأطفال فحل في نفسه ود، وانشغل بها عن نفسه وعن محيطه انشغالاً فيه سلام، وسأله طفل الهارمونيكا كأنه صوت المنبه يوقظ غافلاً في منتصف فجر :
- وهل سندلف إلى الفصل !
وقال وهو ينظر إليها مرة أخيرة :
- أخال أن هذا يكفي ! (ثم وهو يعود إلى حالته الطبيعية..) وكيف تعزف على الهارمونيكا؟
- أنت تملأ فمك بالهواء بينما تعلو الموسيقات من الجانب الآخر !
ثم وهو يسير رفقة الطفل في ردهة بين الفصول :
- سمعتك تعزف لحناً ما أشبهه بالنشيد المصري كأنك الموسيقار الإيطالي العالمي فيردي (الملحن الحقيقي للنشيد).. هل هذا حق؟
- أجل إنه كذلك،.. من العجيب أن تستحيل الأنفاس أنغاماً.
وكانت الفتاة قد رأت ظلاً للشاب ينصرف وما لبث أن أفصح لها الأطفال عن هذا المراقب الذي رحل، فابتسمت، وعادت إلى حالتها الجادة حين أمكست بالطبشورة منتشية بما وقع،.. وحين آنت الظهيرة كان عبد الغني واقفاً لدى باب المدرسة منتظراً خروج الفتاة، وطالت مدة انتظاره فانتقل إلى التفكير في نقاشه مع فضيل شاغلاً فراغاً ما، وقال في نفسه :"آه.. كم يبدو الرجل فاسد الطباع حين يتحدث عن فضائل محتل ! وأما عيناه فتنمان عن حب غائر مطمور ! وقد أظهر صلفاً حين منعني من رؤية الأطفال !"، وتذكر هذه الفكرة التي لمعت كبارقة أمل في ذهن عدد من المفكرين من أمثال : مصطفى كامل ويعقوب آرتين ومحمد عبده وجورجي زيدان بإنشاء جامعة أهلية تجمع أبناء الفقراء والأغنياء على السواء، وكيف صارت الفكرة بذرة جامعة حكومية هي جامعة القاهرة في 1908م، ثم تذكر كيف صار التعليم - فيما خلا نطاق بعض هذه الإشراقات والمبادرات - نشاطاً لا يقدم عليه إلا كل موفور ومقتدر.. ولكنه حين استدار - مولياً باب المدرسة ظهره - رأى شاباً يقذف بالقاذورات على الأرض، فعادت تتردد أصداء الحديث الذي استهجنه في وعيه : " كيف تتصور حال البلاد إذا هي سلمت لحكم ذاتي مستقل ؟! إني أكاد أبصر صوراً مؤسفة من سوء الإدارة في شتى المجالات !" كأنما قد اكتسبت بعض الأصداء الجديدة التي أزالت عنها شيئاً مما قد غشاه من النفور حين سماعه لها أولاً، وتولد في نفسه صراع احتوته بواطنه رغم وقفته التي كانت لا تظهر إلا صمتاً، وتذكر يعقوب - الرجل البريطاني الذي قابله في قطار العودة - فصبت الخواطر ناراً على موقفه المستقر من الإنجليز وإن ظل في الأخير مستمسكاً بما جُبل عليه من كراهيتهم.. وأحس يداً تربت على كتفه فانقطع عليها حبل أفكاره ولما استدار إلى صاحبها ألفاها يد هدى، وقالت :
- وكيف أقنعت طفلاً بأن يدلك على موقعي؟!
وقال وهو يأخذ يمشي فتمضي الفتاة إلى جواره بالحارة الضيقة :
- إنها قصة طويلة، أبصرته يعزف الهارمونيكا، قريباً من حجرة الموسيقى كالذي ضل طريقه.. إن الأطفال - شأنهم شأن البقية من البشر - يحبون أن يعامولوا بندية لا تخلو من لطف !
ثم وهو يعبر بين رجلين يونانيين فيطمئن إلى عبور الفتاة من بعده :
- إنكِ، وبالمثل، إن استصغرت عقولهم (الأطفال) وجدتهم عنك في شغل ساهين!
وتمشيا في رحاب الحي الذي كانت بيوته قصيرة كل قصر، من طابق واحد أو اثنين، فقال كالذي وجد فرصة البوح بملاحظة بعد كتمان :
- يبدو المدير شغوفاً بك ! إن بمقدوري المراهنة على حقيقة أنه يجد بك وجداً ! لقد أورثه هذا الحب كراهيتي ذلك أنه رآني منازعاً له في مطمحه !
وقالت في مشاغبة وهي تبلغ موقف الترام الزرقاء فتنتظر حتى حين تجيء فتهتز الأرض تحت قدميها، ويتوقف مسيره (عبد الغني) بالتبعية :
- لا بأس.. كثيرون يتطلعون إلى المرأة العازبة إذا أوتيت حظاً من التعليم أو الحسن !
وقال وقد أثارت عباراتها في نفسه بواعث الغيرة بينما تعلو صلصلة عربة الحنطور في قرب منهما :
- وأنى لكِ بهذه الثقة الكبيرة؟!
وتولاها اضطراب ما فقالت كأنما تنوء بخاطر ذاتي مرعب :
- حقاً؟! وهل ثمة من سبيل إلى الشك في هذا؟
وعاد يقول بينما يهم بصعود الترام الأزرق بقفزة موفقة على حين تبعته الفتاة في هداوة..
- كلا..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
1947م..
كان يوماً مشهوداً هذا الذي أتمت فيه صابرين شهادة البكالوريوس، وقد سبقت الفتاتان - هدى وصابرين - غيرهما من نسوة الحي الشعبي في إكمال تعليمهما، وكانت تقول (صابرين) :
- ما كان للأمر أن يتم لولا إصرار أبي، ورؤيته المتفتحة !
وكانت الفتاة لشغفها الجم بالتعليم تضع فوق مكتبها، إلى جوار صورة بهاء الدين، صورة نبوية موسى، وتكثر - إلى ذاك - من التلطع إليها حين يحدث أن تلين إرادتها أو يقع أن يثب إلى نفسها لون من ألوان الملل أو الكلل، إنها (نبوية موسى) تبدو في الصورة متوشحة بزي يغلب عليه السواد مرتدية هاتيك النظارة، جادة النظرات، بوجه يقطر صرامة غريبة بعض غرابة عما يجبل عليه النساء في العادة من اللطف،.. كانت المربية السكندرية ملهمة النساء في المملكة المصرية في مضمار التعليم حيث وقع أن تقدمت للحصول على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) قبل زهاء عقود ثلاثة، وظفرت بمرادها قاهرة هاته الحواجز النفسية، ومتخطية سخرية موظفي وزارة المعارف، ثم - وهو الأهم - موقظة الآمال في نفوس من جئن بعدها،.. ووقفت صابرين أمام الصورة الملهمة فوقع بينما مناجاة صامتة اشتملت على العرفان،.. وكان هشام عزمي يقول لها :
- من الممكن أن أتفهم وجود صورة هذه المرأة في حجرة النوم، ولكنني لا أجد داعٍ لأن أرى صورة أبيك، كأول ما أراه، في كل صبيحة !
وحاول الشاب غير مرة أن يزيل الصورة التي تزعجه لولا أن إرادته في هذا الشأن كانت دون إصرار الفتاة المعتزة بأبيها اعتزازاً زادت دواعيه بعد الزواج ازدياداً كبيراً، وكانت إذا سارت هنا وهناك أرسل إليها العابرون - نظراً لانتشار الخبر - التهاني، وقد أخلص بهاء الدين في احتفائه بأن خصص موائد للإفطار لفقراء الحي، فعدها المعوزون سبباً فيما نزل إليهم من الخير، وأكرموا مقدمها من ابتهاجهم بالنعمة التي هبطت إليهم لسبب وجودها، وحدث أن الفتاة فتحت نافذتها لترى واحدة من هاته الموائد فحظيت أولاً حين رآها الجالسين بالمعروف من التهاني، وجالت ناظريها في صورتهم حاملة عاطفة الرثاء والخجل،.. ثم وقع أن لاح الفتوة إسماعيل سيد أحمد - وكان يؤمن المائدة المنصوبة بالشارع من خصوم محتملين - فقال لها :
- مبارك لابنة بهاء الدين !
ولم تجبه إذ وجدت أن نداءً على مشهد الرجال ينسب إلى العيب، فقال لما عدم منها جواباً :
- ولتحمدي للفتوة النيجرو صنيعه أيضاً، إن هذا لأدعى إلى الإنصاف.. فلولاه ما أنثنى زوجك عما هو فيه !
وأغلقت النافذة يعتريها الغضب فهرعت إلى الشارع بعد أن رفلت في عباءتها، وقالت له حين أمكنها الجواب في صوت لا يسمعه إلاه :
- وما دخل صاحبك (تريد النيجرو) بقضية التعليم ؟!
وأفصح لها الفتوة عما كان من يوم حاصر فيه النيجرو زوجها بالزقاق المتاخم للمصبنة، وما نجم عن هذا من تبدل في مسكله نزع به عن موقفه المعروف من منعها من التعليم.. فلم تصدقه، وقال لها :
- بمقدورك أن تسألي زوجك عن الأمر !
وقالت في شدة جذبت الآكلين على المائدة، هناك، عن طعامهم إليها :
- احفظ لسانك، وابتعد من أن تتدخل فيما لا يعنيك !
ومكث إسماعيل سيد أحمد يقول :"مسكين النيجرو ! أنغمس حتى أذنيه في حبها ولم تبادله إلا جموداً وجحوداً !"، وجعلت الفتاة تفكر فيما سمعته مشتعلة العاطفة فجنحت إلى تكذيب الأمر أولاً، ولكن عادة الارتياب أن يقوى ويختمر بعد أيام النكران، وأن تنضح دواعيه في نفس ألفت وجوده كحقيقة واقعة بعد أن تنصلت منه كوهم زائف، وفكرت في سؤال هشام عزمي عن الأمر لكن خشيتها من غضبته كانت تجلل حماستها العارضة فترتد إلى تسليم وقناعة،.. إنها لتراه على مائدته يأكل الطعام أو فوق سريره النحاسي يغط في نوم،.. فتعود تتساءل : هل حقاً استجاب بعلها للفتوة ولم يستجب لها أو لأبيها؟ وأي معدن جُبل عليه - لو صح هذا الافتراض - إلا طباع الجبن والضعة، وإلام تظل يد الفتوة تقتحم حياتها فتبدلها تبديلاً؟.. ووجدت من زوجها فتوراً جلياً منذ يوم انتهت فيه من تعليمها الجامعي فلم يهنئها إلا تهنئة المضطر، ولم يحدثها إلا حديث المتعجل، وعادت تقول : "ولو أن موقفه حيال الأمر قد تغير بمحض رغبة حرة لكان أول من احتفي بالإنجاز الكبير.."، ولكنها عادت تلتمس له المعاذير : "لعل فتوره تجاه المسألة يُنسب إلى حقيقة أنها باتت تفوقه في مضمار كان ولسنين قريبة مجالاً يحتكره الرجال ويستأثرون بالصدارة فيه،.."، وكانت صابرين تحضه على الحديث أكثر مع ابنته مريم، فيسألها :
- وعم أتحدث؟!
- عن أي شيء يرد على خاطرك،.. حدثها عن الصابون والخواجة رجب ! إن حرياً بالطفل أن يستمع أكثر في سنينه الأولى..
وكان هشام عزمي يقول :
- إنه زيت الزيتون الذي نصنع منه الصابون،.. مزجه الفلسطينيون بجذور نبتة القلى البرية، والسوريون بعشبة الشنان وزيت الغار فذاع صيتهما، وقامت على المصابن مدن كحلب «الشهباء» ونابلس أو «دمشق الصغرى» وجبلها الذى أطلق عليه جبل النار !
وكانت مريم غائبة الوعي عن معاني ما تنفك تنبثق إلى أذنيها الغضتين، إنها ابنة عام وأشهر ستة وقد نطقت بعض كلمات منفردة،.. وقال هشام عزمي لصابرين وهو يلحظ هذه الحقيقة :
- آه.. هل تخالين أن الطفلة تفهم شيئاً من هذا؟!
ويقول لابنته :" كانت المصابن فيما خلا من الأزمان رمزاً للقوة والثراء والسلطان، ثم أتى زمان فيه انتكست الصناعة، وفيه تحول الحال، ومعه حال العاملين في هذا الحقل، فانظري لأبيك كيف بات يشقى؟ وكيف غدا يضام؟!"، تغمر جلسة العائلة الصغيرة دفء ما فتتهيأ سبل المصارحة، تبكي مريم وتضحك حين تسمع أسماء العائلات : النمر وطوقان والنابلسى والشكعة والزنابيلي، إنهم أصحاب الحرفة من أسر تتناقل مهنة صناعة الصابون على كر الحقب والقرون، وتنكمش عينا مريم حين تتعرف على طريقة عمل الحرفة الصعبة - وقائع مهنة أبيها اليومية - حين يُسخن الماء ويُضاف الزيت، ويتصل الحديث إلى الحاج «فهمي المصري» عم الصنعة الذي تلقن منه الشاب أصول مهنته، وتتجرأ صابرين أكثر حين ترى الوئام يلف الجالسين بصفحات الأنس لكنها تخشى من عاقبة ما، وسألته كالمنفلتة من عقالها :
- هلا أمكنك أن تخبرني عن السبب وراء تغير موقفك من قضية ذهابي إلى الجامعة؟
وقال كالذي ساوره خيال ما :
- لاشيء،.. إنني لا أروم سوى سعادتك !
وعدت الإجابة سبباً للطمأنينة فابتسمت، وقالت كالتي تستوثق من سلامة باب متهتك أو جدار متصدع :
- هل هذا كل ما هناك حقاً؟
ويجيب في شيء من الانفعال :
- ماذا دهاكِ ؟! ولا أحب أن أجيب الجواب عينه مرتين !
وتعود تساورها الشكوك كالأشواك في لحظة ينقلب فيها السرور قلقاً، وسرعان ما يسلمها زوجها طفلتها - كالذي يهرب من الجواب عن سؤال - قائلاً في غضب بعد أن سألته "إلى أين؟!" :
- ولسوف أتمشى في رحاب الشوراع ! ولعلي قاصد إلى مصبنة الخواجة متفقد فيها مجرى العمل الليلي !
وقالت حين تشيعه بمعطف يتقي به برداً :
- ثمة تجهيزات هنا وهناك لمقدم موكب الملك، فلتتقِ العواقب، ولتتوخَ سلامتك !
ولم تغفل صابرين عن الحقيقة حين خلا المجلس منه : إنه يتهرب من الجواب، ويتحلل منه، ولو كان واثقاً كل الوثوق، منكراً كل الإنكار، ما أشاح وجهه ولا أبدى تذمراً،.. ودلف هشام عزمي إلى مصبنة الخواجة رجب وكان الأخير منشغلاً في حساباته فاستقبله الجالس يقول :
- يقولون بأن الملك فاروق نفسه تفضل على شعبه،.. ولسوف يتريض في شارعنا هذا غداً، وغالب الظن أن يجنح في مسيره لأن يدخل إلى مصبنتنا فيتفقد سير العمل فيها مثلما يتفقد سير العمل في بعض المهام الحرة بالمملكة، إنها زيارة مرتبة وغير مرتبة، أعني أنها يجب أن تبدو عفوية رغم علمنا المسبق بها ! هكذا أخبرني موظفو ديوان الملك !
ولم يبدِ هشام عزمي انفعالاً كبيراً، فقال في سخرية :
- أهلاً بالصانع الأول ! (يريد الملك!)
وقال الخواجة رجب :
- آه.. المصريون يبغضون سيرته مثلنا نحن الإنجليز تماماً، من بقى معه إلا الحاشية والبطانة؟!
ونهض الخواجة رجب فجعل يدور حول هشام عزمي - كالذي يستنزف اهتمامه قبل أمر ما - ثم قال :
- أعرف أنك تشقى في دنياك شقاءً عظيماً، وأزيد أقول لك بأني لست غريباً عن هذا الشقاء ! (ثم وهو يحدق إلى عينيه..) هل تعرف عائلة جرار وما أرادت فعله يوماً بإبراهيم باشا؟ وحين وصل ابن محمد علي وقائد جيشه إلى نابلس، وكانت أكبر مدائن الضفة الغربية، انقسم الخلائق حوله بين مؤيد ومعارض، وأراد أحد تجار عائلة جرار المشتهرة بحرفتنا قتله بإيقاعه في «قِدرة» الصابون المغلي !
وصمت الخواجة قليلاً، في غير الأوان، فقال الشاب :
- وإلام انتهت القصة؟
- آه.. فشلت محاولة عائلة الجرار، وصودرت المصبنة، واليوم لدينا فرصة لمحاولة ناجعة مع سليل العائلة العلوية عينها !
وهنا التفت هشام عزمي في اهتمام كالمنتفض، قائلاً :
- بحق السماء،.. هل تريد أن تقتل الملك؟!
وقال الخواجة رجب :
- تحدثت مع مسؤولين بالسفارة البريطانية، إنهم يريدون عنقه لقاء عرض سخي !
ونهض هشام عزمي فقال :
- لقد نجا الملك من حادثة القصاصين وسوف ينجو من هذه،.. إن بيني وبين تدبيرك ما صنع الحداد !
وقال الخواجة :
- وكأني أجهل حقيقتك، سارق صابون ومتطلع إلى الثروة !
وقال الشاب وهو يمشي بين برميلين من براميل سبعة يصنع فيها الصابون بالحانوت فيشتد صدره ويرتفع رأسه :
- ولكني لست قاتلاً !
وقال الخواجة :
- لقد مات الملك معنوياً منذ حادثة فبراير، وآن الوقت كي يموت جسدياً،.. لماذا تحاول أن تبقى جثة هامدة على العرش؟
- سأبلغ عنك البوليس المصري !
- لن يصدقك أحد !
وعاد هشام عزمي إلى بيته مرتجفاً وخائفاً، كان يجلله البرد والظلمة مرتعش الحواس رغم المعطف الذي رفل فيه، وقال لصابرين :
- أين الطفلة؟
وجاءت صابرين له بمريم فانبرى يقبل وجنتيها ويحيطها بشتى ألوان الرعاية، وكانت صابرين تشخص إلى صورته المنهمكة في الأبوة فتقول في خاطرها :"ولو أن به شعرة من سيكوباثية، أو عداوة مجتمع، ما لثم الطفلة ولا أحب الأطفال.. ولو أنه نرجسي الطباع فإن له قلباً يرق ويلتاع.. بل لعل نرجسيته يخفي بها ضعفاً.. ويقاوم بها شعوراً بالانهزام يغالبه فيغلبه.."، وسألته وهو يخلع معطفه، وكانت تخشى مما تتحدث عنه الصحف من اخفتاء الرجال في ظروف غامضة :
- ماذا هنالك؟
وقال مختلقاً أقصوصة :
- كنت سائراً في شوارع مبتلة في غيط العنب، وكانت قدماي تغرس في وحلة الأرض، إن خير وسيلة للنقل ليستعصي عليها أن تمضي في سبل كهذه، ولو كانت سفينة تمخر البحر أو مارداً يحمل السائرين على كفيه،.. وبغتة شعرت بوحشة إليكم فعدت متلهفاً ومنيباً، والناس بالمدينة كما تعرفين يسارعون إلى النوم عقب المغيب بعد شيوع قضية حسن قناوي !
وسألته :
- وهل أبصرت شيئاً ملفتاً في شوارع تتجهز لمجيء الملك؟
وقال :
- كلا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق