قال الفتوة النونو للنيجرو :
- وأما المسألة الثانية، فهي بخصوص قضية الحرب القادمة !
وانتفض النيجرو في مجلسه وكان يقلب ناظريه في أنحاء الفيلا ففطن إلى تراجعها العام من جهة الأثاث والمعمار بعد رحيل الإنجليز عنها، وراعه ما سمع، وتساءل :
- أي حرب تقصد؟!
- فلسطين،.. إن العرب يحشدون لأجلها ما يستطيعون من قوة، ولا ريب أن يكون للفتوات دور إذا جد جديد أو طلبتنا حكومة الملك !
ولم يستسغ النيجرو ما سمع فنهض يقول :
- إننا ممثلون شعبيون عن الشهامة والحق،.. لسنا جنوداً في معركة !
ونهض النونو لقيام محدثه، فقال :
- إن أبواب الشهامة والحق مفتوحة في السلم والحرب !
وبدا النيجرو متردداً وهو المجبول على الحسم والحزم، فقال :
- أعذرني.. إن طاقتي تقصر عن هذا المرام !
واستدار عنه الفتوة النيجرو - كالمنصرف - فقال النونو :
- كنت تحضني بالأمس على طرد الإنجليز، واليوم تتولى ساعة الزحف،.. أراك في وهدة الخذلان !
وقال النيجرو وهو يعبر عتبة الباب :
- احفظ فروق الأقدمية،.. ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها !
وفي مساء هذا اليوم فتح الليل ذراعيه الداكنين، تراءت ظلمته في الأنحاء، وفي الجو برد وشبم، لم يجد النيجرو من مأوى بعد أن تقطعت به الأسباب وضاقت عليه الحلقات، وفكر في أن يبيت ليلته على الطوى لولا أن رأى حصانه الضخم مكفهراً جائعاً، وغمغم متطلعاً إلى كبد السماء :"أنى لي ولكِ بالطعام؟!.. (ثم حين يهز الحصان رأسه وذيله كالمجيب..) أجل.. شون الإنجليز.. وهناك تجد التبن والأعلاف.."، يتسلل الرجل رفقة حصانه بين ضابطين إنجليزين فيسمع غطيطهما ويمضي، تتواتر معاني الحذر والتحسب على ذاتين يسيران في غبش الليل، تومض النفوس بتتابع البقاء والزوال في رهبة تجلل الحواس، يرى النيجرو فأراً يركض عنه غير بعيد فينتفض ولكنه ما يلبث أن ينعم بالسلام الجزئي حين تتكشف له حقيقة الحيوان،.. ويمضي النيجرو بين قفف التبن فيفتح واحدة ويودع ما فيها دلواً مجاوراً وينبري يراقب الحصان الذي يأكل منها في نهم عظيم،.. وخفض الضخم رأسه ثم رفعها فتطاير على الأرض بقايا طعام، واقترب صاحبه منه يقول بينما يمسح على رأسه:
- اخفض صوتك،.. إن هذا يكفي، وسوف نأخذها (القفف) معنا !
وعلت ضوضاء مباغتة فحرك الحصان داخل الدلو رأسه بسرعة، وتطاير التبن على الحائط، كان ضابطاً إنجلزياً يقول لزميله :
- "رأيت على الحائظ ظلاً أكبر من المعتاد !".
- "وإلى أين ذهب؟".
- "فلتتبعني !".
وأدرك النيجرو ضرورة الانصراف - على جهله بلغة المتحدثين - فعبر بين الضابطين اللذين كانا يطلقان نحوه سيل الرصاص ممتطياً الجواد، وانتهى مسيره إلى نقطة بعيدة عن مطارديه فسمع صهيل خيله - كالأنين - بعد أن نزعت به خلوته العارضة عن نطاق المخاوف ولو قليلاً، وهبط إلى قدمي حيوانه اللتين كانتا قد جُرحتا، وتكاثرت عليه المنكدات حين سمع صوتاً أعجمياً يقول :
- "إنه هناك، إنه هناك !".
واتبع النيجرو قلبه في لحظة إلهام فقصد إلى أقرب نقطة يعرفها ولا يفكر فيها ضباط الأمن الإنجليز : بيت بهاء الدين، وبلغه عجولاً فسمع صوت صابرين تغني :
- " يالعينيك ويالي من تسابيح الخيال فيهما ذكرى من الحب ومن سُهد الليالي.. عبرات الأمل المسحور في دنيا الجمال وفتور من ضنا اللوعة والسقم بدا لي..".
وسمع هشام عزمي يقول :
- آه.. آتني بالطعام يا ست أسمهان !
- لم ينتهِ بعد، أتكون أعجل من النار على الطعام؟
ويدق الباب فتواصل وهي تمضي إليه تغني :"وذهول الشاعر الهارب من حلم وصال.. وسؤال يعبر الأفق إلى رد السؤال.."، وفتحت مصرعيه فألفت من أمامها الفتوة الخمسيني كالمنهك من مطاردة ما مستنزف القوى والصورة، وانتابها الذهول بعد أن استوثقت من ملامحه، وبدت فاغرة الفاه كمن بوغت مباغتة زلزلزت حواسه، قالت هامسة :
- وماذا تريد في هذه الساعة؟
وقال النيجرو :
- إني أبحث عن مخبأ من ضباط شون الإنجليز ! بحثت عن الأعلاف والتبن في مخازنهم حين أشفقت على الحصان الجائع والساعة صرت طريدهم !
واستدارت صابرين إلى زوجها الذي كان يلاعب مريم فيخبأ رأسه في معطفه ثم ما يلبث يفاجئها بخروجه المباغت فتبتسم الصغيرة ابتسامة وديعة باشة، وقالت في انفعال :
- بربك.. ألا تدري أني امرأة متزوجة؟ ابحث عن ملاذ آخر.
وكادت تغلق الباب لولا أن الفتوة احتجزه بقدميه قائلاً :
- وأين رد الجميل؟ أعدت لك حقيبتك من اللص، وأبعدت فتحي العطار وأباه عيسى من طريقك، ثم ألزمت زوجك أن يقبل ما كان مستحيلاً قبل لقائي به،.. ولم أتبع معروفي بالمن ولا بالأذى !
وقطب حاجبيها فقالت في شيء من غضب :
- فلتدخل أيها التعس..
واستتر النيجرو عن عيون الزوج حتى أودعته المرأة خزانة في حجرة مريم، كانت تقع إزاء الغربال ذي الورود والريش الذي تنام فيه الصغيرة بالمساء، هذا الغربال الذي لم تنم فيه الصغيرة يومذاك.. فحين حل وقت النوم جاءت الأم بالطفلة في حجرة السرير النحاسي حيث ينام الزوجين، وسألها هشام عزمي عن السبب فقالت تختلق عذراً :
- رأيت حفاوتك بها هذا المساء،.. وأردت لها مناماً مجاوراً لأبيها !
تنام صابرين رفقة زوجها وطفلتها بجفنين لا يستغرقان أبداً، إن وعيها منتبه لأقل غمغمة تصدر أو حديث يترامى، تؤرقها ضحكات بائعي الفول الجوالين وأحاديث سمار المقاهي على صفحة السكون الليلي المريب، وتصطدم محاولتها المستمرة في الاستغراق على صخرة أحاديث الجنود الإنجليز الذين يذكرونها بالمختبئ في خزانة بيتها - فترتد إلى دنيا اليقظة، ويتهشم الجسر الواهي بين اليقظة والمنام، وتلتفت إلى مريم التي تنتحب على سريرها الجديد الذي لم تألفه ولم تأنس له، إن سريراً نحاسياً - في وعي طفلة - لهو المحيط الشاسع إذا ما قورن إلى غربال صغير ملون،.. إن بكاء مريم يؤرق مضجع هشام عزمي أيضاً فيضع بعلها المنفعل وسادة على أذنه ويغمغم في غضب متسائلاً عن جدوى الاستمرار في وجود الطفلة بالحجرة، وحين يتخايل لها أن الباب يدق ينتابها ذعر من تصور قدوم ضباط الشون، تفكر :" يالحماقتي ! جلبت وحشاً في بيتي وها أنا ذا أجني ثمرة رعونتي ! هل حقاً أذنت له بالدخول؟"،.. وحلت بشائر الصبيحة فنهضت قبل زوجها وهي التي لم تنم إلا لماماً، ونظرت إلى مريم فلم تجدها على السرير النحاسي فانتفضت، وهرعت إلى الغربال فألفت صغيرتها نائمة فيه، وحمدت الأقدار بعد أن تجمد في عروقها الدماء لثوانٍ، واتجهت إلى الخزانة ثم فتحتها - كأنها تطلق سراح شعورها بالإثم - فألفت النيجرو يغط في منامه متهالكاً في المساحة الضيقة، تقول:
- فلتنهض.. آن وقت الخروج !
وقال الرجل وهو يشرع في استراداد بعض ملامح صورته المعتادة من وقفته المستقيمة ووجهه الصارم، وأصابه صنف من الوهل حين رؤيته المرأة التي يحد بها، قال مرتبكاً :
- من الغريب ألا تثقي بي بعد كل ما جرى،.. كان يجب أن تنام الطفلة في غربالها ! لقد تسللت ابنتكِ إلى هناك (يشير إلى الغربال) بالمساء!
وسارت به بضع خطى في الطريق إلى باب الخروج، فسألته :
- هل حقاً أثنيت زوجي عن رغبته في منعي من ارتياد الجامعة؟
وقال :
- إنها حقيقة لا أحب التفاخر بها !
وسألته في فضول جديد :
- وما صالحك في هذا؟
وقال في تورية مفهومة المرام :
- كان بمقدوري أن أجيب عن هذا السؤال قبل أن تقع الفأس في الرأس، أعني قبل أن يتم الزواج الأخير وتنجبي طفلتك.. (ثم وهو ينفض عن جسده الهائل بعض الأتربة..) إننا أناس نعرف معنى الأصول !
وسألته سؤالاً ثالثاً حين يقترب مسيرهما من موضع حذائها الأرجواني قرب الباب :
- ولمَ لا تبيت في فيلل الفتوات وتترك سكنى الطيبين وشأنها؟
- إسماعيل سيد أحمد يأوي الغرباء في فيلته، والنونو أرادني جندياً في حرب !
ولم تفهم دلالة عبارتيه فهماً عميقاً أو مستوعباً وإن تعرفت إلى النونو حين أظهرها محدثها على اسمه المعروف لدى الأهالي : البعبع،.. وقالت عند عتبة الباب :
- وإذا أنت تحب ربة هذا البيت حباً حقاً،.. فلا تعد إليه !
وعادت صابرين إلى طفلتها فغطتها بقطعة من الحرير، ويقظت مريم حين لامس الحرير وجهها فكشفت عن عينين صافيتين بريئتين انعكس فيهما بريق النهار، وقالت :
- كان الأمس يوماً مشهوداً !
وقالت صابرين وهي تغير لها سروالها :
- ماذا تقصدين؟
- في المساء وحين عدت إلى حجرتي،.. حملني هذا الرجل على كتفيه وتنقل بي هنا وهناك، حتى سلمني لسطح فوق هذه الخزانة ثم إذا به يبهبط بي إلى الغربال !
وقالت صابرين في انفعال بادٍ وقد جللت المفاجأة تقبلها للأمر :
- أي رجل تقصدين؟
وقالت مريم كأنما تدلل على صدقها بانفعالها :
- كان ضخم الجثة، عريض المنكبين !
وقالت صابرين لابنتها في لهجة ناهية :
- وحاذري الحذر كله من أن تجيئي لأبيك بذكر عن هذا الأمر، مفهوم؟!
وانتظرت صابرين هنيهة من الزمن حتى أجابت مريم في شيء من أسف:
- مفهوم..
وكانت عينا الفتوة قد طفرت بالدموع وهو يهبط الدرج، لم تكن بنفسه رغبة في الهرب بعد أن فقد الغاية الحقة من بقائه، وهرعت صابرين إلى شرفتها تتابع حركته كأنما أورثها ما سمعته من الطفلة سؤالاً أرادت له جواباً، وفراغاً شاءت له شغلاً، وقالت وهي تطلع إلى حركة الفتوة :"عجيبة ! يحمل القساة والغلاظ قلوباً متهافتة أيضاً.."، إنه يهيم على وجه في جبل نعسة وكوم الشقافة فلا يولي للمتتعبين اهتماماً، ولا للمتترصدين حذراً، وما جدوى الاهتمام أو الحذر؟ ألم تقطع الفتاة شعرة معاوية الباقية؟ وواسته المدينة بوجهها المتزين، على الدوام، وقد يصح أن ينقلب كل شيء على عقبيه، ولكن ألا يظل المناخ؟ وريح الشمال؟ وحتى البحر هو هو على نقائه المعهود على عهد يوم نزل عليه منيلاوس، أول زائر للإسكندرية في رأس التين قبل ثلاثة آلاف سنة، وفي الليل تسطع كوكبة نجوم شعر برنيس بنفس البريق القديم،.. إنه يمشي بمحاذاة حصانه الضخم - صديقه الباقي - منزوع الزهو، وتنتشر الأنباء التي تشير إلى حركته الظاهرة، ويتكاتف ضباط الشون الذين اقتفوا أثره حتى أطبقوا عليه الخناق، ولاحظوا كيف أن الفتوة المعروف ببأسه ومناوارته لا يقاوم أقل المقاومة فتثير حالته المستسلمة بواعث الدهشة في نفوس من رأوه، وعهدوا عنه المقاومة حتى الرمق الأخير،.. وأودعته قوات الأمن نقطة الطوبجية فرجح الخلائق أنها نهاية الرجل، وخاتمة سعيه وطوافه، وكان النيجرو يقول مصفد اليدين :" الظلام ! أجل ! الظلام ما يرتاح فيه العاشق من نيران الغبن والغدر، إنه حقيقة فوق حقيقية الحياة ذاتها !".
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
اجتمع يوسف بعد انقضاء أمسيته مع ناتالي، وجلسا إلى طاولة الأبنوس بمقهى الفنانين يتحدثان، وسألها :
- وكيف وجدت الإسكندرية؟!
- إنها جميلة.. من المدهش أن تنعم المدينة بالتعددية في وقت تنضح فيه أوروبا بالأصوات العنصرية !
وقال يوسف وهو يصب كأسين، يصادقها :
- إنها كذلك منذ كانت راقودة (قرية للصيادين، أساس المدينة)، واحة ينعم بها الجميع !
وكان يوسف يجتهد في أن يظهر نفسه ومعه ناتالي في صورة المسرور أمام عفاف التي كانت تؤدي عرضها على المسرح، كان يحدث نفسه :"ولا جرم أنها ستكتوي بنيران الغيرة.."، والتفت إلى ناتالي فقال :
- هل تعرفين أني أنظم الشعر؟
- حقاً؟ سيكون من الرائع لو ألقيت شيئاً.
وقال يوسف كالمتراجع وهو يخرج ورقة من جيبه :
- في الحقيقة أني أنقل ما قاله كفافيس عن مدينة الإسكندرية : "قلت : سأذهب إلى أرض ثانية وبحر آخر..
إلى مدينة أخرى تكون أفضل من تلك المدينة..
كل محاولاتي مقضي عليها بالفشل..
وقلبي دفن كالميت..
إلى متى سيكون فكري حزيناً؟
.....
وستصل دوماً إلى هذه المدينة..".
وصفقت ناتالي تصفيقاً جذب اهتمام الجلوس من عرض المنصة الخشبية، واقتربت عفاف منه تقول :
- ألا تدري أنك تضر بالعرض حين تلقي مثل هذه الأشعار هنا؟
- إنها الغيرة إذن قد دبت في جسدك أخيراً !
- أي غيرة تقصد؟!
- آه.. بوسع المرء أن يخبئ حقيقة شعوره بعض الوقت،.. ولكن أنى له أن يخبئ عواطفه كل الوقت؟
- تزوجت من تشارلي، وأعتزم على أن أنجب منه ولداً، أنت مخبول.
وعادت عفاف تغني، على حين سألت ناتالي يوسف :
- هل بينك وبينها شيء أكثر من صداقة العمل؟
- كان هذا من الماضي !
وسألها يوسف :
- هل حقاً تدعمون الشيوعية في جريدتكم ؟!
- أجل، في جريدة الليبرتيه la liberté ندعم كل ما يمكن أن يساند المهاجرين الروس واليهود !
- ستظل الشيوعية رهاناً خاطئاً !
- في موقف الحاجة عليك أن تقبل بأي صديق ! يخيل إليَّ أن إقامتي هنا لن تدوم طويلاً !
وقال يوسف في إلقاء شعري معيداً عليها قول كفافيس :
- "وستصل دوماً إلى هذه المدينة !".
وساد صمت فعلت تقاسيم القانون على المنصة، قالت ناتالي وهو ترنو إلى العازف :
- إنني أخطط لزيارة معبد الياهو هانبى بشارع النبي دانيال !
- أعرف الطريق إلى النبي دانيال،.. سأصطحبك إلى هناك غداً !
وكان يوسف يتساءل صامتاً عن جدوى الاستمرار في هذه الجلسة، كان الشاب تائهاً في لجة أفكاره متطلعاً إلى حب جديد ينسى به ما مضى، ولكن فروقاً ثقافية واجتماعية بينه وبين ناتالي جعلت تطلعه مستحيلاً.. إنه يروم أن يشعر بأنه مستحق لشيء ما جدير به جدارة تامة، إنها رغبة في التملك ساورته - كعاشق مستهام - بعد فقدانه لشغف قوي كل القوة، كرغبة المقامر في إصلاح خطأ ارتكبه من سبيل الإمعان في اللعب على طاولة مراهنة، ولكنه بات يشفق على ناتالي بغتة، لقد أراد أن يستخدمها كيما تؤدي دوراً ما في تضميد جراح شعوره بالنبذ والرفض - الذي يقترب في أحوال إلى حدود إحساسه بالامتهان - حين يحدث أن يرى الضابط الإنجليزي تشارلي صحبة المرأة التي أحبها، وقال لناتالي :
- هل تبحثين عن زوج أو رفيق؟
وقالت :
- إننا - المهاجرين - نبحث عن ملاذ أولاً !
وقال كأنه ينزه نفسه عن شيء مما يدور في رأسه من استغلال الفتاة في إثارة غيرة عفاف :
- كوني حذرة، فما أكثر أصحاب الغرض !
وقالت وهي تأخذ تنهض :
- حسناً.. وسأعود لأرى عرضك غداً !
وثارت بين عفاف وزوجها تشارلي دواعي الخلاف، سمعته المرأة يسب المصريين جملة ويصفهم بالرعاع :"إن كثرتهم الكاثرة من السوقة الكسالى، ذلك أنهم لا يكفون عن التجرأ على ضباطنا، وعهدهم أنهم إن لم يُظلَموا ظَلموا.."، وأورثتها أوصافه لهم حنقاً واغتياظاً، ونصحت له بترك الثمول الذي يتلازم عادة مع إتيانه بمثل هذه الأوصاف، وأخفقت في إثنائه فذرفت دمعاً غزاراً واستأخرت خلافاتهما إرادتهما في مجيء الطفل، وتضخمت دائرة سقطاته وهفواته (تشارلي) حتى غدت حياتها معه جحيماً أرضياً، وطلبت المرأة منه الطلاق وألحت في منشدها إلحاحاً عظيماً، وكان يوسف يتسمع الأنباء بقلب يتصنع الشماتة ولا يلبث أن يميل إلى التعاطف، إنه إن قال :"ولا تلام البذور الخبيثة إذا هي أخرجت نبتاً فاسداً.. وليجنِ الطامع حيث يكون جزاءً عدلاً.."، فانخرط في هذا الشعور الأرضي، وجد شعوراً قوياً من الإشفاق يجتاحه، واستشعر الظلم يقترفه في حق المرأة التي أحبها حباً جماً،.. وجاء الغد فانتظر في السبيل قدوم ناتالي كيما يصل بها إلى المعبد اليهودي بالنبي دانيال، وطال الانتظار دون مقدم الفتاة الروسية حتى بدا على الشاب التململ والتبرم، كان الشاب يحفظ قولاً جهزه حين رؤية ناتالي :
-"وهذا المعبد قصفه نابليون في حملته الفرنسية لإقامة حاجز رماية للمدفعية بين حصن كوم الدكة والبحر،.. ولاعجب فلا توقير لرمز ديني أو ثقافي يبقى وسط رحى الحرب..".
وكان يتوقع أن تسأله الفتاة :
- "ومن ذا الذي أعاد بناءه إذن؟".
فيجيب مدعياً التفكير في الأمر لأول مرة :
-" وأعاد بناءه محمد علي..".
وعدم حواره المتخيل من تحقق لطول غياب محدثته عن الحضور، فتضاعف ضجره وسأمه.. ولاح خيال من مبعدة فانقلب الشاب لتوه إلى حال آخر فيه رضا، وهرع إلى صاحبته مهرولاً ولكنه ما أن اقترب أكثر حتى ألفا صورة أكبر من صورة ناتالي وخيالاً على الأرض فوق خيالها، فعادت تساوره الشكوك، ولاحت عفاف فاضطرب الشاب لرؤيتها اضطراباً شديداً، وقالت المرأة في تقرير:
- أعرف أنك كنت تنتظر ناتالي، لقد نصحت الفتاة لي بالقدوم بدلاً منها حين رأت في عينيك وهج الحب تبديه لي !
وقال يوسف في شيء من كبر باقٍ من شعوره القديم بالنبذ :
- حقاً؟ وماذا عن تشارلي؟
وقالت في حزن :
- لقد طلبت منه الطلاق،.. واليوم تحقق المراد !
وأفلتت منه ابتسامة عابرة حاول أن يكتمها متظاهراً بالحياد، وتعود المياه إلى مجراها القديم بين المتفرقين، يثير وجودهما على مقربة من المعبد اليهودي شيئاً من السخرية القدرية، تتألق المعاني مجدداً، وتعود الحياة مثلما تحمل الأشجار ثمارها بعد جدب الخريف، ويقر في الأذهان ألا قطيعة تدوم ولا وصل.. يدرك الاثنان عظم الخطأ الذي اقترفاه فيبدو تشارلي وناتالي ماضياً والياً تبتلعه حقيقة اللقاء الجديد، وقال يوسف متأثراً بما جرى :
- إنه لسعي حثيث يمضي فيه الإنسان قبل أن تتكشف له الحقائق في دنياه جلية ظاهرة !
وكانت عفاف تقول في شغب :
- إن هذا حق،.. ولكن يجب أن تكف عن سرقة أشعار كفافيس !
وقال :
- ألا يعد ناقل الشعر شاعراً؟
وكانت ترى غضبه فتسر به سروراً يحملها على الضحك، وتقول في نفسها :" ياله من طفل ! إنه لمضحك حين يثور، طريف حين ينفعل !"، ثم ما تفتأ تقول له:
- كلا.. ولا يزيد عن كونه مؤدياً، هذا إن أحسن الأداء !
فتجد منه أصداء الانفعال المفرط التي توقعتها منه، فتهنأ بها وترضى لها، وأسلمهما طول الحوار لصمت طويل، وطال تجوالهما حتى اقترب مطلع الفجر،.. كان يوسف يحدثها عن النبي دانيال - الرجل الذي يحمل الشارع اسمه، وكيف أنه - وفقاً للرواية التوراتية - قد صارت له مكانة بارزة في بلاط بابل من طريق تفسيره لأحلام الملوك، ثم كيف نجا الرجل من وكر الأسود، قالت عفاف :
- يبدو أن لديك حكاية لكل شيء !
وقال في تأثر :
- أحياناً يخنقني الواقع برتابته، يبدو الخيال ملاذاً لمن أعيته الطرق! ولكن.. كم يبدو الأمر مؤلماً حين تصدمك صخرة الحقائق فحينذاك تود لو أن بوسعك أن تذوي كغضن أو أن تتوارى كخيال ! إن أشد الرجال مللاً ليضيق ذرعاً بأحوال مكررة، أعرف أني لأهذي حين أقول ما أقول..
وشخص إليها - كالذي ينتهي إلى اختراق نواة شيء ما بعد طول تحير وتردد حوله - فقال :
- لماذا لا نتزوج؟!
- هل جننت؟ إنها الثالثة بعد منتصف الليل !
- بربك.. وهل ستعدم المملكة المصرية مأذوناً يؤدي الغرض في ساعة كتلك؟
- وماذا عن الشهود؟
- ما أكثر من يصلحون لهذا في مقهى الفنانين ! النادل امرؤ لطيف، والمدير (يريد رشدي عبد العظيم) يصلح كثاني الشهود !
وهزت رأسها في أسف - كالمنزعجة - وكانت تجتهد في صده عن مراده، فتقول:
- وماذا عن فارق السن؟
- سيذيب الحب الفوارق والموائز،.. أنا صغير نسبياً، وأنت طليقة ضابط إنجليزي أيضاً !
ولكن المرأة لم تجد بداً - بعد طول إلحاح منه - من أن تطاوعه مطاوعة يتمازج فيها القبول بالممانعة في قالب شبه متعادل يفضي إلى الانسياق، وسرعان ما عقد يوسف قرانه بها في ليلة الرجوع إليها فابتهج الشاب أيما ابتهاج، على حين لزمت المرأة شيئاً من التحفظ الممزوج بالغبطة، وعاد إلى بيت بهاء الدين ومعه زوجه، وقال لها :
- ابقِ هنا، ولا تتحركي ! (يشير إلى ما أمام البيت!)
وصعد وحيداً ثم دق على الباب ففتحت هدى، وقال لأبيه حين دخوله:
- هل تذكر مغنية مقهى الفنانين؟
وقال بهاء الدين ملتفتاً إليه بعد أن خفض نظارته فتظهر عيناه الزرقاوين:
- أعرف أنها راقصة بالأساس،.. ومغنية لا تحسن الغناء !
يمسك بهاء الدين بجرائد المساء فيتحدث وسط الأسرة عن بلاده التي تقف على شفا الانفجار، إنه يسهب في تصور السيناريو كالمؤلف تطاوعه الكلمات، يتساءل : أهي ثورة قادمة؟ أم حريق آت؟ يذكر شيئاً عن رغبته التي تلح عليه في الاستقالة من مجلس الأمة معدداً الأسباب الأخلاقية والعملية، تقول فاطمة شيئاً عن مثال القِدر المكتوم حين يُرفع غطائُه فتنطلق أبخرته، ولكنها تميل إلى تبرئة الملك من حالة الاحتقان الشعبي، تتداخل صابرين - التي تركت بيتها لتزور أباها - وهدى في حديث السياسة - كالمكرهتين - معددتين أسباباً وجيهة للاستقرار السياسي، يعود بهاء الدين يتحدث عن دول العالم الثالث التي يستوجب أن تحوز استقلالها بعد مخاض الحرب العالمية، ويذكر الهند التي حصلت للتو على الاستقلال مثالاً قريباً بمصر.. ويقف يوسف دون مشاركة، على شغفه بالسياسة، ذلك أنه ينوء بحمل الخبر الأهم، وقال كالذي يجس نبضاً :
- ماذا يحدث حين يفارق الناس غضارة طفولتهم؟ ألا يذهبون إلى المدرسة؟ ثم يستقلون عن ذويهم؟ ثم ماذا؟!
وقال بهاء الدين :
- فلتقصد إلى مرامك رأساً،.. لدي من الشواغل ما يكفي !
وقال يوسف مبتعداً خطوتين من أبيه كالذي يتقي انفجار بارود :
- لقد تزوجت اليوم بعفاف،.. مغنية مقهى الفنانين !