الفصل الثالث : مغامرة في مقهى الفنانين
وكان يوسف يتخذ من أوقات المساء سبيلاً للتسرية في مقهى الفنانين، إنه السر الذي أخفاه الشاب عن أبويه - فاطمة وبهاء الدين - حولاً من الزمن، وتخفى في ظلمة هذا اليوم - كدأبه - حتى بلغ حدود المكان الذي يقضي فيه سهراته حيث الأنوار والعوالم والفنانين وطلاب الأنس والدعة،.. إنه (يوسف) يحب الظهور في قالب المثقف خفيف الظل أمام رواد المكان، واستقبله النادل - وكان جرسوناً يونانياً يجيد العربية يرفل في سُترة بيضاء ((smoking jacket ويحمل صينية فضية على راحة يده - يقول :
- أهلاً بيوسف أفندي..
فانحنى له الشاب ذو المسلك الطريف إنحناءة إكبار، وقصد إلى طاولته المعروفة الكائنة في ركن المقهى فاستقبله نفر من القعود وعلى وجوههم ابتسامة تشي بما هو قادم، وسأله ثري من القاعدين :
- هلا حدثتنا عن الحرب الدائرة الآن ؟
وقال يوسف بعد أن ألقى على ساحة العرض نظرة :
- يبدو أننا وبعد أن مررنا في مصر بعصر العوالم (1900م : 1920م) ألفينا أنفسنا وجهاً لوجه ودون إنذار أمام عصر الحروب والأزمات الإقتصادية !
وأغرب الثري في ضحك متحفظ - كالقهقهات يفصل بينها ثوانٍ من الصمت - فلم يفقد - بعد - كل اتصاله إلى ثقافة الغنى المتحسبة،.. وسأله آخر :
- وما رأيك في هتلر وونستون تشرشل وستالين؟!
وأجاب الفتى مرح الخاطر :
- كان على هتلر أن يحذو حذو تشارلي شالبن في مضمار التمثيل،.. أما تشرشل فله قبعة كالحواة يقولون عنه بأنه خطيب ذو ملكة وتأثير بينما أترقب أنا حين أراه خروج الأرنب، وأما ستالين فقد فر بقبعته ومعطفه من لعبة سوبر ماريو !
وسادت ضحكات أخرى حتى بدأ رواد المقهى ينشغلون عن العرض المقدم، وهنالك اقتربت عفاف - الراقصة بالمكان - منه وهمست في أذنه قائلة :
- هلا صمت حيناً ريثما تنتهي فقرتي؟ إنك تفسد الأمر حين تجذب إليك الأبصار.
وامتثل الشاب لمطلب الفتاة وهو يقول للمحيطين به بصوت مسموع :
- وأما عفاف فتريد جاهدة أن تعيد عصر العوالم إلى سابق ازدهاره في زمان الحرب، فالواجب أن نثمن عزيمتها هذه..وضغطت عفاف على شفتيها - كالغاضبة المبتسمة - ولولا أنها موضوع الطرفة لضحكت مع الضاحكين، وانسحبت إلى حيث واصلت العرض، وشخص يوسف إلى المنصة قليلاً، حتى وضع الثري الأول يسراه على كتفه بينما جعل يستدعي النادل بحركة من يمناه اشترك فيها إصبعاه :
- مشروب للأستاذ يوسف؟! (ثم وهو يستدير إليه..) وماذا تريد من صنوف الخمور؟
واعتذر الشاب من طلب الخمور واكتفى بعصير العنب، فسأله الثري:
- أتريد أن تخبرني بأنك تأتي بهذا دون ثمول؟! إنها لأفكار ألمعية يستحق صاحبها ما هو أكثر.والتفت يوسف إلى يده الممدوة إلى كتفه كالمتهيب منه، قائلاً:
- أجل،.. ومن تكون؟
وأجابه الثري كالذي أدرك خوف محدثه منه دون أن يفقد حماسته في الإتصال إليه :
- إني صاحب هاذيك المقهى، نادني برشدي عبد العظيم، ولدي عرض لك.. هلا أمكنك أن تقدم عرضاً هنا وفوق المنصة الخشبية مقابل المال؟ من الهدر أن تنزوي موهبتك في ركن الصالة بدلاً من أن تكون محط الناظرين... من عجب كيف يمتلأ حيّنا بشهرات زائفة !
ولم يحفل يوسف بعرض رشدي فوق ما أبداه من اهتمام ظاهري تجلى في إيماءة رأسه وشخوص عينيه، واستسلم لصمت داخلي بينما علت من حوله "كركرة" الشيشة آية على التناقض الوجداني، وارتفع دخان المعسل بنكهاته المختلفة فأحدث في الفضاء العامر بالأنوار ما يشبه الشابورة، لقد جعل الشاب المتحير يفكر في موقف بهاء الدين من أمر كهذا فترددت في خاطره صوت وصورة أبيه يقول :"مونولوجست وفي مقهى للعوالم؟ ليت أن الأرض ابتلعتك قبل هذا.. وما ثمرة التعليم إذن؟ ولتنظر إلى أختك صابرين كيف تجد في درسها وتحصيلها؟ ولتأخذ من الإناث عبرة أيها الخنوع.."، وقطع الخاطر في نفسه كل شك بيقين، وقال وهو يرمق تموجات الأدخنة في أفق المقهى محدثاً الرجل :
- ربما ألوذ بعرضك السخي يوماً ما.. ولكن الآن...
وتفهم رشدي نواياه في الرفض فقال منسحباً بينما يضطرب منديله الأبيض في جيب بذلته :
- وسوف يكون العرض سارياً متى تبدلت قناعتك !
وعاد الشاب إلى الوجوه التي تنتظر منه لفتة مرحة أو خاطراً ذكياً، فقال :
- أتعرفون لمّ تأخرت الولايات المتحدة عن المشاركة في الحرب؟ (ثم كالذي يجيب دون انتظار..) لأن روزفلت ينتظر موافقة الآلهة !
وانتهى العرض الدائر فوق المنصة الخشبية فهبطت عفاف من عل متململة وأتبعت سيرها إلى أن بلغت مبلغ الشاب - دون أن تنصهر في رفقته - فأشارت إليه أن تعال، واستأذن يوسف من حشد المعجبين الذين تجمهروا حوله ونهض إلى حيث غابا - يوسف وعفاف - في حجرة تغيير الملابس، وقالت له الفتاة في غضب جم :
- ماذا دهاك أيها الضحوك؟ أعجزت عن أن تلجم لسانك؟ والناس انشغلت عني إليك، وغداً يطردني رشدي حين يعدم سبباً للإبقاء عليَّ.
وقال يوسف في هدوء بال :
- رويدك ! رويدك ! وما جريرتي إذا الناس ينتظرون فسحة كيما ينسون بها واقعهم المرير؟ إنهم يروحون عن آلام دأبوا طوال مدة الحرب القلقة على أن يتجشموها في صمت.
وجلست الفتاة على مقعد واقع إزاء مرآة دائرية التكوين فقالت بينما تهذب حاجبيها الغليظتين :
- وفيم كنتما تتحدثان؟ (يوسف ورشدي)
وأجاب :
- في شأن العمل هنا ! وقد رفضت عرضه على سخائه..
وتنفست عفاف الصعداء حتى هبطت حاجباها وقالت :
- إن هذا خير ما فعلت اليوم.
وأجابها وقد تبدت صورته من ورائها أمام المرآة :
- أعرف هذا،.. ولكن ما قصته (رشدي عبد العظيم)؟
ونهضت تقول له :
- جاء الرجل - والعهدة على من روى - من إحدى قرى مركز طهطا بسوهاج ونزح إلى الإسكندرية قبل بضع سنين، لقد دأب على أن يبحث عن حرفة - كحرف القرية البسيطة - فلم يظفر بمراده في مجتمع المدينة، وقد عمل دهراً من الزمن صبياً في مقهى قديم يلبي حوائج الزبائن فآلت إليه ملكيته رويداً رويداً حتى لقد صار صاحبه، وحينذاك أسس مقهى العوالم (الفنانين) - على أنقاض المقهى الذي عمل فيه - ليكون أول مقهى شعبي،.. وعلى إثر هذا تشكلت إمبراطوريته من المقاهي المتناثرة في أرجاء الإسكندرية !
واستدارت عفاف عن يوسف فألفيت الرجل الذي كانت تتحدث عن سيرته من أمامها فارتبكت لهذا كل الارتباك، وقال لها الرجل كالذي يقر بحقيقة لا تقبل مناقشة :
- وغداً يجيء إلى المقهى الفنان عزيز منصف.. وسوف تتأخر فقرتك لأجل هذا إلى ما بعد منتصف الليل.
وولاها رشدي ظهره منصرفاً عنها دون أن يلحظ وجود يوسف في حجرتها، وغمغمت عفاف - لما اطمأنت إلى خلوتهما - غمغمة تتمثل فيها طريقة رب المقهى المتسلطة فتسفه منه، ثم قالت ليوسف :
- والواجب أن تجيء غداً أيضاً، كيما تعود بي إلى البيت في تلك الساعة.
وقال لها يوسف في مشاغبة :
- وهل تخشين من الفتوات؟
وقالت كالتي تسبر أغواره بنظرتها المتفحصة :
- أنت أيضاً تخشاهم كما الجميع.. آه.. النيجرو أبو أحمد والجعب، وغير هذا وغيره، إنهم ثلة من المحتالين يتخفون وراء قناع الشهامة المزعومة.
وأجابها وهو يهذب شعر رأسه الناعم أمام مرآتها بمشطها الأحمر الضخم:
- ولمَ تحرصين على مجيئي إذا الأمر كذلك؟ (ثم وهو يرفع يمناه النحيلة فتبرز لدى عضده كرة صغيرة..) أليس لأن في يدي قوة كالسحر؟ أليس لأن عضدي تشبه عضد مصارع غلاب؟
وفي الغد حضر عزيز منصف مقهى الفنانين فتألقت الجدران احتفاءً بالفنان ذي الشبه القريب بنجيب الريحاني، وعُلقت زينات حمراء وخضراء فوق زخارف الأرابيسك، واجتمع لليلة الموعودة الرواد من المصريين والإنجليز، وجال يوسف ناظريه - بعد جلوسه منزوياً في ركنه - في أنحية المقهى فألفى نفر من العربجية يحيطون بضابط إنجليزي، وقال له منهم واحد بإنجليزية مكسرة :
- "أهلاً بك.. اسمي حسين سليمان.. وهل تفكر في صداقة تنسيك أشباح الهموم؟".
وكانوا يسرفون في صب الكؤوس من أمامه حتى صارت تكفي بتعدادها طاولة كاملة بمتحلقيها،.. وفطن يوسف إلى ما وراء هذا من رغبة في إفقاده الوعي من سبيل الثمول تكون توطئة لشيء لم يحدده، وقال الإنجليزي قولاً نقله حسين سليمان أكبرهم :
- إنه يقول : "أي صنف من الصداقة تقصدون؟!".
وأجابه أمين سليمان دون مشورة من صحبته :
- "صداقة بامرأة ! بربك.. أغير هذا من الصداقات يَنسى صاحبها همومه؟".
وهنالك دلف الفنان عزيز منصف من باب جانبي فاستقر على المنصة الخشبية تستقبله التصفيقات، وقال كالذي يتمثل حركة الريحاني في صوت موسوم بالحزن الغائر :
- وأما أنا فقد جئت لا أعرف من أين ولكني أتيت ! ورب فنان كبير لا يعرفه أحد في بلادنا ! ويوماً أبصرت الأطفال من حيكم، كرموز، يحتشدون حولي فحمدت الأقدار، وقلت في نفسي : ولا ريب أن أبواب السعد قد تفتحت من أمامي بعد ظهوري في عدد من الأدوار الثانوية على شاشة السينما،.. ذلك حتى قال أصغرهم لي وهو يسعل : أأنت الريحاني؟!
وتوقع عزيز استجابة لم يجدها فساد ارتباك صامت، على حين واصلت جماعة العربجية استدراج الضابط الإنجليزي، وكان يوسف - دون سائر الحضور - في موقعه قادراً على الاستماع للطرفين فيولي لكل منهما نصف اهتمام وأذن يتسمع بها، وقال حسين سليمان للضابط الإنجليزي بينما يصب كأساً جديدة فيبلغ الخمر مبلغاً يساوي الحافة دون أن ينسكب :
- "كوم النادورة.. وهناك تقضي أمسية حافلة بالغراميات.".
وقرع الضابط الإنجليزي كأسه وهو يلوح برأسه موافقاً، وانتبه يوسف أكثر إلى هاذيك الحديث الدائر فحدس بأن مكيدة من المكائد تُدبر له ولكنه لم يحرك أول الأمر ساكناً، وكان العرض على المنصة لا يزال دائراً فيقول عزيز منصف :
- والآن سوف أؤدي دوراً للأستاذ الريحاني هو "كشكش بك" (العمدة الريفي) !
وصفق الحضور تصفيقاً فساد الهرج والمرج وحجبت الملهيات عن العيون ما يجري بالصالة، وهنالك اقتاد جماعة العربجية الضابط الثمل إلى كوم النادورة، فهرع يوسف إلى عفاف كي يخبرها بما أطلع عليه فكانت المرأة تتجهز لفقرتها منخرطة في هذا غاية الانخراط، وقال لها الفتى في انفعال جم وجدية لم تُعهد عنه :
- اقتادت جماعة العربجية الضابط الإنجليزي إلى خارج المقهى،.. وقلبي يحدثني بالشر الذي ينتوون أن يفعلوه به.
وسألته عفاف :
- أي عربجية تقصد؟!
- إنهم جماعة من خمسة أنفار أو أكثر، أكبرهم رجل اسمه حسين سليمان،.. وإذا مس الضابط مكروه فسوف ينتقم الإنجليز له انتقاماً أخاله مخيفاً !
ولم تولي عفاف اهتماماً لما سمعت وعادت تؤدي فقرتها فوق المنصة الخشبية، ومكث يوسف يرقب عرضها شارد اللب مأخوذ الفؤاد يقلب أوجه العواقب، فلما فرغت اصطحبها في مسير الإياب إلى بيتها في البياصة (كلمة محرّفة عن كلمة «لا بياتزا» la piazza الإيطالية التي تعني «الميدان» وكانت حياً يقطنه العوالم بالإسكندرية)، وقالت له بينما أرخى الليل سداله :
- ولم يحفل الحضور بالعرض الذي قدمته بعد أن أُنهكت الأنفس بعرض عزيز منصف الفاشل.
وقال لها كالذي لم يفارق وجدانه ما يساوره من شكوك حيال مصير الضابط الإنجليزي :
- آمل أن يكون هذا أسوأ ما وقع هذه الليلة..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
شد ما كانت دهشة أهالي كرموز عظيمة حين أبصروا في صبيحة اليوم التالي جثة الضابط الإنجليزي مسجاة لدى قارعة الطريق،.. كان الضابط الإنجليزي غائباً عن الوعي ذا وجه منتفخ الأوداج وقد سُرقت منه أمواله وساعته، وأما يده فتنضح بالقروح التي كشفتها أشعة نهارية حمراء، وتوجسوا خيفة فلم يجسر منهم واحد على أن يحمله مخافة أن يُتهم من قبل الإنجليز بتدبير الأمر، وكان يحدث أن يقترب منه واحد فيقول :
- لاحول ولا قوة إلا بالله،.. قاتل الله أولاد الحرام من حيّنا.
ثم ما يلبث يمضي، ولعل نفر منهم أضمروا لوناً من الشماتة الصامتة بمن تسببوا (الإنجليز) قبلئذٍ في إرهابهم وقطع أرزاقهم، ومهما يكن من أمر.. فقد أتى - حين بلغ النبأ حدود المشاع - نفرين من الضباط الإنجليز فطفقا يحملان الرجل إلى نقطة الطوبجية وجهزا لهذه الغاية ما يشبه المحفة، وشرع الأهالي - لدى رؤية المحفة - يصفقون ويهتفون بحياة الإنجليز طمعاً في تخفيف وطأة العاقبة المحتومة. وكان بهاء الدين يرى من شرفة بيته تفاصيل الواقعة فالتفت عنها إلى الراديو - بعد تنهد طويل - منصتاً لأنباء المعركة التي تدور رحاها عند الكيلو 128 غرب بيته بينما جعل يرش نبت الفل الكائن فوق الجدار برشات الماء المتتابعات :
- "نحن اليوم في الخامس من نوفمبر.. ونذيع إليكم آخر أنباء معركة العالمين.. حيث يحاول رومل إقامة خط دفاعي في فوكة تمهيداً لانسحابه نحو ليبيا.. ومن المتوقع غداً (السادس من نوفمبر) أن تهطل أمطار غريزة تعيق التقدم البريطاني .. هنا القاهرة..".
واستوطن الأسف في نفس الأب ووثبت إلى نفسه الهموم، وإن أشرقت نفسه بعض إشراق حين رؤيته للفل وما يفرضه حضوره من حياة وحيوية طبيعيتين بينما جعل يناجي نفسه : "وغداً يفرغ الإنجليز من شاغل الحرب فيصبوا على رؤوسنا جام غضبهم، والأسباب كثر،.. آه.. أي مستقبل ينتظرنا والأولاد بعدئذٍ؟ الأولاد.. أجل.. الأولاد.. صابرين، وهدى، ويوسف، إنهم برآء في دنيا ألقت بشتى المقابح في سبيلهم.."، وكان أبوه (طه المنشاوي) يروي له عن واقعة قصف الأسطول البريطاني للإسكندرية إبان "هوجة عرابي"، فيقول له :
- وطعن المالطي سيد العجان (المكاري) بسبب قرش صاغ فأشتعلت نذر الفتنة بين الجاليات الأوربية والمصريين، ومن أجل ذلك جاء الإنجليز بمدفعياتهم يدكون الإسكندرية دكاً تحت دعاوي حفظ الأمان.. وقد كنا يومذاك في بيتنا أكثر شيء تهيباً وقلقاً لا نعرف من أين تأتينا الضربة ونحن ننصت لوقع البارود في صمت يكاد ينطق،.. وهكذا وقع الاحتلال الذي - لانزال - نعاني منه بسبب قرش صاغ وحمار!
ثم يتذكر عهداً كان فيه يحرث الأرض مع أبيه في أبي تيج قبل أن ينتقل إلى الإسكندرية،.. ويبتسم بهاء الدين حتى حين تنزل على كتفه يد امرأة حنون، إنه زوجه فاطمة وسألته :
- فيم هذا الاستغراق؟ (ثم وهي تستشرف ما يجري بالسبيل من النافذة..) وما السبب وراء تلك الجلبة؟
وعادت تقول له بعد أن رأت مشهد الضابط المحمول على الأذرع :
- إلهي ! ما أبغض هذه الوحشية التي تنزل بالنفوس فتنسيها نعمة العطف ! ومن ذا يكون قد تورط في فعلة شنعاء كتلك تعافها النفوس؟ إني أعرف عن أهل كرموز إنسانيةً وتسامحاً تنزههم عن الاستغراق في الثأر.
وقال لها وهو العارف بسبب انفعالها من قبل :
- يقولون إنهم جماعة من العربجية المجهولين نزلوا هنا قبل حين.. علينا أن نتوقع اليوم، أو في الأيام التي تليه، كل شيء، ثم أن نتجهز لأي شيء ! (ثم وهو يتذكر حديثها عن تنزيه أهالي كرموز..) وحي اللبان؟ ألم تقع فيه حكاية ريا وسكينة المعروفة قبل ما يربو على عقدين؟ أنتِ تحسنين الظن بالإنجليز وبالمصريين وبالجميع بسبب معدنك النقي.
وسألته وهي تمسك بيده تواسيه :
- إنها الشرذمة القليلة تسيء إلى الكل وتضر بالجميع، ومهما يكن.. سوف نكونان سوياً في المكره والمنشط.
واقتحم وحدتهما يوسف يقول في صوت عالٍ :
- أعرف كبير العربجية الذي آذى الضابط الإنجليزي،.. إن اسمه حسين سليمان !
وهرع بهاء الدين صحبة ابنه يوسف إلى نقطة الطوبجية كي يبلّغانِ ضباطها الإنجليز بالحقيقة، إنها المقصلة على وشك أن تهوي فوق الرؤوس وها هي الأذرع تتكاتف كيما تمنع وقوع النهاية، كان يوسف يقول لأبيه وهما يعدوان :
- أبصرتهم يحيكون خيوط المكيدة في مقهى الفنانين، كانوا يعدونه بالحب الذي سيجده في كوم النادورة، ويسرفون في صب الخمور التي تفقده المقاومة!
وسأله الأب :
- وما الذي ساقك إلى هناك؟
وأجاب يوسف مختلقاً سبباً :
- أردت رؤية الفنان المعروف عزيز منصف لا أكثر..
وتدانيا - بهاء الدين ويوسف - من القسم فألفيا بابه العتيق موصداً، وكان مبنى القسم عادياً لا يتميز عما يحيط به من مبانٍ، وطرق بهاء الدين على بابه بكلتا يديه فلم يظفر بجواب اللهم إلا من ضابط مصري جعل ينادي من وراء الباب :
- ماذا تريد؟!
وأجاب بهاء الدين وهو يطرق على الباب بشدة :
- أعرف المذنب الحقيقي وراء ما جرى للضابط الإنجليزي !
وانفتح الباب رويداً رويداً فأحدث صريراً هائلاً وثارت في الأفق أغبرة بلغت عنان السماء المكفهرة، وقال الضابط المصري بينما ينفض عن نفسه الغبار :
- ومن يكون المذنب إذن؟
ونظر بهاء الدين إلى ابنه يوسف يستنطقه الجواب الذي نسيه فأجاب الصغير :
- إن اسمه حسين سليمان.. رأيته في مقهى العوالم.. ونريد رؤية الضباط الإنجليز كي نستأخر غضبهم.
وحاول يوسف الولوج إلى الداخل حتى اعترضه الضابط المصري بيده، وقال في هدوء لا يناسب المقام :
- صدقوني.. إن أمركم كمن يحارب طواحين الهواء، لقد سبق السيف العذل وقضي الأمر بغير رجوع.
وسأله بهاء الدين بينما ينغلق الباب الحديدي في وجهه :
- ماذا تقصد بـ "قضي الأمر بغير رجوع؟"، (ثم حين يفقد الأمل في محاورته..) فلتجب أيهذا الضابط الجبان !
وجاء بهاء الدين بكرسي خشبي وجلس من أمام القسم ينتظر أية شاردة أو واردة تنبأ بتحول الموقف، وكان يوسف يشاركه الوجوم تارة، وتارة يتقلب - معه - في أحوال الأمل والسؤال، ثم في أعطاف اليأس والرجاء.. ذلك حتى أظلم الليل دون جديد، وسمعا أزيز الطائرات الإنجليزية فحدس الرجلان أمراً وانتفضا من مجلسهما ناهضين،.. وعاد بهاء الدين إلى بيته كي يَطمئن على أهليه وقد نازعته نفسه إلى البقاء حيناً (أمام القسم) حتى غلبه هاجس الرحيل ورجح الخوف قراره، وسمع في طريقه أصوات الانفجار تنذر بحرائق لم يحدد مواقعها، وجعل يسأل نفسه كمن يكذب أذنيه: "أحقاً استهدفت طائرات الإنجليز حيّه؟ أي طيش هذا وأي جنون؟ إنها حماقة القوة تحدو بصاحبها إلى استخدام أسباب من البأس في مواجهة عُزَّل من الناس لا تليق إلا بالنظامي من الجيوش،.."، واستيقن من وقوع النائبة واستحكام حلقاتها حين أبصر حانوت أخيه عز الدين يحترق، والتهمت لهائب النيران الأخشاب فيه وسرت سرياناً عاتياً حتى حسب الناظرون أن ليس في وسعهم مغالبة الأمر، وتهاوت ألواح من الخشب بعد أن نهشتها النيران فاستحالت هشيماً، كانت هدى وصابرين وفاطمة - علاوة على رجال الحي المتطوعين - يتشاركون جميعاً في إطفاء الحريق، وشرع بهاء الدين من فوره يشاركهم الأمر نفسه ويحثهما على ترك المواقع الخطرة، وكان يحدث أن يسمع الناس وسط المعمعمة يهتفون من حوله في هلع فينقلب إلى حال من الاستمساك بالبأس واليقين متجشماً هول ما جري ويجري :
- "يا لطيف يا لطيف، يا رءوف يا رءوف.. ".
وتردد الهتاف كأنه أهزوجة طمأنينة فوق صفحة من الدمار، وسمع صوت ابنه يوسف يقول :
- لقد استهدفت طائرات الإنجليز مخازن الأخشاب والأقمشة والألبان.. وقد نجا حانوت أبي دون عمي من القصف المخيف !
والحال أن السماء أمطرت - وقتئذٍ - قبل أن يجيء فصل الشتاء بأيام وانفتحت خزائنها انفتاحاً محموداً، وجاءت المعونة الطبيعية تؤزّر أهل الأرض بحي كرموز فزاداتهم عزماً وإصراراً، وأوحت الغيوم المتكاثفة بأن شيئاً يستطيع أن يزيح عن كاهلهم جزءاً من وطأة النائبة المزلزلة، وتردد الهتاف من جديد هذه المرة من زاوية الإيمان بعد الخوف، ومن واقع العجائب التي تتحقق :
-"يا لطيف يا لطيف، يا رءوف يا رءوف.."
وحملت لهائب النيران الرماد في ليلة المطر المدرار،.. بعيد أن هدأت الأمور واستقرت العاصفة جعل بهاء الدين يرقب الخسائر، وانتابه نزوع إلى الرضا - أشبه بالتصوف - فقنع بما كان، لقد شهد على القيامة بعينيه ونجا منها بأعجوبة، إنها ليلة ستظل ذكراها الكئيبة في قلبه ما دام حياً.. وحمد الأقدار التي حفظت له أرواح أحبابه فيما كان يسمع في جبل نعسة وكوم الشقافة عن أنباء الضحايا والجرحى، وطاف بأقربائه يطمئن عليهم واحداً واحداً، وجعل يردد سائراً بين بقايا الأخشاب وبرك الماء :"صابرين، هدى، يوسف، عبد الغني، عز الدين.. حمداً لله.."، والأخير (عز الدين) بدا له على حال من الأسى عظيم بعد احتراق حانوت الأخشاب وانتهاء تجارته فيه فشد الرجل من أزره، وواساه مواساة الصامتين، ثم ربت على كتفه في عطف تشكل من معاني الإخاء كأنما يحثه على أن يضرب صفحاً عما نزل به.. ومكث الأخير (بهاء الدين) يرقب جذوة النار الأخيرة وهي تنطفئ تحت الأمطار فتغالب ريحاً تغلبها.. وعاد إلى بيته - بعد أن اطمأن إلى استتباب الأمر - وانفرد وحده يرقب لألآت النجوم على أديم السماء، ذلك حتى جاءته فاطمة تقول :
- إن أخاك عز الدين يود أن يراك..
وجاءه أخوه حازماً حقائبه، فسأله بهاء الدين بصوت موسوم بالإنهاك والحزن :
- إلى أين؟
وأسند عز الدين حقائبه إلى جدار الحائط، قال وهو يهم بالجلوس :
- إلى الصعيد.. أسيوط.. ما من لقمة عيش لنا في هذه البلاد بعيد اليوم ! وحرارة الصعيد أخف وطأة من قنابل الإنجليز.
وحضر عبد الغني فقال :
- حاولت مخلصاً أن أثنيه عن الأمر، ولكن يبدو لي عازماً عزماً لا ينثني عنه.
واقتحمت هدى انفرادهما فجعل الباب بعد دخولها يروح ويجيء، قالت لعز الدين :
- إن هذا مرامهم.. أن يتخلى أصحاب البلاد عن ديارهم فتطيب لهم دنياهم، وتجارتكم..
وقال لها عز الدين في انفعال كامن كالبخار تحت غطاء القدر يدفعه :
- أي تجارة تبقى لنا تحت الإرهاب والترويع؟ ولولا أن أخطأت قذائفهم رؤوسنا لكنا - كالتراب - نسياً منسياً.
وقال عبد الغني :
- سوف نتشارك مع عمي في تجارة حانوته ريثما نعود نقف على أرجلنا !
وقال عز الدين في صوت جامد :
- لقد قضي الأمر، إني لا أرتضي لنفسي عيشة طفيلية فوق أكتاف آخرين..
وقالت هدى تنظر لعبد الغني وعيناها كأنها أسبلت :
- ولكن..
وقال الشاب لأبيه :
- ألا يظهر النبت في الصحاري الجرداء؟ ولا تجزعن فلست أول امرئ ضاعت تجارته.
وأخذت عز الدين غضبة فقال ناهضاً :
- وإنَّا قبلنا بالمر أجلاً ولكنه أبى بأن يقبل بنا،.. ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، مثلما لا يقبل بالهوان إلا سفيه أو متخاذل.