كان عبد الغني منهمكاً في حسابات تجارته، إنه يصل الليل إلى النهار، ويتجهز لعرسه، ولا يبالي بكساد ما بعد الحرب، وطفق يرش الماء أمام الحانوتين في رميات متفرقات، يخفف من وطأة الحر، هنا وهناك.. وتنهد متذكراً بهاء الدين حين عهد إليه بإدارة حانوته فناجى نفسه :"إنها مسؤولية ثقيلة هذه التي أوكلت بها إليَّ، غير أنها نعمة في آن.."، ثم انسحب خاطره على أبيه عز الدين فقال :"وأما أنت فقد تركتني نهباً لحياة لا ركن فيها ظليل أو سند بها متين.."، وإنه كذلك - يرش الماء ويستعيد الذكرى - حتى وعى حقيقة هذا الحانوت الجديد، واقترب منه أكثر فأبصره يبيع الأثاث، وسأل عنه المكاري الذي يجاوره ثم نفر من أهل الحي فأجابوه :
- إنه لتاجر يهودي، اسمه زكريا، نزح من درب البرابرة بالقاهرة واستقر بالإسكندرية..
ودلف إلى الحانوت فحيّاه التاجر الذي كان يعرف به، وسر الشاب بالاستقبال سروراً أزال عنه تكلفاً ورهبةً، وسأله وهو يختبر متانة بعض قطع الأثاث بيديه :
- أعذرني.. ولكن أنى لك بهذا الأثاث الفاخر؟!
وأجابه :
- إنني ابتاعه من شركة " بونتريمولي" !
وأبدى عبد الغني جهله بالشركة ذات الاسم الصعب وهو يسند يده على أريكة من خشب البلوط، فقال زكريا والعجب يتنامى في ذهنه :
- إنها أشهر شركات الديكور والأثاث في مصر،.. يعرفها المشتغل بصنعتنا وغير المشتغل ! أين كنت طوال المدة الفائتة ؟
- كنت في أسيوط !
واقترب زكريا منه بعض خطوات، وسأله :
- أهي مدينة جميلة؟
- أجل، ولكن الفقر والمرض يزريان بها.
وقال زكريا في انفعال مزيف :
- آه.. أبصرت المعاناة في عينيك حين نطقت بالاسم (أسيوط) أول مرة، وكان لا يجب أن أسأل أكثر !
وأشار إليه زكريا أن أجلس على مقعد من أمام مكتبه، وقال وعلى وجهه شيء من الابتسام :
- وإني أسألك : لم لا تكون شريكاً لي ؟!
وبوغت الشاب بعرض التاجر، فقال :
- ولمَ تثق بي؟ (ثم وهو يلتفت إلى زبائن يتوافدون على الحانوت فييجبهم صبي له إلى مطالبهم..) أعني أن تجارتك رائجة إلى الحد الذي يكفيك شراكة آخرين..
ومكث زكريا يناور ويماطل لما يزيد عن الساعة دون أن يأتي بالجواب الفصل، إنه ليتحاشى الجواب عن السر الذي من أجله يعرض عرضه هذا، وكان عبد الغني أكثر شيء إلحاحاً حتى أن تلهفه إلى معرفة السبب جاوز رغبته في جواب الطلب، إنه لا يستطيع أن ينزه محدثه أو أن يوصمه، وقد علمته حصائل التجارب أن وراء كل ظاهر خفياً، وقال أخيراً :
- أخشى أن تسوء أحوال اليهود في مصر إذا وقعت الحرب ! أريد رجلاً يحمل ملامحاً مصرية أصيلة - مثلك - استتر وراءه، إنني لاتقي يوماً يأتيني فيه الرعاع واللصوص..
وسأله عبد الغني في فضول :
- لقد أصدقتني الجواب هذه المرة.. (ثم كالذي يستوثق من أمر ما..) وإلى أي الكفتين بالحرب تميل؟
فأجابه زكريا :
- إني تاجر مصري،.. ولا تسألني عن الحرب !
ووقف عبد الغني فبدا أطول بأشواط من زكريا، وقال وهو يسلم عليه بيده بينما تسطع عيناه كالنيرات :
- اتفقنا..
وعاد عبد الغني إلى حانوته فألفى هدى تنتظره وقالت الفتاة في هزو :
- إن أمي تحضك على الإسراع في أمر الزواج !
- وما الذي جد كي تبدي حماستها هذه؟
- لقد لاحت أمارات تشي باقتراب مجيء المولود الثاني على صابرين !
وأمسك عبد الغني بخشب المكتب كي يحجب عن أختها حسده، (وقد كان يسيراً عليه كل يسر أن يجد خشباً في حانوته الملآن بصنوف الخشب ليفعل ما فعل!)، وقال منتشياً بتلك الصفقة التي تمت للتو بينه وبين زكريا :
- أعتقد أن نُذر الفرج تقترب..
وراجت تجارة عبد الغني رواجاً اقترن بشراكته التجارية مع زكريا الذي كان يعمل بجد ونشاط حتى في يوم السبت، وحتى لقد هجر الشاب تجارة الأخشاب الخام إلى غير رجعة، واستبدل بها بيع الأثاث الجاهزة من الأرائك والخزانات والسرائر، وأضاف الجريد، صنعته القديمة، إلى التجارة الجديدة، واستخدمها في تشكيل بعض القطع فأصاب سعيه وأفلح، وبلغ أفقاً لم ينله من قبل،.. إنه الأمر الذي أغراه بالعمل والمزيد منه،.. وكانت هدى تسأله :
- ومتى نتزوج إذن؟
ويجيب :
- يوم أن تنتهي الحرب في فلسطين !
- وما شأننا بها؟!
ويفصح لها الشاب عن أحوال اليهود في مصر وعن شريكه زكريا الذي ينتظر عاقبة الحرب،.. كان زكريا يحدثه قبلئذٍ عن أيدي اليهود البارعة التي تقتحم شتى الأسواق فتوفق في النبوغ فيها، حتى شركة "بونتريمولي" للأثاث التي كانت سبباً في ازدهار تجارة الاثنين أسسها اليهوديان هارون وفيكتور، يرى زكريا أن ليس بالإمكان أفضل مما كان، فاليهود المصريون يعقدون صلات من المودة مع القيادة البريطانية والسلك الدبلوماسي، وحتى المجتمع الراقي بالمدينة، وأحوالهم الاقتصادية والمالية والمعيشية ناجحة،.. وكان هذا الحديث يخبو بازدياد الاشتباكات العسكرية في فلسطين، وتضاءلت نشوة الزهو أمام سطوة أنباء الوقائع المتسارعة، وكان عبد الغني يطمئنه - عن غير اقنتاع في جل المرات - فيقول :
- لا تقلق،.. فغداً تنقشع السحابة ويعود الماء إلى مجراه !
1948م..
ومضت الحرب في اتجاه هزيمة العرب، خرجت مواكب الانتصار من الدبابات التي شقت سبل العاصمة، ولكن عوام الناس - أو المحققين منهم - لم يكونوا ليجهلوا بالحقيقة الغائبة.. وأفضت الهزيمة إلى الاحتقان تجاه اليهود المصريين.. وتوسل زكريا السلامة فغدا حاله معلقاً وقلبه مسارعاً إلى التوجس وأما خاطره فقلق عجل.. وذات نهار سمع عبد الغني ضجيجاً يأتيه من جهة حانوت زكريا، فهرع إليه مشمراً عن ساعد الجد، وكان نفر من الدهماء يحيطون به وفي أعينهم يفيض الشرر بينما يقول لهم الرجل في خوف (زكريا) :
- وما جريرتي؟.. إنني تاجر مصري قبل كل شيء،.. ولا دخل لي بالحرب الدائرة في كثير أو قليل !
وحاول عبد الغني الفصل بينهم فتهيب المتحمسون لمقدمه، ولم يتركوا خصيمهم إلا حين أكد لهم الشاب مراراً عن حياد التاجر اليهودي، وقال له زكريا حين جعلوا ينفضون من حولهما، رويداً :
- اليوم انتهت إقامتي في مصر، إن من الحمق أن أنتظر حتى أُقتل!
وقال عبد الغني :
- لا تبتئس،.. إنهم محض متحمسون !
- وكيف لا أبتئس،.. ألم تقرأ الجرائد؟
يعي عبد الغني حقيقة تفجيرات القاهرة 1948م وتصريحات رئيس الطائفة اليهودية هناك، سالفاتور كيكيريل، وقصف الحي السكني بالقاهرة، يقول زكريا بينما يمسك عبد الغني بالجريدة :
- بالأمس (19 يوليو) انفجرت القنابل في عدد من الحوانيت اليهودية !
وسأرحل عن مصر في أقرب السفن قبل أن تبلغني لهائب البارود..يستقر زكريا على قراره، ترتخي عاصفة الانفعال وتتمخض عن رغبة أكيدة، وتبرز نواياه فوق الأتون الملتهب، ويقتضي رحيل الرجل المفاجئ عن البلاد شراء عبد الغني لحصته،.. يبحث الشاب عن موراد تتم بها الصفقة فتقترح هدى على أختها صابرين أن تقايض الأساور وعلى أمها أن تبيع الحلق وبعض المتعلقات،.. ويرتضي زكريا بالقليل أمام سلسال الحوادث المخيف الذي يتتابع دون ضابط، على حين يجد عبد الغني نفسه مالكاً لما لم يكن في الحسبان ! ووقف عبد الغني يودع زكريا في ميناء الإسكندرية، ها هي ذي البواخر ترن أجراسها، وهذه أدمع المودعين ومناديل المشيعين،.. وكان زكريا معتمراً قبعة زرقاء أشبه بالقبعة الإنجليزية، رافلاً في بلطو يحمل اللون الأزرق عينه، وأما عبد الغني فقد ساورته عواطف متناقضة، فمن جهة فقد سر بما آل إليه من الملكية الجديدة، ومن جهة فقد انتابه الحزن لخسارة صديق له، ولا ريب أن عاطفته الأولى كانت أقوى من الثانية وأبلغ أثراً، وقال زكريا خفيض الصوت :
- إن ود مفقود صار بين عامة المصريين وبين الطائفة اليهودية منذ أحداث أعمال شغب يوم بلفور،.. إنها حقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار !
وكان عبد الغني عارفاً بالأحداث التي وقعت بالإسكندرية منذ سنين ثلاثة، فاستحضر صورة مظاهرات حزب مصر الفتاة والإخوان المسلمين المناهضة لليهود التي رأها رأي عين، وغير هذا مما نجم عنها.. وتساءل بينما يبلغ رذاذ الموج قدمه :
- وإلى أين تحط بك قدماك؟
- بروكلين، مقاطعة نيويورك، في الولايات المتحدة !
وبدت الولايات المتحدة - آنذاك - وبعد انتصارها في الحرب الكبرى قطباً عالمياً، ومجتمعاً حالماً يخطو أولى الخطا نحو الوفرة، فقال عبد الغني متأثراً بهذه الدعاية السائدة :
- ستكون إقامتك هناك موفورة وآمنة !
- أتمنى هذا..
وتطلع زكريا إلى المدينة التي وراءه، وجال ناظريه من اليمين إلى اليسار، فقال حين استقر بصره إلى أقصى نقطة بالشمال في أسى :
- أخشى أن تفقد المدينة بريقها إذا فقدت تعدديتها التي عرفت بها، وتسامحها الذي عُهد عنها، ثم هجرتها الطوائف والجاليات تباعاً، بحق السماء، سأفتقد إلى الاحتفال في ليلة التوحيد في أول نيسان بالمعبد ههنا، المزامير على الأنغام الشرقية، إننا نبدأه ببسمم الله الرحمن الرحيم مثل أخواننا المسلمين، ثم أننا نقرأ تسعة وتعسين اسماً هي أسماء الله الحسنى، وندعو بدعاء شبيه بما تدعون به، ونذكر الخليل وهارون وموسى !
وخطا الرجل خطوتين نحو البحر، فقال وقد طفرت عيناه بالدموع :
- وإذا سألك عنا سائل فأخبرهم بأن ثمة من اليهود من هم مصريون خلصاء،.. يؤثرون المصلحة المصرية على ما عداها من مصالح !
وأسبلت العيون الدموع في مشهد البحر والبواخر، وخلع زكريا قبعته، وقال عبد الغني :
- إن حايم نحوم أفندي (الحاخام الأكبر لليهود) رجل يحظى لوطنيته بالثقة، وسوف يزيل بدوره الغموض عن الأفهام !
وقال زكريا وهو يسلم عبد الغني قبعته :
- أخشى أنه لن تتحسن أحوال اليهود في مصر ما لم تهدأ الأمور في فلسطين ! وقد وقر في ذهن المصريين أن ولاء الطائفة اليهودية للأمة المصرية مشكوك فيه..
وحاول عبد الغني أن يتدخل من جديد، لكن زكريا قاطعه بقوله :
- وما جدوى الحديث الآن؟ ولقد سبق السيف العذل، قلة من تستطيع التمييز حقاً، وكفى بأجمل اللوحات خطاً عابثاً يفسدها.
واستقل زكريا السفينة التي جاءت أخيراً ملوحاً للشاب الماثل على بر الإسكندرية، وكان عبد الغني لا يبادله التحية لفرط تأثره، وغابت السفينة عن الرؤية - كأنما ابتلعها البحر - بعد دقائق قلائل، واستدار عبد الغني عن مشهد البحر فهدأت نفسه وطفت أسباب مسرته على سطح أحزانه، فتذكر هذا العهد الجديد الآخذ في البدء، عهد يستأثر فيه بنصيب الأسد من الأرباح والمسؤلية، إنه يدين بعاطفة ليس من سبيل إلى الشك فيها تجاه عرب فلسطين، ولكنه يأسى لما جرته الحوادث من إجحاف تجاه اليهود المصريين، وقد تحرر - بعد العاطفة والأسى - من كل هذا حين استدار عن بواخر المسافرين وفلك الذاهبين، كان مشهد عرسه إلى هدى يساور مخيلته أقرب من أي وقت مضى، فها قد أمسك الشاب بأسباب من الرزق تجعله يقف على عتبة الكفاية، وانتظر أن يعود لهدى كيما يروي لها عن مشهد توديعه للتاجر اليهودي وما حفل به من العواطف المشحونة لولا أن وعى، بغتة، هذه القبعة في يده، وهنالك جعل يصرخ صراخاً ينتهي إلى الضحك ثم يعود يندفع من حنجرته، عند قارعة السبيل :
- آه! زكريا ! لقد نسيت قبعتك ! (ثم وهو يستدير إلى جهة الميناء الذي كان قد ابتعد منه منادياً في سمر..) القبعة الإنجليزية ! وقد كانت لتقيك من شمس بروكلين !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
انتظمت حياة يوسف رفقة زوجه عفاف، لقد بات يهفو في مستقره الجديد إلى عطف أمه فاطمة حين تشمله برعاية، ويتشوق إلى حكايا صابرين وهدى عن الفتوات وحي الإبراهيمية، وكذا أمسى يحن إلى صرامة أبيه بهاء الدين في مواقف يخاله فيها الأب مقترفاً خطأً أو زللاً، غير أن تشوقه إلى هذا كله لم يحمله بعد على اتخاذ القرار بالعودة إلى بيت نشأته، ولم يدفعه إلى المغامرة بلقاء من فقدهم من جديد، إنه يعرف أن مصيراً ما سيجمعه إلى أسرته - مثلما يتفق أن تجمع الطبيعة بين الأشتات - ولكن قصور إرادته عن الفعل استأخر هذا الميقات المحتوم حتى حين.. وقصد ذات يوم إلى مقهى الفنانين فولج من الباب متحولاً إلى هذه الصورة الأكثر مرحاً وسمراً، وفكر في أن يوظف الرهبة فيسخر من سعد إسكندر مجرم الباب الجديد الذي شاعت سيرته، ولكنه خشى من أن يستجلب عداوة "المجرم الوسيم" فترد السخرية إلى نحره،.. وما لبث أن ألفى رشدي عبد العظيم يقوله له مستقبلاً، في بذلة رمادية :
- لقد تقرر، ومنذ اليوم، الاستغناء عن فقرتك..
وتساءل الشاب عن السبب وقد كان يعانق الجنون كاتماً جلبة داخلية تجتاح وجدانه كالعاصفة :
- وكيف يحدث هذا؟ ولمَ؟ ومتى؟
لم يجبه المدير أولاً فبدا كالذي يصعر خده في كبر، وانصرف عنه وقد طغت عليه ملامح الذهول، وتحول إلى المنصة الخشبية في أسى فألفى فقرات جديدة يقوم بها الحواة والمنشدون، وحدث نفسه وهو يلحظ حياد المتفرجين تجاه ما يدور :" أتعس بهاتيك العروض ! ولو أنها جُعلت لتسلية طفل لكانت خيراً من هذا.."، وترامى هتاف منهمر لحشود، ترامى من خارج المقهى يندد بصاحبه، فهرع إليه يوسف وهناك ألفى عفاف التي سرعان ما أخبرته بحقيقة الاستغناء عنها كأن المرأة في محنتها صدى له في محنته، وقالت بين المتظاهرين من عازفي فرقتها :
- إنها توصية من الضابط تشارلي هذه التي عصفت بنا،.. لقد أراد الثأر مني ومنك، إنه يعزو فشله العاطفي إليكَ ثم يصفني بالخائنة !
وقلب الشاب بصره في العازفين من الجالسين على أديم الأرض، وكان أكثرهم حزانى، وقال متأثراً :
- آه.. وما جريرة العازفين ؟!
وجلس الشاب محبطاً إلى جوارهم فأرخى ساقيه القصيرتين، وكانت الشوارع مبللة بالأنداء فاختار لنفسه حاشية الطريق وزفر هواءً رطباً، وكان رواد المقهى من زوار المساء لا يزالون يتوافدون كدأبهم وقال أحد العازفين الجالسين معلقاً :
- وفيم يتوافدون؟ ها قد فقد المقهى أهم فقراته..
وساد صمت ملؤه الوجوم أعقب الملاحظة الأخيرة، وهنالك برقت في عقل يوسف خاطرة، فنهض يقول متحمساً :
- "في منتصف الليل..
حين تسمع فجأة فرقة خفية..
تمر في الطريق بأصواتها وموسيقاها الصاخبة..
لا تندب حظك الذي ضاع..
ولا خطط حياتك التي أخفقت..
ولا آمالك التي أحبطت..
لا تأس..".
وقالت عفاف :
- لقد عاد يهذي بأشعار كفافيس مجدداً !
وعمت ضحكات من العازفين، قال يوسف - الذي انقطع عن إلقاء الشعر - وهو يشير إلى أحد الجالسين :
- هنا، نقيم مقهاً موازياً، أنت تعزف، وأنتِ تغنين، وأنا أُضحك التعساء وألقي الشعر،.. رواد المقهى.. أولئك الباحثين عن السعادة العارضة.. سوف يصطفون ها هنا ليشاهدوا فقراتنا !
واختلفت الآراء فمنهم من نسب الفكرة إلى جنون اليأس، ومنهم من استحسنها استحساناً حمله على إبداء استعداد بالمشاركة، على أن يوسف نهض فوق الطوار (الرصيف) من فوره يلقي بالنكات حول الحرب الدائرة، واحتشد المحتشدون حوله - ممن أضنتهم أنباء النكبة - قكأن الشاب نشر أريجاً ما اجتذب به القاصي والداني، وانجاب كابوس الهم الذي جثم على القلوب، وتحول تيار رواد مقهى الفنانين إلى هذا الطوار حيث يقف يوسف ومن معه، هنالك لاح رشدي عبد العظيم صحبة الضابط تشارلي يقول الأول بينما يتمثل بيده الرقم خمسة :
- إنها دقائق خمسة،.. وإن لم ترحلوا بعدها فستجيء تفرقكم الشرطة ثم تكسر آلالاتكم !
واقترب يوسف منه في خطى واثقة غاضبة فقال محدثاً المدير :
- بدأت حياتك خادماً في مقهى، وانتهيت دمية في أيدي الأجانب !
وقال رشدي عبد العظيم وهو يتحول عنه كالذي تلقى إهانة فلم يجد مناصاً من ابتلاعها إلى أن يئن أوان الرد المناسب عليها :
- احفظ لسانك،.. أيهذا المهرج، المجاوز !
وجرت بين رشدي وبين تشارلي غمغمة لم يستوضحها يوسف ومن معه وإن علت منها كلمتي :"الأوباش، الملاعين.." إلى حد مسموع، وجيء بعد برهة من الزمن بمدد من الضباط الممسكين بالعصيان، إنهم ذوي صيحات متوافقة تبعث على الفزع، جاءوا لتفريق حشد المتظاهرين والمشاهدين، فهرع الجمهور أول ما هرع، وصاح يوسف في العازفين :
- فلتبقوا ولا ترحلوا، اعزفوا الألحان ولا تخشوا شيئاً..
وعاد يقف فوق الطوار (الرصيف) يقول بقلب رابط وجأش ثابت مكملاً ما ابتدأه من شعر كفافيس على حين تثور الاشتباكات في محيط رؤيته المتفوق نسبياً :
- "ولكن مثل من استعد منذ زمن طويل..
وبكل شجاعة..
قل لها وداعاً..
ودِّع الإسكندرية التي ترحل..
وحاذر ألا تخدع نفسك..
ولا تقل أبداً :
لقد كان الأمر كله حلماً.. وتوهمات..".
كانت موسيقى الحشود تخبو شيئاً فشيئاً، وانفض الجمع أمام القوة القاهرة فولوا مدبرين، وعاد يوسف رفقة عفاف إلى بيتهما محزوناً وكأن الأقدار قد رمته بثالثة الأثافي (المصيبة العظيمة)، وقال لها :
- تركت بيت الأهل، واليوم صرت بلا مورد !
وأحس إشفاقاً على المرأة التي صحبته وتصحبه في هذا المخاض العسير، وقالت له :
- سوف نجتاز هذا معاً !
وبلغا حي البياصة، فانهال العوالم من معارف المرأة يشددن أزرها بعبارات العزاء كأنما بلغهن الخبر على أجنحة، وطفقن يعرضن عليها العمل في غيره من كازينوهات المدينة الساهرة، هذا بعد أن يقبلنها ثلاثاً يمنة ويسرة، على أن عفاف تحفظت عن أن تجبهن أولاً، ثم اشترطت أن يكون يوسف رفيقها فيما ستقدم عليه من أمر،.. وصعدا - يوسف وعفاف - الدرج وكان يوسف منكس الرأس مجللاً بالأسف فيما كانت زوجه تسري عنه بحديث لين، فلما بلغ الباب رفع رأسه وهنالك ألفى صوتاً مخشوشناً يقول :
- وكيف كانت إقامتك هنا أيها المشاغب؟
ورفع الشاب رأسه فألفى أباه بهاء الدين، وهرع إليه يحتضنه، وقال وقد تحركت عيناه بدمعة :
- عسيرة كل عسر..
وأبدى بهاء الدين تأثره فقال محولاً رأسه لعفاف، وكان حديثه إليها إعلاناً غير مشهر باعترافه بها زوجاً لنجله :
- هل ندم حقاً؟ إنما أمره إذا عزم على أمر ألا ينثني عنه قيد أنملة !
وقالت المرأة وهي تدخل بالرجلين إلى بيتها :
- إنه ليبحث عن صك غفران منذ فارق أهليه فلا عاد يهنأ بحاضره !
وقال بهاء الدين وهو يلتفت إلى المدينة ذات الأضواء من النافذة بعد ولوجه إلى الداخل :
- إنها مدينة خادعة، تأسرك أنوارها من علٍ وتشقيك الحياة فيها ! (ثم وهو يتلفت إليهما..) إن هذه الزيارة استأخرتها شواغل جمة، وقد حق لها أن تكون قبل اليوم بأشهر من الزمن،.. أعني عشية يوم انتقالكما إلى هنا مثلما ألحت فاطمة عليَّ، إنها (يريد فاطمة) تكن لك شوقاً وتحناناً تستأثر به الأمهات نحو بنيها إذا هم غابوا عنها، لقد قض فراقك مضجعها ومضعجنا، إننا ما نسيناك يوماً ولا سلوناك !
وروى لهما بهاء الدين شيئاً عن جلسات مجلس الأمة أثناء الحرب فقال كالذي يشي بسر من أسرار تستأثر بها مضبطة الجلسة :
- إن نفراً من أعضاء مجلس الأمة،.. علي أيوب وعلي المنزلاوى بك، وغيرهما.. وضعوا أنفسهم تحت تصرف القائمين على الحرب، لقد قاما بهذا رغم مجاوزتهم لعمر الخدمة العسكرية، ورغم فترة العطلة البرلمانية،.. إنهم يرومون تكوين فريق يمثل النواب في جبهة القتال !
وقال يوسف :
- آه.. هذه الروح التطوعية ! رأيت مثلها اليوم (يشير إلى واقعة فض مظاهرة العازفين).. إن على أصحاب الحقوق أن يستمسكوا بالسبل العقلانية والواقعية حتى النهاية ! ما أشقى هذا وما أعسره ! إن في استمساكهم هذا خدمة لقضيتهم.. كيف لكهول في مجلس نواب أن يغيروا مصير حرب إذا هم شاركوا فيها؟ والأحرى أن يلزموا مواقعهم ذات الحساسية في الأوقات العصيبة.
وأثنى الأب على جواب الابن بعض الثناء، وقال في شيء من السرور الذي يقف عند عتبة الامتنان :
- وقد كان يخيل إليَّ أن عمراً طويلاً يفصلني عن زواجك، ولكن ها هي ذي الثمرة تنضج قبل الأوان.
وقال يوسف :
- وليت أنها لم تنضج قط،.. لقد فُصلت عن العمل اليوم !
وقال بهاء الدين الذي لم يبدِ انفعالاً لما سمع :
- إن بمقدوري أن أمول بقاءكم هنا حتى حين تستقر الأمور، غير أن شرطاً واحداً يفصلني عن هذا..
وتساءل يوسف متلهفاً عنه، فأجاب الأب :
- أن تلزم عفاف بالكازينوهات الإنشاد دون الرقص..
وتُرك مطلب الأب حائراً بغير جواب وساد صمت تبودلت فيه النظرات، ونهضت عفاف ثم عادت بعد برهة وفي يدها صحن مملوء بالتمر تقول :
- إني موافقة..
وسر يوسف بالجواب سروراً مماثلاً لسرور أبداه الأب، وبدا له (يوسف) أن حياة جديدة على أسس سليمة ستبدأ منذ كانت تلك الجلسة المسائية، لولا أن إنفاق الأب على بيت تنسب ربوبيته إليه - ولو أن ملكيته تؤول إلى عفاف - بدا شوكة في حلقه، ولو أن صورته تبدو حبيسة لغضارة الصِبا.. أفلا ينسب إلى الرجولة التي تقضتي مهاماً واستقلالاً؟ إن هذا لعطف أبوي غامر ولكنه يضر بصورته زوجاً ورباً، ولأجل هذا كله أو لبعضه، قال للأب الذي كان يشد على كتفه منصرفاً :
- إن عرضك لهو من السخاء إلى حد أنه لا يرفض،.. ولكنه من البذخ إلى حد أنه لا يصح أن يستمر.
وحين نهض إلى النافذة تطل على مشهد الليل، عمد من فوره إلى التفكير في إيجاد عمل،.. ولكن أي عمل؟ إن سوراً يضرب على العاطلين، سوراً عالياً وشاهقاً وكئيباً، وقطم تمرة ثم رمى بالنوى من النافذة فابتلعها ظلام دامس، لقد جعل يردد في همس خاتمة شعر كفافيس كأنما انبثق من العصر الهيليني فاستوعبته الحقائق المعاصرة :
"اقترب من النافذة بثبات وأنصت في حزن..
لكن دون توسلات جبانة..
ولا شكاوي ذليلة..
أنصت إلى الأصداء المبتعدة..
إلى متعتك الأخيرة..
إلى الأصوات..
إلى الآلات الصاخبة..
للفرقة الغامضة..
وقل لها..
وداعاً..
وداعاً..
للإسكندرية التي تضيع منك !".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق