ولم يكن هذا الصباح كغيره من الصبائح التي مرت على بيت بهاء الدين، وحين يقظت هدى من نومها فجعلت تطوف حجرات فاطمة ويوسف وصابرين، كان ثمة هاتف يحرك لسانها بالقول :
- وقد أذنوا لأبينا بالانصراف أخيراً من محبسه، فلا عادت بعد الساعة تأسره غائلة القيود.. ولسوف يسعد الرجل حين يجدنا في انتظاره ! فالإسراع الإسراع !
وكانت صابرين لم تغفل قط إلا ساعات اقتطعها النعاس وتوقفت فيها الفكر عن تداعيها، وبدا - لأجل هذا - جفنها مقرحاً وعينيها مسدهتين، وسألتها أختها عما هنالك فقالت وهي تشير إلى النافذة كأن قريحتها عدمت من تعليق مناسب:
- فلتقٍ نظرة بنفسِك !
وتحركت هدى إلى حيث النافذة فأبصرت منها صورة الفتوة النائم على ظهر الحصان، وقهقهت الرائية حتى بدت مستهينة بما نزل بعقل الأخت من شجون الفكر وبما حل بوجدانها من حالات الاضطراب، فقالت صابرين في شيء من الجدية :
- علام تضحكين؟ انظري إلى هذا أيضاً ! (تشير إلى بعض حصوات تسللت من النافذة وتراكمت من أمامها..)
وقالت هدى وهي تبدي شيئاً أكثر من التجاوب :
- آه.. عثر حظ بنات بهاء الدين، شقي نصيبهن ! (ثم وهي تستعيد صورة الفتوة الرابض فوق الحصان) ما أشقى حظ الحصان أيضاً !
وقبضت صابرين على عدد من تلك الحصوات، ثم جعلت ترمي بهن عبر النافذة إلى حيث يقبع الفتوة النائم بالشارع في ظل غير ظليل، ولم تفلح محاولتها في إيقاظه وإن جعل الحصان يحرك هامته غضوباً، ولحقت بها هدى التي قالت لها :
- فلتدعيه وشأنه ! وارحمتاه له !
- ما أرق قلبك ! هل تبغين للأحمق السلامة؟!
- ويحك ! أليس إنساناً؟!
وظهرت فاطمة من النافذة الأخرى ومعها طست مملوء بالماء فألقت به على الفتوة الذي أيقظه السائل البارد فانتفض عائد الوعي، وسرعان ما اختفت الفتاتان تهيباً على حين جعل الفتوة يغمغم ويتوعد، ثم يُرْغِي ويُزْبد.. وعند نقطة الطوبجية وقف ثلاثتهن في استقبال بهاء الدين، وسرعان ما لحق بهم يوسف، وكان الأهالي من مثلهم يهتفون نكاية في الضباط المصريين وهم يستقبلون ذويهم :
- يحيا الإنجليز ! يحيا الإنجليز !
ولاح أكثر المفرج عنهم في صورة شاحبة الوجه نحيلة البدن، غير أن بهاء الدين قد بدا أفضل حالاً - بتأثير توصية الضابط تشارلي التي أتت أكلها - وإن بدا الهزال من أثر عام قضاه وراء القضبان واضحاً لدى وجنتيه النحيلتين، وعانق الأب صابرين فهدى ففاطمة فيوسف عناقاً محملاً بالمعاني موفور العواطف، وتساءلت صابرين وفي خاطرها هتاف : "يحيا الإنجليز!":
- وأنى للضحية أن تدافع عن جلادها على هذا النحو؟ لابد أنهم سئموا من مناطحة ثور أكبر منهم بكثير.
وقال الأب معتبراً بمدة السنة :
- إن الإنجليز، وللحق، قوم في غاية الدهاء، أجل، ولا ضير في أن يمتدح الإنسان خصمه في مواضع إذا هو أصاب حظاً من التدبير أو البراعة، وفي هذا براءة من الغيرة المدمرة للذات،.. إنهم يطلبون من الشرطة المصرية أن تحرر المخالفات على الحوانيت التجارية، وكذا القبض علينا (يريد التجار المصريين)، حتى إذا تحقق هذا لهم جاءوا بعد فترة تطول أو تقصر للإفراج عن المحبوسين كيما يظهروا أمامنا في مظهر الأبطال،.. وكذا للوقيعة بين فئات الشعب !
وكانت عودة بهاء الدين قد خلقت في النفوس أملاً عظيماً، وبعثت شعوراً متجدداً ما أشبهه بالحياة الدافقة، كان الأب - بالنسبة إلى الأسرة - سنداً متيناً، وظلاً وارفاً، وساعداً يركن إليه من أعيته السبل منهم في حياة الحرب والمفجآت والمتطلعين،.. إن شأنه شأن الجذع بالنسبة إلى الفروع والأغصان، وكان ثمة كثير من المسائل تنتظر فرصة البوح وتتحين مناسبة الإشهار، من إخبار الرجل بوفاة أخيه عز الدين، هذا الخبر الذي كتمته الأسرة عن ربها في محنته كتماناً أرادت به إبعاداً له عن مزيد من الأرزاء، إلى تفسير علاقة يوسف بالضابط تشارلي الذي لولا تدخله لاستحالت مدة الحبس عذاباً مقيماً أو لعلها طالت إلى أن يشاء الله أن تطول، مروراً بعودة عبد الغني وترتيب شؤون زيجته المنتظرة بهدى، وانتهاءً بحديث يوسف إلى الملك فاروق وتلك المصادفة اللعينة التي أرجأت الاحتفاء بالحرية عاماً كاملاً،.. حتى حياة السجن يريد الأب المسترسل في وصف مآسيه وآلامه أن يفرغ ما في جعبته عنها، على أن الصمت كان بليغاً وذا رونق في حضرة الصبح المشمول بالنعومة والبرودة والمعاني الكثر، فكبر على الجميع أن يتحدثوا، وانبروا يتبادولن النظرات الراضية وقلوبهم معلقة تكاد - لولا شيء باقٍ من شعور بإجحاف نال طوال عام كامل من الأفئدة - أن تحلق فلا تعود.. وعليه،.. كان الصمت نفسه مسهباً وكافياً، غير أن سؤالاً انبثق من حالة الصمت الراضية هذه ورد على لسان الأب يقول لصغرى بناته (صابرين) :
- أما يزال الفتوة الأحمق يطمع في التقرب إليك ؟! (ثم في غضب..) ولا جرم أنه استساغ الأمر في غيبتي !
وروت له فاطمة واقعة الطست المملوء بالماء الذي أيقظ النيجرو منتفضاً، فسرت ضحكات أعقبها بهاء الدين بقوله قاصداً امرأته وقد قرت عيناه :
- أحسن به من تصرف ! إنها امرأة بألف رجل !
وكانت عودة بهاء الدين إلى حيّه وسكناه مشهودة، وأضيئ الحانوت الذي ظل طوال العام الفائت أحلك من غيابة الجب، وأدار الرجل المذياع على تلاوة الشيخ محمد رفعت عساها أن تحفظه في بدايته الجديدة، ولكنه عاد يتساءل : ممن تحفظه التلاوة على التحديد؟ من الفتوات أم الإنجليز أم الضباط المصريين من شاكلة زكي طبيلي أم عيون الحاسدين كعيسى العطار وابنه اللذين استقبلاه مظهري الود ومضمري غيره؟ وأسهب في الدعاء لأخيه حين رأى الحانوت المقابل شاغراً وتمنى له متضرعاً منازل الفردوس، لقد أظهرته فاطمة على الحقيقة الغائبة في لحظات من التردد.. كان من الملفت أن يتوافد الحائجون والمعوزون من أهالي كرموز الذين ظلوا ينتظرون يوم خرجوه بفارغ الصبر - يتوافدون إلى الحانوت تباعاً، إنهم لا يعودون ينصرفون إلا وقد أرضاهم، وقد دلت هذه الظاهرة على شعبية كامنة،.. وكانت فاطمة تقول له في تندر:
- فواعجباً ! تمنحهم المال وأنت العائز !
والتفت بهاء الدين إلى جدران الحانوت فخالها أضيق من حالتها في أي يوم، فما أشبهها بسجنه القديم الذي تملص لتوه منه ! حتى عمله بالرقابة الفنية غدا شيئاً ثقيلاً على قلبه بحضور مديره المتعجرف أمين فريد،.. وساورته أحلام الرئاسة مجسدة في صورة عضوية مجلس الأمة،.. وسوف يتقدم مستقلاً بغير ظهير حزبي فممن يخاف - إن كان ثمة خوف - وقد أمسى الوفد في قناعة الرجل واهناً، والأحرار الدستوريين نخبوياً، ومصر الفتاة فاشياً، ولا ممثل عن الأمة المصرية الممزقة بين المحتل الخارجي والفوضى الداخلية، وعاد يتذكر حالته المادية - وحالة أسرته - واعياً حقيقة أنها تقصر بأشواط عن المشاركة - فضلاً عن التفوق - في مخاض الانتخابات،.. وقال لفاطمة التي كانت ترش ماء الورد - خلافاً للمعتاد إذ هي تلزم بيتها جل أوقاتها - في جنبات الحانوت احتفاءً به :
- ما رأيك في عضوية مجلس الأمة؟ وقد أظهرتني محنة السجن على أهمية النفوذ السياسي.
وقالت له شيئاً كان لتوه يفكر فيه :
- بربك.. ومن أين نجيء بنفقات الانتخابات؟ هل تعرف أن هدى في عامها الأخير دأبت على أن تدخر قروشاً ستة بالمشي بدلاً من استقلال الترام الأزرق كي تعود من شغلها اليومي بالإبراهيمية؟
وقال بهاء الدين :
- وسوف تبرز الأيادي المانحة إذا لاح الكيان المستحق، المعروف بالنزاهة والاستقامة،.. ولتنظري إلى الحائجين كيف يرضيهم أقل القليل!
وقالت فاطمة :
- وهل ترى نفسك أهلاً لهذا كله؟ وأنى لك أن تثق بضمائر الآخرين إلى هذا الحد؟
وبدا الأب في امتعاض ضاحك وسأل هدى التي كانت تجتهد في ضبط استقامة اللوح الخشبي، وقد حرصت الأسرة على إراحة العائد من عناء تجهيز الحانوت المغلق :
- وما رأي عروستنا في هذا الاقتراح الأخير؟
وقالت كأنما تثبط عزيمته في أقل الكلمات :
- إن رأيي من رأي أمي..
وهم واقفاً يعاون ابنته، كانت ألواح الأخشاب معفرة لكونها متروكة منذ زمن، فقال وهو يسعل :
- كان عبد الغني لينهض بهذا العبء عني ! ومتى يعود؟
وأجابته هدى :
- قريباً !
- من المؤسف ألا أحضر جنازة أخي وألا أعرف بها !
وقالت صابرين :
- قد يتفق لدى من أعجزته ظروفه عن حضور الجنائز أن يخال أصحابها عائشين، لأن تجاربه في الاتصال إليهم تكون أسبق من رحيلهم عنه.. ولعل هذا من الخير غير المدبر !
وعاد الرجل يسأل صابرين عن فكرة ترشحه النيابي، فأجابته جواباً مسهباً، رغم اهتمامها غير المتعمق بالسياسة :
- وما أتعس الحياة النيابية في مصر ! ومنذ صدر القرار من سراي الإسماعيلية على عهد توفيق بدستور 1882م الذي وضع بذرة الحياة السياسية، ومجالس النواب صورية كثيرة الانحلال ! ثم ألا يستدعي الترشح خلو صحيفتك الجنائية؟
وقال بهاء الدين :
- وقد وعدني تشارلي بحذف اسمي،.. إنه من خيرة الضباط الإنجليز الذين عرفتهم.
ولم يعرِ الأب المتحمس لرفض الثلاثة أذنيه، وعمد إلى التجهز للأمر مسابقاً الزمن، واستولى الهاجس على شعوره استيلاءً عظيماً.
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
قالت صابرين لهشام عزمي فوق سور الكورنيش وهي تحرك ساقها المعلقة في سمر :
- ثمة أنباء جيدة،.. لقد خرج أبي من محبسه !
وقال الشاب في نصف اهتمام :
- وكيف يكون هذا خيراً؟ إنه أكبر معارض لزواجنا.
واستدارت إليه تقول :
- ويحك ! كيف تتجرأ على قول هذا؟ (ثم وصوتها يرتد إلى الحياد مفارقاً انفعاله..) وهل جد في أمرك جديد؟
وهنالك انفتح قميصه بتأثير هواء البحر فغدا (القميص) مستوعباً له (الهواء)، وكان ثمة صياد يتحرك بالأسفل بصنارته على قرب من الموج فتبلغ الصنارة الطويلة مستوى المتحدثين، وقال :
- لقد سئمت المحاولة ولا أملك عصا موسى !
- لماذا لا تبحث عن عمل؟
- لا جدوى من الركض فوق رمال متحركة، إن ظروف الحرب أقوى من أيما إرادة ! وقد حاولت عبثاً العمل مع البقالين اليونانيين، والإيطاليين صانعي الأثاث، وصانعي الأقفال، ولكنهم يلفظونني بلا سبب، فلا أعود أجد إلا الخواجة رجب ومصبنته !
وقالت وهي تتذكر يوماً استنقذها فيه الفتوة النيجرو بينما يبلغ رذاذ الموج أطراف حذائها :
- ما أضعف عزيمتك !
ورمى بصخرة فجعلت تتقافز فوق وجه البحر، قال الشاب :
- حقاً؟! قياساً إلى مَن؟ إنني لم أدع باباً إلا وطرقته !
- قياساً إلى الفتوة النيجرو مثلاً !
وقهقه الشاب فترددت أصداء ضحكاته على امتداد الكورنيش الممتد والمقوس، وقال :
- آه.. لم يعد ثمة إلا الفتوات كي أغار منهم ! (ثم كالذي يسرد سرداً ممسرحاً..) بالأمس رأيت بالطو الخواجة رجب لدى الكرسي النحاسي بالمصبنة وقد فطنت إلى كون الرجل يكتنز الأموال فيه،.. لقد كبحت جماح رغبة عارمة في سرقته والهرب،.. لقد أسلمني الرجل لانشغاله بأمور خارج الحانوت لوحدة غمرتني بشتى أسباب الغواية، لقد كانت يداي تقترب من البالطو ثم تعود ترتد وتهتز، وهكذا أعدت الكرة بغير أن تعينني نفسي على القرار.. انظري إلى كل هاتيك الفنادق التي تطل على وجه البحر، هناك، ألا أكون مالكاً كبيراً لواحدة منها إذا أنا استسلمت لهذه الرغبة الشديدة التي اجتاحتني بالأمس فصددتها؟! إنه لحلم قديم وجد فرصته غير المشروعة في التحقق في مناسبة عصية على التكرار !
وقالت صابرين وقد أسقط في يدها :
- عم تتحدث؟! هل تفسر ضرورة السعي بالسرقة؟ آه.. كم بات يخيب أملي فيك في كل يوم!
وتنهد كالذي أضناه أن يكون الوحيد الذي حفل بالأمر، وأسلمه يأسه لتمنى النتيجة بلا عمل، فقال وهو يشخص إلى معصهما حيث تتجمع الأساور الذهبية :
- وهذه الأساور التي فرطتِ في واحدة منها لأجل أبيك، ألا تكون زخراً وعوناً لنا إذا نحن أقدمنا على مشروع زيجة؟
وهنالك غمرتها مشاعر الازدراء فنهضت راغبة عنه تقول :
- يبدو أن المعاناة قد أسكرتك هذا النهار !
وحاول الشاب اللحاق بها - كالمعتذر - فقال :
- إنه محض خيال عابر ساورني في لحظة انقطاع رجاء !
وقالت وهي تمشي في صرامة :
- أعرف هذا جيداً.
وعاد يسألها كالمتودد :
- وماذا ينتوي أبوك بعد خروجه أن يفعل؟ هل عساه يروم أن يحطم رأسي كي تخلو الساحة أمام مشروعاته؟
وقالت في صوت ينوء بثقل ما :
- إنه يروم التقدم للحاق بالانتخابات النيابية !
وقال هشام وهو يبتاع المثلجات لنفسه على حين يمرر لصابرين خبزاً قبرصياً يشتريه من الباعة المتجولين :
- لا عجب أن يهدف (يريد بهاء الدين) إلى الرئاسة وقد أراد أن يفرض على ابنته زيجة بأصدقاء الإنجليز يوماً.
وقالت وهي تشخص إليه في شيء من التسامي :
- لعله أراد أن ينزهني عن الركض وراء الكسالى!
وقد طرأ على عقل الفتاة تغيرات استحدثتها تجربة العرس الذي أخفق، فغدت تبصر نقائص هشام عزمي تحت عدسة الفتوة الجسور،.. فلم يعد للمعاذير التي يطلقها الشاب اعتبار يُذكر بل لعلها ما انفكت تسلط جم غضبها في مناسبات على ما عدته تكاسلاً منه وعت حقيقته بميزان غيره من المواقف، ولأول مرة تثور بين المحبين - من جهة صابرين على الأقل - دواعي النفور والافتراق إلى هذا الحد، حتى صار نقاشهما سبباً للالتفات من قبل العابرين في مرات، وحتى المراقبة من جهة المتطلعين في أحيان،.. وحين جعلت تعود إلى بيتها أحست نفسها - بسبب قدرتها المكتسبة على الرفض - أقرب إلى الاعتدال والحكمة موفورة الرزانة، فكأنما كان خلاصها من التماس الأعذار له وانعتاقها من ربقته سبيلاً ناجعاً للتحرر في عموم أحوالها وسبباً فعالاً للانطلاق العام، وباتت تحدث نفسها :"قلة في عالم الحروب والغارات من تمتاز بالشهامة الحقة.. أجل.. وليأخذ المرء حذره من الغرباء إذا كانت النفس منبتاً للنقيضين مثلما يستقيم أن ينتظر منهم الخيرات فرضاً أصيلاً.. ألا يعد تصريح الشاب بطلب الأساور الذهبية نذير طمع أو طلب فوق المعتاد؟ وإذا كانت هذه نواياه لدى المنعطف الأول فكيف عساها أن تكون لدى هذا الثاني والثالث والأخير؟"، وراعها أن ترى لافتات الانتخابات وعليها صورة أبيها تحض الناظرين على اختياره فخالت نفسها أسيرة حلم أو رواية،.. وتساءلت : بحق السماء كيف اجتمعت له القدرة على إنتاج كل هذا العمل الظاهرة ثمرته على البنايات والجدران في غضون الأيام القلائل؟ وتراجعت أسباب العجب في نفسها شيئاً هيناً حين أبصرت الخطاطين بالشارع يتسابقون إلى إعداد اللوحات، ثم إلى تحيتها على الخصوص،.. وسرعان ما وعت بحركتها المتوغلة والسابرة حقيقة أن حانوت الأخشاب المملوك لأبيها قد استحال ورشة انتخابية يأتيها شباب الحي متطوعين،.. وصعدت الدرج ولا تزال مأخوذة اللب ساهمة الفؤاد، فلما اقتربت من باب بيتها تناهى إلى أنفها رائحة الملوخية التي تقترن - عادة - بالأرانب فتشهت مذاقها دون رؤية، وسألتها فاطمة عن اللقاء الذي جرى بهشام عزمي وهي تخلع حذاءها الأرجواني، وكانت الفتاة تفصح لأمها دون أبيها عما يستجد من أمره، وقالت :
- لقد وقع بيننا شد وجذب ! وقد أثمر انتهاء لقائنا قبل الأوان عن تريضي، هنا وهناك، قليلاً.
وقالت فاطمة وهي تضع الملعقة في إناء الملوخية الكبير فتقلبها :
- وهل استمتعتِ بوقتك؟
- أجل، من الجيد أن يرى المرء مظاهر طبعها الأوروبيون على المدينة وفقاً لثقافتهم، وأتمنى أن يستمر هذا طويلاً، أعني أن يعيش المختلفون في وئام وسلام ! (وتابعت وهي تستقبل طبق الطعام بيدين تهتز فيهما الأساور وتلمعان..) أعرف أن حاضر المدينة جزء من ماضيها المشرق، في ضاحية الرمل مثلاً شيد الإنجليز cottages على الطراز الإنجليزي كانت تحوطها مساحات من السندس الأخضر، والإيطاليون بنوا منازلهم بشرفات pergoles على الطراز الفلورنسي، وأما اليونانيون فقد شيدوا من المدارس والعمائر ما له واجهات ذات طابع أثيني، اليوم بقى جزء من هذا محمود..
وبدت الفتاة مأخوذة بهذا الثراء الثقافي، على حين دلفت هدى إلى اجتماع الفتاة بأمها تقول :
- أعرف اليونانيين أيضاً بحي الإبراهيمية، ولقد شيدوا المدارس والعمائر على الطراز الأثيني، إنهم يعدون المدينة مدينتهم نظراً لأن مؤسسها هو الإسكندر الأكبر، وهم - إلى هذا - أكبر الجاليات الأجنبية عدداً.
وعادت فاطمة تقول لصابرين :
- سيكون من الخير لو تخليت عن هشام عزمي، واستبدلت التريض بهذا الفراغ الشاغر في حياتك،.. يبدو لي بهاء الدين ذا رؤية تتجلى صحتها في البشر ولو بعد حين ! وقد حذرك منه تكراراً.
ولم تحفل صابرين بالقول الأخير إذ كانت لم تقطع نحوه كل أواصر الوداد، رغم هذا اللوم الذي باتت تنحي به على الشاب، والتي صرحت له به في اللقاء الأخير، فلم تبدد تجاهه كل وشائج المحبة على ما نبت في نفسها من بذور المراجعة، إنها لتعتب عليه خور عزمه، وقلة حيلته، ولكن العتاب لم يسلمها بعد للفتور العاطفي الكامل،.. وكان بهاء الدين ممسكاً بكراس يجول الصالة - متأهباً لحياة المجلس النيابي - فيقول على مسمع من ثلاثتهن :
- سيادة رئيس مجلس النواب المصري الأسبق، عبد السلام فهمي باشا جمعة،.. أعرف أنك مثال النزاهة والاستقامة عف اليدين والسيرة.. ولكن ماذا جنت الأمة المصرية من سياسة الحياد إلا الغارات؟ وقد كنا لنجني ثماراً أوفر لو أننا أنحزنا للطرف المنتصر منذ البداية، وأزيد أقول بأن لا حياد في عالم اليوم المشحون بصراعاته المتفاقمة ! (ثم وهو يقترب فيعلو صوته أكثر..) فما أشبه دعاة الحياد اليوم إلى الجالسين فوق فوهة البركان بغير حراك ! بربك.. كيف نقف مكتوفي الأيدي أمام الفاشي والنازي؟
والتفت بهاء الدين إلى هاته الصينية الحاوية على الأرانب فتسمر تاركاً خطبته العصماء، وقالت صابرين معلقة في سمر :
- إنها الأرانب أولى فعلياً من مناقشة سياسة الحياد !
وقالت فاطمة :
- آه.. كم تغير موقفك من الإنجليز ! ألم تتمنى لروميل زحفاً على الإسكندرية يوماً؟
- لقد تغير رأيي حين رأيت ذاك الخراب الذي ينزل بالمدن التي وقعت فيها الاشتباكات بين الحلفاء والمحور،.. ما أتعس عاقبة الحروب ! وما أشقى مصاير الإنسان !
وقالت صابرين في سمر موصول :
- أو لعلها الحياة النابية تستدعى التوازنات، وتتبخر لأجلها جذور القناعات !
وقال وهو يأكل رأس الأرنب (وكان الرجل قد أمسك عن أكل اللحوم بضع أيام ممتهجاً منهاج النباتيين نظراً لحزنه على وفاة أخيه ولكنه ما لبث أن عاد!) :
- أجل.. لعله مزاج من الأمرين !
وكاد بهاء الدين يعود إلى ترديد كلمته السياسية المدونة في كراسه فيقول وهو يخطو بالصالة خطوة أو اثنتين مواصلاً من حيث انتهى :"ووداعاً أيا عصبة الأمم العاجزة، ومرحباً بالأمم المتحــ..".، لولا أن صوتاً ما أشبهه بصوت هشام عزمي جعل بالشارع ينادي قاطعاً استرساله :"صابرين.." وما فتِئ يعيد الكرة فاضطربت الفتاة كل اضطراب، وهبطت عجولة إليه - وكان المنادي (هشام عزمي) واقفاً إلى جوار عربة فول مسترداً أنفاسه - تقول :
- بربك.. ألا تدري أن أبي يمقتك؟ ألا نكون أقرب إلى اتقاء غضبه لو أننا احتفظنا بالسرية نضفيها على علاقتنا.
وقال (هشام عزمي) ثملاً بنصر ما :
- إنني ألتمس منك عفواً،.. لقد جعل لي الخواجة رجب اليوم في مصبنته موقع الساعد الأيمن، ومنحني هذا كي ابدأ به حياة جديدة لا تعرف العوز (يشير إلى حزمة من النقود!)، لم يكن البالطو المتروك إلا اختباراً منه نجحت فيه دون أن أدري !
وصفقت الفتاة طرباً وسروراً، وتسربت دواعي القلق فحل الأمان في نفسها، وقال الشاب بعينين راضيتين :
- قريباً تتم الزيجة ! كنت أعرف أن مخاضاً طويلاً وعسيراً كالذي مررنا به سيفضي إلى عاقبة محمودة كتلك،.. وكلما كان السحاب قاتما غدت ألوانه أكثر لمعاناً.
وكان بهاء الدين يتطلع إليهما من نافذة المطبخ ممسكاً بالكراس، فأشار الشاب إليه بشارة النصر (علامة الـV)، بينما جعلت الفتاة تبتسم لأبيها في غير مواراة!