رغم الغارات وحديث الحرب الذي ما تنفك تكف سيرته في الحي الشعبي حتى تعود، أضاءت هدى حجرتها وجعلت تقف أمام المرآة تطيل إلى نفسها النظر في إمعان وتحقيق، وأبصرت عينين خضراوين وأنفاً صغيراً وأذنين مختبأتين تحت شعرها الفاحم ذي الضفائر، وأما بشرتها فقمحية حفلت بالبثور التي جهدت طويلاً - بغير جدوى - أن تستئصلها بالوصفات الشعبية،.. إنها - ومنذ كاشفها بهاء الدين يوماً بضرورة التجمل والتزين كيما تلتقي بالعريس الذي يناسبها - تتوخى المثالية في مظهرها مدفوعة بهاجس قوي كالوسواس، إنها إن وجدت عيباً تجلى في انكماش هنا أو هناك ارتعد لبها وفزعت نفسها،.. ثم ترددت في نفسها أصداء كلمات أبيها :"إن الإناث في سوق الحياة مدفوعون إلى بلوغ أسمى الصور كي يحزن أفضل الزيجات.."، إنها تتردد ممزقة شملها فتصيرها من وجودها في أسى،.. إن شأنها في هذا كالنحات ينظر إلى تمثاله حين ينتهي منه فلا يرضيه رغم ما يبلغه التمثال واقعاً وفي نظر الشخص العادي من جمال لا يُنكر وحسن لا يُجحد، وودت لو حازت جمالاً كالآلهات اللاتي يصطفيهن الإله باريسparis) ) الذي اختار أفروديتي من قبل في الميثولوجيا الإغريقية،.. وأعياها الجواب فهبطت ليلتئذٍ إلى دنيا الشارع فمرت، أول ما مرت، على دكان أبيها الذي اتخذه الرجل لبيع الأخشاب،.. وقالت بعد أن خلا الحانوت إلا منهما كأن وجودها حدثاً جديداً :
- أهلاً وسهلاً..
وأجابها الأب في سرور وهو يقبلها حتى تحمر وجنتيها :
- سبحان من صور.. ليت لأختك (صابرين) مثل ما لديك من اهتمام بالمظهر، فحينئذٍ لا يبقى لزواجكما في نفسي من باعث إلى قلق ! (ثم كأنما ينوء بثقل ما) غير أنها منكفئة على التعليم انكفائاً أخشى أنه وفي دنياكم (يريد دنيا الإناث) لا يسمن ولا يغني من جوع.
وتألق ثغرها بابتسامة أضفت على هيئتها جمالاً وبهاءً، وراحت تسأله :
- أجبني ولا تخفي عني.. هل أبدو حقاً جميلة؟وقال وهو يعود يتفحصها فيعلو على وجهه سرور جديد :
- في الحق إن شيئاً لا ينسب من تكوينك إلى النقص ما خلا هذا الارتياب غير المبرر..
وكان حانوت بهاء الدين واقعاً في مواجهة دكان أخيه عز الدين، إنها تجارة الأخشاب مجال عملهما المشترك،.. وكانت الفتاة - لأجل ذاك التقارب والتقابل - تبصر معالم الدكان المواجه مثلما ترى ملامح دكان أبيها في وضوح وبيان، ولمحت شاباً يرمقها من مبعدة ويلوح لها بيديه فلم يخالجها ارتياب في كونه عبد الغني، إنه الابن الأكبر لعز الدين، وابتسمت له في خجل فبدا تجاوبهما اتصالاً إنسانياً لا يعرفه الأبوان المشغولان،.. وتأكدت لها انطباعات أبيها التي تخص مظهرها الحسن حين أبصرت حفاوة الشاب بها فسرت سروراً مضاعفاً، ونهضت إلى حيث عبرت السبيل بين الحانوتين، وسلمت على عمها تقول :
- وكيف أحوال التجارة ؟
وكان عبد الغني يختلس إليها النظر مستغلاً فرصة وجودها بينما أجاب عز الدين عن سؤالها الأخير :
- على قلق،.. بسبب الحرب يا بنيتي، لقد أعادت (أي الحرب) إلينا ذكرى أيام الرعب على عهد إسماعيل صدقي،.. لا أعاد الله أيامه.
وأجابته تطيل المدة، بينما تبتسم لنجله :
- والرزق مقدور في لوح محفوظ قبل أن يولد مخلوق، وقبل أن توجد الحروب، وإنما شأن الآدميين كالطير التي يرزقها الله،.. تغدو خماصاً، وتروح بطاناً.
وأبصرت عبد الغني منهكاً، فقالت كأنما تختلق سبباً للحديث :
- إني أراك في إرهاق والواجب أن تستريح.
وقال عبد الغني وهو يرفع لوحاً من خشب بذراعين فتيتين :
- لقد قلبت الحرب موازيين كل شيء، وبتنا نعمل حساب اليوم والغد.
وكانت هدى تبصر هذا الشقاء الذي ينزل بالرجال في معترك الحياة فتتذكر هذا الشطر الثاني من حديث أبيها :"وأما حظ الرجال في سوق الحياة فمبقدار ما يقدرون على تحمله من صعائب، وما ينهضون به من أحمال، أي بما تصنعه أيديهم لا بما ترثه نفوسهم، ولأجل هذا تجدينهم في هم ناصب، إلا من رحم ربي، وقليل ما هم.."، وقال عز الدين متضاحكاً ومحدثاً ابنه :
- إن الفتاة أشفقت على أمرك ولم تشفق عليَّ،.. فمن عساه أن يكون الكهل هنا؟!
وأبدت هدى بعد العبارة الأخيرة رغبة في إبداء العون حين أمسكت بالمكنسة فراحت تجول أنحية الدكان تنظف المتناثر من نشارة الخشب، إنها همة طبيعية تواتيها مرات حين تروم أن تنظف بيتها فتنبعث في نفسها حين يقع أن تجد حولها مظاهر من الاضطراب،.. هذا بينما جعلت تستمع لحديث الرجلين بأذنين مستطلعتين، قال عبد الغني وهو يسند اللوح الخشبي إلى الحائط:
- أخشى أن توغر الحوادث الأخيرة صدور الإنجليز تجاه أهل كرموز، فيجنحوا للثأر منهم جملة !
وقال عز الدين يوافقه بعد أن أثنى على جهد الفتاة في تنظيف الحانوت:
- أجل.. صائد الطائرات المجهول، إنه يروم البطولة الخفية ولا يحسب لها عواقبها.. ثم فضائح جنودهم في مقهى العوالم،.. والفتوات يسرقون مخازنهم وشونهم ! وأي سند لنا في هذه البلاد نلوذ به إذا هم أظهروا لنا عين الثأر الحمراء؟!
وقالت هدى وهي تجر سَطل الماء ثم ترش ماءه هنا وهناك على الأرض :
- وهل يرتضي الملك فاروق وأسرته هذا العسف الذي ينزل ببلاده؟
وأجاب عز الدين وفي نفسه غصة كالمستنكر :
- آه.. الملك؟ أين الملك؟ إنه ظل على عرش منذ وقعت حادثة قصر عابدين (حادثة فبراير) من هذا العام التعس،.. لقد هوى منذ يومذاك من العيون - كالنجم - فما عاد يكبره الصغير قبل الكبير، وقد كان قبلئذٍ موضوع الأمدوحة والثناء حتى حسبناه بين الملوك استثناء ! إني كلما جعلت أفكر في حدود قد يبلغها بطش الإنجليز بنا انتابتني رجفة واستبد بي الضياع، إنما أمرهم الساعة كالأسد الجريح.
وقالت هدى في لهفة :
- والحكومة؟
- لا طاقة للحكومة بما قد ينزل بنا، ينعم الوزراء بالمصيف في بولكلي (حي بمنطقة الرمل في الإسكندرية)، وفي الشتاء يختفون بالقاهرة.
ولم تكن الفتاة في سؤالاتها إلا مستجدية سبيلاً يحفظ لعمها تجارته، فيبقي ابنه في قرب منها، وأما حين لم تجد جواباً شافياً ومرضياً يُبقي في خاطرها الأمل حاضراً، فقد خرجت من نطاق الرجلين تستشرف ما يدور في دنيا السبيل، وهنالك سمعت جلبة تصاحب - عادة - مجيء الفتوات فكان إسماعيل الجعب يوزع على الأهالي شيئاً من سرقاته،.. وطوقه الأهالي الذين تكالبوا على ما عدّوه حقاً لهم، وواتتها الشجاعة فتدانت إلى مصدر الجلبة الحادثة بضع خطوات حتى أمست من المشهد الواقع في كثب، وأسفت لرؤية أجولة القمح والذرة والشعير المهدورة لتدافع المتدافعين نحوها - أسفت لهذا حتى نزلت بها أكدار احتوتها جدران الليل البهيم، وأما العيون المتلهفة الجوعانة والرؤوس المتقاربة والأيادي الممدوة فلم تجعل في نفسها إلى الصفاء من سبيل، وجعلت تحدث نفسها:" إنه العوز والفقر،.. قاتلهما الله.. وهؤلاء المعوزون.. بأي ذنب يحرمون؟"، وكان الجعب يقول بين الزهو وبين العربدة مُحدِثاً بصوته أصداءً فياضة الرجولة في نداء راعد :
- إنها مواردكم رُدت إليكم،.. طوبى لمن سرقها ولمن أخذها.
وإنهم كذلك حتى انطلق دوي الرصاص - من حيث لم يحتسب إنسان - فتفرقوا أشتاتاً في ذعر ووجل، وقال قائل منهم :
- إنه رصاص الإنجليز،.. أو لعله البوليس المصري أراد الانتقام !
وتسمرت الفتاة حيناً من هول المباغتة حتى تمالكت نفسها فمضت بين الهلعين إلى حيث حانوت عمها، وأغلقت الباب ووقفت وراءه حتى تتأكد من إيصاده، وأشارت على عبد الغني أن اغلق النوافذ فلبى الشاب طلبها في عجلة، ومر زمان من الترقب تعرف فيه من في الحانوت على ما كان من أمر قد وقع خارجه، وإن هي إلا دقائق من الزمن مضت حتى دق باب الحانوت فارتعد من فيه ارتعاداً، وسمعوا صوتاً يقول في خشونة :
- الضابط زكي طبيلي ! (ثم لما لم يجد جواباً) وإذا لم يفتح من بالداخل فلا سبيل أمامي إلا الاقتحام !
وتلقت هدى من عز الدين إشارة أن افتحي الباب ففتحته وقلبها يتقلب بين أحوال شتى، وشرع زكي طبيلي ومعه نفر من الأمن يفتشون كل صغيرة وكبيرة في الحانوت كيما يعثرون لأثر على أجولة القمح والذرة والشعير، وقال له عبد الغني :
- حاشا الَّلهَ من أن نشتري بضائع قد نُهبت..
فلم يعره الضابط المشغول أيما التفاتة أو جانب اهتمام، وبدا الحال حدثاً فوق طاقة هدى أن تتحمله فلاذت بالحائط تسند إليه جسدها المنكمش، ثم عرض عليها عز الدين كرسياً فلم تجبه،.. وانتهى التفتيش بغير أن يجد جديد فتنفست هدى الصعداء وأجابت عبد الغني إلى مطلبه في الجلوس، كان زكي طبيلي - الضابط الأسمر قوي الشكيمة - معروفاً بعدائه لفتوات كرموز، كبيرهم النيجرو أبو أحمد على التحديد.. وبين الاثنين وقعت ألوان من الكر والفر لم يظفر فيها أيهما برقبة الآخر، وقد حار الأهالي جواباً في تفسير مسلكه فلم يعودوا - بعد حيرتهم - ينسبوه إلى أصل واحد : هل عساه أن يفعل ما يفعله لصالح الإنجليز الذين يسرق الفتوات ما لهم؟ أم أنه يمضي في سبيل معاداة الفتوات لصالح الحكومة المصرية التي ترى في وجودهم خطراً يتهدد سلطتها؟ وحتى ذهب خيال بعضهم - في تفسير الأمر ونزوعه إلى تصيد اجتماعاتهم - إلى قصة قديمة من الاضطهاد تعرض لها نفر من أهليه على أيديهم فأشعلت في نفسه ناراً لا تنطفئ جذوتها،.. وخلا الحانوت من رجال الأمن، وجاء بهاء الدين يطمئن على ابنته فاستقبله عز الدين يقول كمن يسترد أنفاسه بعد عَدو:
- لقد رحل الغراب الأسود عن ديارنا، فحمداً لله..
وأفصح بهاء الدين لأخيه عن التفتيش الذي تعرض له حانوته - بحثاً عن الأجولة المفقودة - فوجد كل منهما لدى الآخر أصداءً مشابهة تعرضا لها،.. واستأنس الأخ بمحنة الآخر حتى هدأت نفساهما بعض هدوء، وسمع أربعتهم جلبة خارجية ففتح عبد الغني نافذة الحانوت يستشرف ما يجري، كان زكي طبيلي يتمشى أمام عدد من الأهالي الذين حازوا أجولة القمح والذرة والشعير ففروا بها قبيل أن يُقبض عليهم، وسمع الفتى تحذير الضابط - ومن أمام الأجولة المستردة - يقول :
- وإذا عدتم تتعاملون مع الفتوات، اليوم أو غداً، فلا أقل من التنكيل بكم جزاءً عدلاً.
وكان الأهالي يشيرون برؤوسهم في موافقة صاغرين، وأغلق عبد الغني النافذة منقبض النفس،.. فسألته هدى :
- ماذا هنالك؟
وأجابها الشاب مكفهر المعالم :
- لا شيء، لا شيء تماماً !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
اجتمع الفتوات : إسماعيل الجعب، وسلامة الغلأ، تحت رئاسة الفتوة النيجرو أبي أحمد يقلبون، في ظلمة هذا اليوم، وجوه العواقب، ويتدبرون في سبل التعامل مع هذا البلاء الذي حل بهم،.. وقال إسماعيل الجعب بينما يهتز مصباح السقف برياح نوفمبر فتبدو لثلاثتهم خيلات أكبر مما لهم :
- كادت روحي تذهب هدراً اليوم ! ولمّ يناصبنا المعتوه (يريد زكي طبيلي) هذا العداء المستحكم؟
وقال سلامة الغلأ :
- هذا لأنك لا تقل عنه سفهاً،.. لقد جعلت لتوزيع الأجولة مكاناً حيوياً يعرفه ضباط الطوبجية وأعلنت أمراً على مشاع الخلائق يخشى الناس أن يذيعوه في همس.
وقال إسماعيل الجعب وهو يشخص إلى جدران تحدهم كجدران الخرائب :
- لن تفهم أبداً ما بيني وبين الأهالي لأنك لم تنعم يوماً بحب مماثل.
وقال سلامة الغلأ ووجهه يطفح بالغضب :
- إن الأهالي يفرون كالفئران متى سمعوا نذير البوليس، ويتصارعون على لقمة العيش التي نأتي لهم بها خلسة كالضباع تتصارع على الجيف.
وتدخل النيجرو فقال معاتباً إسماعيل الجعب :
- سيعرف فتوات الأحياء المجاورة حقيقة أنك فررت من ساحة مواجهة دون أن تتجسر على رفع إصبع أو تحريك ساكن، إن هذا لشنار نزل بنا،.. ولقد روى لي إسماعيل سيد أحمد (فتوة محرم بك) الواقعة في تندر وألحق بك صفات الجبن والوهن !
وأضمر الجعب شراً في نفسه وانتوى أمراً لدى سماعه اسم الفتوة الذي يستهين به، وقال في هزو :
- عفواً.. ولكن ألم تتناثر الأقاويل عن هذا الغرام الكامن بينك وبين فتاة اسمها صابرين.. لقد أمعن الممعنون في وصفهم هذا يوم أعدت إليها حقيبتها المسروقة على رؤوس الأشهاد؟ فهل يزري بهيبتنا مثل ذاك الحديث الغث؟!
وتحرك قلب النيجرو بباعث ألان هذه القسوة التي تحفل بها معالم نفسه حين سماعه لاسم الفتاة، وصمت كمن يُخفي شيئاً، ثم قال كالذي أرتد إلى طبائعه من جديد :
- أجل، إنهم الصعاليك من الناس في كل وادٍ يهرفون بما لا يعرفون!
وعلا الأذان من مسجد سلطان فجعل الفتوات يصمتون ريثما ينقضي أوانه، وتمتم النيجرو أبو أحمد تمتمة - كالدعاء - بينما استنشق هواء الفجر الزلال يقول كأنما ينهي الاجتماع بعبارة ختامية :
- لا بأس بما وقع اليوم،.. والواجب أن نأخذ حذرنا أكثر ريثما تخف قبضة المتربصين بنا.
وانفض اجتماعهم لما عدمت أسباب الحديث، وانطلق إسماعيل الجعب من فوره قاصداً محرم بك، إنه الحي الذي يضم الطبقة الأرستقراطية بالإسكندرية وتنتشر في جنباته القصور والفيلات، إنه أيضاً يحمل اسم صهر الوالي محمد علي، وهناك - إلى هذا وذاك - يربض إسماعيل سيد أحمد خصيمه الذي استهان به،.. وقطع المسافة من غرب المدينة إلى وسطها وعيناه تنذران بالشرر،.. جعل يفكر : "أحقاً يقصدني الجبان بالضعف والهوان؟ ولو أن الأمر كذلك فلا أقل من أن أهشم جمجمته، أجل.. بالروسية (ضربة الرأس) الإسكندراني، كشأن الفتوة الفارس حميدو فتوة الأنفوشي ذي المآثر الغابرة مع خصومه.."، وتخايل له أنه يضرب إسماعيل سيد أحمد بها فينتصر في نزال الفروسية، وبلغ مبلغ الحي الراقي حيث سرت نفسه بهذا التحول الاجتماعي سروراً تجلى على وجهه المكتنز، وتألقت نفسه الغاضبة بألق الثراء والغنى فتراجعت عن مرادها في التدمير بضع خطوات، وتدانى إلى موقع الفتوة بالرصافة فألفيه جالساً على مقهى معتمراً طربوشاً، تحجب نظارته السوداء الشبيهة بنظارة رأس الدولة (فاروق) عيناه عن الناظرين، كان الفتوة الوسيم شبيهاً بالملك وقد أمسى الناس - لسبب هذا - من مجالسته في تندر، وقال إسماعيل الجعب كالذي يطرح على السامعين حديثاً :
- أتعرفون أي صلة تجمع بين الملك فاروق وبين فتوتكم إسماعيل سيد أحمد؟
وأجابه من حضر على المقهى، وكانوا قلة بسبب الصبيحة :
- إنه الشكل - ولا ريب - الذي يجمع بين الاثنين.
وأجاب الجعب وقد ثملت نفسه بأنفاس الصباح الأولى كالمتحدي :
- بل أنهما (الجعب وفاروق) لا يحلان ولا يربطان !
وثارت ثائرة الفتوة فنهض من فوره تاركاً أسباب الدعة التي تحيط به حين يتمثل هيئة الملك رفقة المتفكهين من سمار المقاهي، وخلع طربوشه ونظارته فتبدت ملامحه الوسيمة آية التناقض مع الجعب، وقال في مناوشة :
- أحقاً يقصد الهارب ما يقول؟! والأولى أن تدخر هذه الشجاعة ليوم ترى فيه زكي طبيلي !
وتجاوب الحضور بين تصفيق وضحك، وعلى حين قال الجعب :
- وكفى بي أني لا أسرق المحتاج ولم أولد وفي فمي ملعقة من ذهب !
وقال إسماعيل سيد أحمد المشتهر بعلو مكانته الاجتماعية :
- ليس ذنبي أنني ذو حسب ونسب، وأما سرقة المحتاج فلا تخرج عن دائرة الافتراءات، ينسبها إليَّ الخصوم ويتناقلها المسارعون من غير المحققين !
وكاد الفتوان يشتبكان في معركة ضارية لولا أن سمعا وقع سنابك الخيل تطرق الأرض، فالتفت الجعب عن ورائه حتى أبصر النيجرو أبا أحمد، وانصاع الجعب لمقدمه فلزم الصمت، وقال إسماعيل سيد أحمد للقادم فوق الجواد :
- أرأيت ماذا يفعل تلميذك الأرعن؟ هل عجزت عن تهذيبه إلى هذا الحد؟
وقال النيجرو وهو يطيل النظر إلى أشعة الصباح التي تجلل هيئته المتفوقة :
- إنكما - الإسماعيلين - قريبان إلى قلبي،.. ولكنه الشيطان أوقع بينكما !
وقال الجعب يغالط أستاذه بينما ينفض من في المقهى تهيباً :
- ليس الشيطان ولكنه أنت من نقل إليّ تجرؤه عليَّ فأوغر صدري !
وقال النيجرو مترجلاً :
- ولم أعرف أن لك عقلاً في حجم السمسمة تضطرب صفحته لأهون الأسباب، ولكنني استجبت لخاطر راودني، ولأجل هذا تتبعت حركتك،.. والواجب أن نتحد صفاً واحداً في وجه طبيلي ومن شاكله، لا أن نتناحر فيما بيننا فنغدو لقمة سائغة بعد إذ تخلينا عن أسباب الاعتصام.
وابتلعت كلمات النيجرو شياطين الغضب، وجلس ثلاثتهم وسط السمار - الذين جعلوا يعودون إلى أماكنهم حين استتبت أسباب الأمان - فاعتمر إسماعيل سيد أحمد طربوشه من جديد ولبس نظارته السوداء، وقال متمثلاً الملك فاروق في خطابه الإذاعي الأول بقصر القبة (8 مايو 1936م) بينما ينصت له المنصتون من رواد المقهى :
- "شعبي المحبوب : أبعث اليكم بأطيب التحية وبودى لو استطعت مصافحة كل فرد منكم لأعرب لـكم جميعاً عن عميق شكرى، وبوافر حبي، وعظيم تقديري لكل ما أبديتموه نحوى من خالص الحب وصادق الولاء!".
وتبودلت ضحكات اشترك فيها كل من سمع، وحتى إسماعيل الجعب ندت عن فيه العريض ابتسامة تجاوبت لها شفتاه الغليظتان،.. أتراه تناسى الخصومة وارتكن إلى السلام؟ وسأله من الحضور واحد :
- وكيف ستتعامل مع النازيين الذين يرومون غزو بلادك،.. سيادة الملك إسماعيل؟ (قالها عامداً إلى الخطأ) أعني فاروق..
وأجاب إسماعيل سيد أحمد وهو يضبط هذه الحزمة المتدلاة من الطربوش بينما يخفض رأسه لتظهر عيناه من وراء النظارة :
- الإنجليز،.. سوف أستعين بتشرشل !
وضحك القعود ضحكات عبثت بهذه السكينة الصباحية، وانفض الجمع أو كادوا بعد أن ظفروا بسعادة منعشة، وحينذاك لاح صاحب المقهى فسألهم غير هياب :
- وإنما أمركم كمن يتخذ فرصة انعدام الرقابة لهواً ولعباً،.. وأين كرامة الفتوة أمام الملوك الذين تستهزئون بهم؟
وأجاب إسماعيل الجعب بينما استوقف السؤال الواقفين :
- هذا لأنك لا تعرف الفتوة حميدو..
وصمت كيما يضفي على جوابه إثارة فبادر الناس يسألونه عنه، وأجاب منكس الرأس :
- كان مهرجاناً سنوياً كبيراً هذا الذي أقيم لسباق القوارب، أجل.. بين أهل السيالة وأهل رأس التين وقعت المنافسة قبل اثنا عشر عاماً (1930م) من اليوم، قبيل العصر، وقد جرت العادة أن يمثل رأس التين رجل اسمه طلبة، بينما اعتيد أن يمثل الطرف الثاني آخر اسمه دجيش، وأما الصدفة فهي التي جعلت فتوة الأنفوشي حميدو ممثلاً للسيالة، ووكيلاً عن زورقها الأحمر، وقد فاز في السباق فوزاً مظفراً، لقد سبق غيره إلى ملامسة رمل الشاطئ وحملته الأيادي المنتشية، وطوف الأهالي بزورقه فوق حنطور في شوارع بحري، تتبعه موسيقى حسب الله والنقرزان،.. وألقى أفندينا، الخديوي عباس حلمي الثاني - فيما أذكر - إليه حفنة من الريالات الفضية فغضب الفتوة كل الغضب وأبى أن يلتقطها، (ثم محدثاً صاحب المقهى كالذي يحضه على الاعتبار..) انظر كيف تكون عزة النفوس وشموخها ! ومهما يكن من شيء.. فقد أورث هذا أفندينا الغضب فاستدعاه في قصر رأس التين، وهنالك وقعت منازلة بين حميدو وواحد من خدم الملك الأقوياء، وأما حين أنتصر الفتوة في نزاله فقد أنعم عليه الملك بلقب الفارس آية على التكريم والاستحسان!
وساد بعد سماع القصة صمت أشبه بالسلام، وعبثت بالوجوه الجامدة زوابع الهواء بينما توارى صاحب المقهى كأنما أقيمت عليه الحجة، واكتمل للسمار الانفضاض حتى خلا المقهى إلا من الفتوات الثلاث والحصان، كان في نية الجعب أن يزيد يروي شيئاً إضافياً عن الفتوة أبو خطوة الذي حمل عربة الحكمدار الإنجليزي، هاته التي نازعت في مسيرها مسيرة سيارته فأماطها عن سبيله ونحَّاها عنه، ولكنه تكاسل عن القص حين أحس أن مقصده قد وصل عبر القصة الأولى على نحو أرضاه وكفاه عناء الاستزادة،.. وقال إسماعيل سيد أحمد للنيجرو وهو يحملق إلى هامة الحصان "الضحم" الرابض منهم غير بعيد :
- وهل الفتاة جميلة؟ أعني صابرين..
واضطرب النيجرو - لأول مرة - في جلسته للسؤال المباغت فعاد كالذي يستقوي بصورته المعتادة في النفوس :
- ومنذ متى ونحن ننشغل بهاتيك الأمور؟
وقال إسماعيل الجعب :
- لا عيب في سؤاله، وإنما الفتوات أهل للشعور - كالعوام - ولا ينتقص منهم في هذا ما جبلوا عليه من بأس وشدة.
وقال النيجرو ووجهه ينقسم بين الظل وإضاءة الشمس :
- وما أدراني؟.. أردت نصرة الحق، لا طلب الحب !
وأعاد إسماعيل سيد أحمد سؤاله في عناد ضاغطاً على مخارج الأحرف:
- أهي حسناء جميلة؟
وأجاب النيجرو في تسليم لم يُعهد عنه بعد أن زفر بعض الهواء :
- أجل.. إنها كذلك.. ولا شأن لي بهذا..
وعلى حين عاد الإسماعيلان (الجعب وسيد أحمد) إلى حال السمر وتقليد الملوك فقد انغمس النيجرو في مناجاة ذاتية اجتاحت وجدانه:"أحقاً للفتوات - كما للعادي من الخلائق - قلب مرهف يجيش بالعواطف الكامنة؟ وهل يحق لهم الحب كغيرهم؟! أليسوا وحوشاً كواسر يُخشى منها؟ أليس لدبيبهم وقع ينتفض منه الناس في كل حي؟ وأما صابرين، الفتاة المجدة ذات النسب، فلن تنظر إلى أمثالنا بغير ازدراء وشزر،.. أجل، إنها بارعة الجمال كأزهار الربيع ولكن فارق العمر يجعل الظفر بها مستحيلاً من المستحيلات.."، وأحس غصة قوضت نفسه فأورثته حنقاً، وأدار رأسه إلى إسماعيل سيد أحمد عله يتعزى بأدائه الهازل عن آلام تختمر في نفسه، كان الرجل يقول متشخصاً صورة الملك في واحد من خطاباته :
"شباب الوادي، أحييكم، يا مناط الأمل ومعقد الرجاء، وما كان للشباب هذه القيمة إلا لأنه الفصل من العمر الذي تجيش فيه النفوس بأعذب الأماني، وتتوثب العزائم إلي الجليل من الأعمال، أنتم الآن في سن هي سن الأحلام و الآمال..".
ولم يَجد فيما سمع عزاءً - كما توقع - بل لعله تمادى أكثر في تيار أحزانه، وحدث نفسه :"أجل، سن الأحلام والآمال، وماذا عمن بلغ الخمسين وحياته شاغرة من الحب؟ ماذا عمن ثكل الشباب؟"، وتنهد وهو يرفع رأسه فلم يجد حصانه الضخم في مكانه ونهض عجولاً فألفيه يركض بعيداً منه، وشرع يردد وهو يسعى إلى اللحاق به :
- تباً لك أيها الحيوان المخادع !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق