شد ما كانت فرحة بهاء الدين عظيمة حين أعلن قاضي الانتخابات فوزه في دائرة كرموز وغيط العنب، وسرعان ما حمله عبد الغني على كتفيه فأنشأ يهتف:
- فليحيا العدل..
وذهبت السكرة وجاءت الفكرة فما لبث أن ألفى الرجل المتحمس نفسه تحت قبة مجلس الأمة في مواجهة رئيسه محمد حامد جوده باشا، مثقلاً بشكايات آله من قاطني حيّه الشعبي، ونبت المشيب - بتأثير المسؤولية وما تفرضه من قيد - في شعره الأسود الفاحم، ويوماً قالت له زوجه فاطمة :
- مالي أراك في هم وأسف؟ كنت أحسبك تكون أهنأ بالاً حين تجد الآذان الصاغية لمشكلاتك في مجلس الأمة.
وقال وهو يرش نبت الفل مداوماً على عادته التي لم ينكص عنها :
- إن مشكلات بلادنا أعمق من احتلال يزول عنها حجابه اليوم أو غداً، إن لشعبنا يد فيما يصل إليه في كل حين !
وتساءلت المرأة وكانت تحيك هنداماً لطفل مستقبلي تنجبه صابرين تنبأت بأن يكون ولداً :
- حقاً؟ ألا تكون أرضنا جنة في غيبة من أصابع السلطات البريطانية؟
- إنها طبقات من التخلف لا أرى سبيلاً ناجعاً لانتشالها جملة ! ما كان للإنجليز أن يحتلوا بلداً منتجاً أو متقدماً، إنها لأشواط جمة باتت تفصل الأمة المصرية عن هذا العالم المتدمدين !
واستشرف معالم شارعه بعينين متطلعتين، في الأفق ينهض عمود السواري - المبني من الجرانيت الأحمر - شاهداً على هذا التاريخ الغابر، وإلى جواره تهيم المساكن الشعبية المتراصة في بحر من ظلمة آية على تناقض لا تجحده العين، وألفى حانوتي الأخشاب المتقابلين كالغارقين في مناجاة وقد ضُرب الصمت المطبق على ما عداهما، وقال :
- أعتقد أنه قد آن لعبد الغني أن يضم الحانوتين إلى تجارة واحدة، فلم تعد لي طاقة للعمل بالحانوت بعد اشتغالي بالحياة النيابية !
وقالت فاطمة وهي تترك إبرة الحياكة كالملتفتة بعد أن برق في ذهنها خاطر :
- أخال أن هدى ستسعد بأمر كهذا،.. (ثم في شغف) وعم تدور النقاشات في جلسات مجلس الأمة؟
وتنهد تنهيدة استوعبت دواعي همومه ثم قال متحرراً :
- يحدثنا الرئيس (يريد محمد حامد جودة) مرات عن أنموذج القرية المصرية المثالية، إن للرجل فكراً مستنيراً في المجال الزراعي، ولا غبار حول مواقفه، علاوة على أنه قد سبق له التفاوض في شأن الاستقلال منتخباً عن الهيئة الوفدية،.. ولكن يبدو لي أن الأمر خارج عن سلطة المجلس برمته ! وأما الأعضاء فيتبادلون خطب تنديد لا أثر ملموس لها، كالضجيج غير المنتج تذروه رياح الواقع فتطرحه ذات اليمين وذات الشمال !
وسألته في فضول :
- وهل رأيت الملك؟!
- أجل ! لقد تطلع إلينا (النواب) وهو الجالس تحت ستارة العرش الخضراء والمذهبة فوق الموقع الممتاز ذي الدرجتين، على ميمنة منه تمثال جده الخديوي إسماعيل وأما تمثال رأس الوالي محمد علي باشا جد أجداده فعلى ميسرة،.. وكانت جمهرة من الطرابيش والعمم قد اختلطت في هذا الموضع المقابل له، وإنها لرهبة حلت في النفوس حين رؤيته رغم أن المسؤولية تقضي برقابته، وقد يتساءل المرء هنا : كيف يخشى المرء من يراقبه؟.. وقد بت أشفق عليه بعد طول عداء كنت أكنه له ! يبدو للناظرين أن مسؤولاً عانق مجد القصور لن يكون إلا مقيماً في نعيم موصول، والحق أن المسؤولية قفص لا يتحرر صاحبها منه إلا حين يتركها،.. وقد تقولين بأنه يعيش عيشة الأبهة فما ينفك يلتفت عن أشغاله هذه حتى ينخرط في رحلات صيد البط الشتوية بلبدة في دهشور، ينام على الفرش الوثير، ويأكل من الشهد أفضله، ثم تتوفر له خير أسباب العناية الطبية إذا هو اعتل أو مرض،.. وأقول : لا وزن للأبهة إذا المرء فقد حريته فما أشبهه حينئذٍ بالطير العائش في قفص من ذهب قد جيء له بشتى ألوان المتع، وتوفرت له أسباب الرفاه !
وتزامنت العبارة الأخيرة مع انتهاء فاطمة من حياكة هذا القميص الصغير، وكانت قد أنهت قبله سروالاً، فقالت في سرور كالجراح النطاسي يسعد بنجاح عملية جراحية :
- وسوف نزور صابرين، غداً، وقد أتممت لتوي الهدية التي ستسعد بها!
وجاء الغد فقصد الأبوان إلى دار البنت التي استقبلتهما استقبالاً فيه حرارة، وإن غلب على أمارات وجهها شيء من استغراق لم تكن فاطمة بغافلة عنه، وسألتها :
- ما بك ؟!
وتزامن السؤال مع دخول هشام عزمي إلى حجرة الضيافة، فقال مجيباً عن سؤال طُرح على غيره :
- إنها تصر على مواصلة التعليم،.. وإنني أراها تكون زوجاً أفضل إذا هي اكتفت بواجبها المقدس ربة للمنزل.
وتلون وجه بهاء الدين بحمرة غضب يقول :
- إن صابرين فتاة مجدة، ولسوف تنهي بكالوريوس الآداب، إن في وسعها أن تجمع بين الأمرين.
وقال هشام عزمي :
- صبراً صبراً، إنه محض اقتراح ولا قصد لي به إلا راحتها.
وقالت فاطمة :
- إن طفلاً لكَ ينمو ويكبر تحت رعاية امرأة متعلمة لهو خير من طفل ينشأ في طينة الجهالة !
وأجابها :
- لا ريب لدي في هذا.
وتساءل بهاء الدين :
- وكيف حال العمل بالمصبنة؟ ألايزال الخواجة يوليك هذه الثقة الكبيرة بعد أن جعل منك ساعده الأيمن؟
وأجاب الشاب كالذي يستجيب لخاطر طريف :
- لقد انتشى الخواجة رجب نظراً لانتصار الإنجليز في الحرب، ولكنه يجهل أن النتائج السياسية للأمر باتت تفرض دولاً جديدة كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من شأنها أن تنازع نفوذ هذا التاج البريطاني في العالم بأسره،.. ولعل الأمر يفضي إلى خروجه من البلاد يوماً !
وقال بهاء الدين :
- صدقني، إن خروج الإنجليز من مصر لأبعد منالاً من الصعود إلى القمر !
وأدار هشام عزمي الراديو الذي كان يذيع أنباء استسلام إمبراطورية اليابان آية على نهاية الحرب العالمية الثانية، وقال الشاب من موقعه القريب منه واقفاً بعد أن فتح ذراعيه :
- الثاني من سبتمبر 1945م.. حق للعالم أن يحتفل أخيراً ! ولسوف يُنقش هذا التاريخ على حجر الأبدية !
وكانت مناجاة خافتة وقعت بين صابرين وبين فاطمة لم يسمعها الشاب المشغول بهذا الجديد من أنباء الحرب، قالت الفتاة :
- إنه ليمنعني من الذهاب إلى الجامعة، وحتى لقد لوح باستخدام القوة غير ذات مرة، إنه ليدعي ادعاءً مقيتاً بأن تعليم البنات رفاهية لا ضرورة لها إلا في وعي أدعياء الحداثة !
وكان إنشاء فرعين لكليتي الحقوق والآداب في الإسكندرية - لا يزال - حدثاً جديداً لم يمر عليه إلا سنوات سبعة (1938م)، وأما صدور القانون بإنشاء جامعة الإسكندرية - التي كان الفرعان نواةً لها - فقد كان ابن الأعوام الثلاثة (1942م)، وعلى هذا لم تستسغ الأفهام ضرورة الأمر استساغة حقة، أو يختمر في النفوس اختمار الألفة، وقالت فاطمة هامسة :
- الملعون ! كان بهاء الدين محقاً حين حذرك منه !
وجاء الشاب ومعه صندوق من المشروبات احتفاءً بانتهاء الحرب، فتساءلت فاطمة كأنما تفصح جهاراً بما دار في خلدها في صمت :
- هل حقاً منعت صابرين من الذهاب إلى الجامعة؟
وقال :
- إنني لأغار عليها،.. هل يلام المرء إذا هو استمسك بالمروءة؟ (ثم وهو يستدير إلى صابرين..) كنت أعرف أن سراً لن تحتفظي به أبداً !
وأفصحت فاطمة عن هاته الهدية (القميص والسروال) التي جاءت بها في وقت اشتعل فيه الحوار بأسباب المجادلة التي تشارف موقع الخصومة، فلم يكن لها هذا الأثر الكبير المحمود.. وانتهت الجلسة دون هذه الحفاوة التي بدأت بها، وسمع الناس في كرموز سجالات جمعت بين الزوجين - كالشجار العاصف - وإن سرعان ما خمدت رياح الاختلاف حين لاحت على صابرين الأعراض الأولى للحمل، فعد الزوجين وافداً جديداً إلى العالم سبباً في توثيق ما قد تخلخل من أسباب الصلة، وباعثاً متيناً على توطيد رباط مقدس، وسرعان ما أنجبت الفتاة بنتاً سمتها بمريم، ومنذ لحظة الولادة وضعت الأم على قرب منها هاته الصينية الفضية وفيها الفول والحلبة والحمص والبقدونس، وإلى جوار الصينية كانت قلة (إناء من الفخار) وأشعلت فيها الشموع، ووضعت سكيناً، لقد وضعت المرأة كل أولئك تماشياً مع الطقوس والعادات بالإسكندرية، وقال لها هشام عزمي وهو يطرق إلى قلة الفخار :
- كنت أتمنى لو كان إبريقاً قد وضع هناك.
وكانت العادة تجري أن يوضع إبريق من فخار (بدلاً من القلة) في حال ولادة طفل من الذكور، وقالت صابرين منهكة من عناء الولادة :
- إنها إرادة المولى،.. وهو الذي ينمح ويمنع !
وظلت هاته الظواهر مصاحبة لمريم حتى آن يوم الاحتفال بالسبوع، فزين الغربال بقماش من «ساتان»، وحضر بهاء الدين فقال منتشياً بمجيء ورؤية حفيدته :
- ولسوف نتكفل نحن (أهل الزوجة) بمصروفات السبوع للمولود الأول! بهذا تقضي الأعراف..
وحاول هشام عزمي أن يثنيه عن قصده ولكن الأب ظل على عهده من الاستمساك بالمستقر من العادات، وشوهد الأب بالسبوع وهو يرفع الطفلة عالياً بينما يدور حوله الدائرون، وحتى لقد ظنه من رآه يومذاك قد تناسى عاماً من الحبس في سجون الإنجليز، ثم عناء وظيفته الجديدة التي باتت تجر عليه أثقالاً كالجبال، فذاك وجهه يشرق بضياء جديد - كطفل من طراز محبب - متى خلا إلى المولود، وأمسى يداعبه ويشاغبه، يشد خديه الحمراوين ويهبط معه إلى مستوى الأرض تارة، وتارة يبدي عجباً جديداً في كل مرة يلحظ فيها هذا التشابه بينه وبينها (مريم) فيقر في خاطره أن له ظلاً أبعد في حياة مستقبلية، إنه ليتقلب في أطواره هذه على مشهد من آل العروسين دون تحرج كأنما أسقط دواعي التكلف في لحظة صدق وحقيقة، تمسك فاطمة بالهون المعدني وتدق به مرددة وصايا للمولود تحثه فيها على طاعة والديه، وتركز على ذكر الأم دون الأب، وتمر فوقه مرات سبعة رغم آلام العظام اللائي تضر بسلاسة حركتها،.. وسأل بهاء الدين ابنته عن حفيدته :
- وكم عمرها؟
وكان من تقليد السبوع بالإسكندرية ألا يقام حتماً في يومه السابع، فقالت صابرين:
- أحد عشر يوماً !
وجعل بهاء الدين يقول مدققاً ومتفحصاً في صورة الطفلة المحمولة على ذراعيه :
- إن وجهها يشي بأن لها عمراً أكبر !
وعدت صابرين شهادة الجد دليلاً محموداً، وكانت قد توثقت لديها أسباب الثقة في فراسته بعد تجربة الزواج، وكانت تقول في نفسها :"ولن تصدق الحفرة التي يحذرك منها محذرون إلا حين تزل فيها قدماك!"،.. ووطد الجد نفسه على زيارة البيت الذي يرى فيه حفيدته هرباً من مهام جمة، وكان هشام عزمي - على النقيض من بهاء الدين - مُخيب الرجاء لانتظاره الولد الذي لم يجيء، ويوماً قال لامرأته حين استعادت عافيتها :
- ولقد بت أحسب أن الطفلة طفلته (يريد بهاء الدين) !
ولم تجبه المرأة أولاً، ثم قالت :
- وماذا يعيب الجد تلهفه إلى رؤية حفيدته؟
وأوعز إليه شيطانه بأن يقول :
- ألا نكون أهنأ بالاً في غيبة من تطفله الدائم ؟! ألا يكفيه جواراً أنه يقطن عين العقار الذي بتنا نسكن فيه ؟!
وعادت تثور بين الزوجين أسباب الشقاق فيروح يفصل بهاء الدين في أمرها يوم مجيئه، وكانت صابرين لعلمها بما قد يفضي إليه انقطاع مجيء أبيها من استبداد زوجها وتماديه في تسلطه تحضه على الحضور الأسبوعي، وتهيأ له أسباب الإمتاع والمؤانسة، ويوماً قالت لفاطمة :
- إن طباع الرجل (تريد هشام عزمي) السيئة قد نضحت بعد إتمام الزواج !
وكانت فاطمة تشيح وجهها قائلة :
- أخال أنها كانت مرئية لكل ذي عينين قبل الزواج أيضاً !
وكانت صابرين تقول وهي تهدهد الطفلة :
- إنه الحب، قاتله الله، يعمي البصائر، ويحبب إليها التمادي !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
كان الفتوة إسماعيل سيد أحمد غارقاً في خيالاته، جالساً أمام النارجيلة التي فاحت منها في أرجاء فيلته ذات الطابقين رائحة الليمون حين طرق بابه في شدة غير معهودة، ونهض مرتاباً فخطى بضع خطوات مضطربة، حتى فتح الباب وألفى النيجرو - وقد تلون صديريه بحمرة دماء وتقطع سرواله الأسود الوسيع وتهتك حذاؤه - يقول له :
- فلتخبئني هنا أو هناك،.. إن الوقت هذه الساعة من ذهب !
وقال إسماعيل سيد أحمد مأخوذ اللب بينما يفسح له الطريق :
- وماذا جرى؟
- استهدفت عرس صابرين، وقد لاح زكي طبيلي- كنبت شيطاني - من حيث لم أدرِ، وسرعان ما تكالب عليَّ الخلائق، وكان من بينهم شاب قوي أفضى نزالي معه إلى حال صرت فيه موثوق اليدين، فأودعوني عربة الترحيلات التي فررت منها إليك !
وما لبث أن بدل الفتوة في الطابق العلوي هندامه، بعد أن اغتسل، كتم إسماعيل سيد أحمد جروحه بالبن وأحاطها بشيء من الصوف، وكان (النيجرو) لا يحزنه إلا أن الفتاة (صابرين) قد انتقلت إلى نقطة لا عودة، وأن فرصته في نوالها قد أزفت.. لقد كان يقطر غبطةً وحسداً تجاه هشام عزمي الذي سبقه سعياً وزاد عليه حظاً، إن غيرته على صابرين تكاد تشفي على غيرة عُطيل على ديدمونة في مسرحية شكسبير التراجيدية، وإنها لمقتبسة من عين النبع الطائش والجذع المجنون، ولكنه لم يجد بداً من تدارك الحقيقة الواقعة كمن يعود إليه وعيه بعد تيه فيفيق على استقبال حقيقة مؤلمة، وكان يقف أمام المرآة وهو يلبس معطف إسماعيل سيد أحمد وطربوشه المؤلف من الجوخ الغامق الحمرة قائلاً :
- ألا كم يضنيني أني بت عبئاً ثقيلاً ! انظر إليَّ : طريد العدالة، وفم يحتاج إلى من يطعمه !
وقال إسماعيل سيد أحمد وهو يجتهد في استرداد بعض وعيه :
- إنك لتسبني حين تقول ما تقول،.. وكيف حال الطربوش الجديد؟
ويجيبه الآخر في رثاء :
- إنه أصغر مما يجب، ولكنه نعمة تُحمد عليها !
يناير 1946م..
وتوالت على الفتوة الهارب أيام وأشهر والرجل في مخبئه مخافة البوليس، حتى وقع ذات مساء أن طرق الباب في شدة أوحت إلى الفتوين أن في الأمر أمراً، وسارع النيجرو إلى الاختباء في خزانة الطابق العلوي، وهو يهمس :" أتراه يكون زكي طبيلي؟!"، على حين فتح الآخر مصراع الباب بيدين مرتجفتين فألفى هذا الضابط المصري الأسمر، يقول:
- أفسح السبيل،.. رجاءً !
وأوسع له إسماعيل سيد أحمد وهو يغمغم في تندر :"آه.. وقد غدت الفيلا ملاذاً لكل طريد.."، وسأله :
- ماذا دهاك،.. سيادة الضابط؟!
وقال بينما ينازعه اضطراب القلق :
- لقد قُتل أمين عثمان (وزير المالية) مثلما خططتنا (يريد الجمعية السرية) والساعة أبحث عن مأوى من عيون البوليس ! (ثم وهو يخطو بضع خطوات إلى الداخل..) هل تقبل؟
- على الرحب والسعة ! (ثم وهو يرقب دخوله بعينين خائرتين..) أتحسبني أتركك نهب الجوع والبرد؟!
وقال السادات ممتناً :
- وسوف أرد لك جميلك هذا يوماً !
وكان النيجرو قد خرج من خزانته حين سماعه للصوت الذي يعرفه، فقال من موقعه بالطابق العلوي مستريباً، وكان السادات بعد سقوط الأحكام العرفية وانتهاء الحرب في هيئته الحقيقية خالعاً لباس تنكر سنوات ثلاث مضت :
- وهل قتلته؟
وأشرأب عنق السادات إلى محدثه، فقال في صوت عالٍ :
- قتله حسين توفيق، وشاركت في تدبير الأمر.. إنها قصة طويلة !
وجلس السادات يقول :
- كان أمين عثمان من أنصار الاستعمار، وأما قولته : “مصر وانجلترا في زواج كاثوليكي لا طلاق فيه أبدًا”، فكانت إيذاناً بإعدامه !
وعرض عليه إسماعيل سيد أحمد طعاماً، فقال السادات وهو يهم بتناوله:
- من الجيد أن ما جرى سيكون سبباً في إسقاط تلك الهالة التي تحيط بالسلطات البريطانية في مصر،.. وقد باتت مقابلة المندوب السامي البريطاني المدعو لورد كيلرن مما يجلب لصاحبها الشرف،.. فانظرا كيف اختل الميزان وتبعثرت أوراق الوطنية ! (ثم وهو يستجيب لهاجس ما..) ولكنني أخشى أن يعترف حسين توفيق بعد أن قبض عليه فيدل البوليس على مخزن السلاح الكائن في جبل المقطم !
وسأله النيجرو :
- وهل كان المقتول (يريد أمين عثمان) خائناً؟
وبدا التردد على السادات الذي قال :
- كان من ذيول الإنجليز في مصر،.. إن هذا ليكفيه سبباً للقتل !
وهنا همس النيجرو في أذن إسماعيل سيد أحمد قائلاً :
- لقد شارك الضابط في قتل وزير المالية، دون دليل واضح على خيانته.. بربك.. كيف نأمن جانبه؟
- لا تخشَ شيئاً،.. إنني أثق به ثقتي في طلوع الشمس !
كان البرد قد فرض في الأجواء زوابعه فجعلت النوافذ تروح وتجيء، وطالت سهرة الثلاثة فلم تنتهِ إلا حين أنشد السادات موال زهران الذي يحبه :
يوم شنج زهران كانت صعب " وجفاته "
أمه بتبكى عليه " فوج" السطح وأخواته
لو كان له أب ســتاعة " الشنج " لم فاته
واختتمه بصوت يأخذ ينخفض إلى القرار :
-" صبرك علينا يا ظالم بكرة راح تندم.".
قالها منتشياً بما وقع هذه الليلة، وكانت قد حفلت الجلسة بتقليد إسماعيل سيد أحمد للملك فاروق فضحك لأجل هذا السادات ملء فيه، وود إسماعيل سيد أحمد لو يستزيد من نغم الموال الذي ينشده الضابط فيعلو به إلى أفق من الإجادة كالمطرب المحترف (أفصح السادات للجالسين عن حبه لصوت أسمهان وأسفه لوفاتها المفاجئة قبل عامين) لولا أن النيجرو أشار إليه أن أكتفِ، وسرعان ما انصرف الضابط المصري حين عدم مجلسه من أذن تطلب المزيد، وسأل إسماعيل سيد أحمد محدثه :
- ماذا بك؟ إني أراك عن الانسجام في جلستنا في عزلة !
وقال النيجرو :
- الفتاة ! إن شبحها ليتخايل إليَّ في كل دخان صاعد أو ظل متوارٍ وفي كل همسة وانية أو ضجيج عارم !
وقال إسماعيل سيد أحمد :
- إنه الحب الذي أوقع بك ! ولدي خبر سوف تسعد به سعادة جمة !
وصمت إسماعيل سيد أحمد ليضفي إثارة ما بينما اشرأب عنق النيجرو صوب محدثه، ثم شرب الأول من المعسل شيئاً جعل فترة صمته تطول، قال :
- إن الناس يتحدثون عن خلافات بينها وبين زوجها الجديد ! ولقد شوهد يمنعها من الذهاب إلى الجامعة ! إن بوسعك أن تتذرع بالأمر كي تقتحم حياتها من جديد !
وترددت كلماته في وعي النيجرو كالإيقاع المنظم يضفي المعنى على نغم حائر، ولكنه عاد مرتاباً من جدوى تدخله هذه المرة، قال :
- إنني إذا تدخلت سببت لها المشكلات، ألا تكون الفتاة أهنأ بالاً إذا هي تُركت وشأنها ؟!
- إن الأمر برمته متروك لما تراه مناسباً !
واختمرت في ذاته دواعي الحيرة حتى تبخر أثرها كزوال السحب عن سماء ملبدة فاستنفذت أسباب التردد، وقصد إلى مصبنة الخواجة رجب متنكراً عن الأعين، وأماط عن وجهه لثامه فسمع هشام عزمي يقول للخواجة :
- "آه.. ما أتعس المشيب ! وما أشقى الشيخوخة ! ولو أنك تركت إدارة المصبنة للشباب لكان خيراً للجميع !".
وكان الخواجة يجيبه :
- "دع هذا الحلم البعيد ! وسوف أظل على عهدي بالنهوض بالعمل هنا ما دام في صدري قلب يخفق.".
- حدثني لمَ ذبل وجهك، وشحبت عيناك إذن؟ أليس لأنك تنهض بما ليس في وسعك من الجهد؟
ولم تمضِ إلا هنيهة حتى خرج هشام عزمي من الحانوت وهو يغمغم، فما أن استدر دالفاً هذا الزقاق المجاور حتى أمسك النيجرو بقميصه، وقال مذعوراً :
- ماذا تريد أيها الأحمق؟ ألم تعتبر من يوم العرس؟ وأي طيش يدعوك إلى أن تدس أنفك فيما لا يعنيك؟!
وامتدت يمنى النيجرو إلى عنقه فكاد الشاب يختنق، وانقطع سيل أسئلته انقطاعاً أحال صوته إلى ما يشبه الحشرجة، قال الفتوة :
- ولتدع الفتاة ترتاد الجامعة،.. هل هذا مفهوم؟
وأجابه الشاب - على حين كانت روحه معلقة لثوانٍ في يمنى الفتوة - إلى الموافقة، وأحس النيجرو تلك الخيرية الكامنة فيه بمجرد أن انصرف عنه الشاب،.. ولعله ود لو يصرخ في أولاء المزدرين به في ميدان عام : "ألا تصنع حشرة القز الحرير؟ ثم ألا يجهز النحل على بشاعته أطايب العسل؟.. ها أنا ذا صانع أمراً جديداً.."، ومنذاك اليوم عادت صابرين إلى الانتظام في الحضور إلى كلية الآداب اللهم إلا في أوقات تجتمع عليها مهام الرعاية والبيت، وجهلت الفتاة بالسر الذي بدل موقف زوجها فنزعت إلى تفسير الأمر بأن الرجل غدا يتقي أباها اتقاءً تولد من شكاياتها المتكررة فرضيت بهذا التفسير - على مجافاته للحقيقة - وقنعت به، وعاد النيجرو إلى فيلا إسماعيل سيد أحمد، وكان الأخير جامعاً في تلك الردهة الطويلة نفراً من طلاب التسرية واللهو، وأخذ في تقليد الملك فاروق في خطاب له ألقاه بمناسبة أول عيد للعمال منذ عامين يقول :
- "إن الأيام التي خلفتموها وراءكم ليست شيئاً مذكوراً، إذا قيست لما تطلبه منكم أيامكم المقبلة من جد وجهاد، إن الغد أشد من الأمس بأساً، فأعدوا له ما استطعتم من قوة وعزيمة، واجهوه بالنضال والمثابرة، وخذوا علم غدكم كما أخذتم علم أمسكم، فإن العلم يتجدد كل يوم، ومن فاته علم يومه فقد تخلف عن موكب الحياة..".
وكان الرجل يستبدل بـ "شباب النيل" "شباب الردهة" أو "شباب الفيلا" آية على التندر، ويجمح في منع القهقهات مخلصاً في تقليده المفتعل لشخصية الملك، واستبد بالنيجرو شعور بالسُخف وهو يرمق المشهد العابث وتولاه السأم، فلم يتمادِ مع الجاري أقل تمادٍ، وسأله إسماعيل سيد أحمد وقد تملص لتوه من آفة التشبه بالملك :
- وهل نجحت في صد الشاب أو تعديل مساره؟
وكانت أنوار الثريات (النجف) تهتز بفعل الرياح التي وجدت من نافذة علوية سبيلها إلى داخل الفيلا، فقال النيجرو وقد جذبته حركتها :
- أحسب أنني أفلحت،.. ولكن من العار ألا أُجازى على ما أقدم !
- لا تستهن بخير لا تجازَ عليه،.. فالعاقبة للمحسنين.
وقال في انفعال :
- هذا عزاء الخاسرين ! تلوثت بالجريمة منذ فتحت عيناي ولم يعد للتوبة من معنى بعد تل من الخطايا، وأمام بشر لا يغفرون !
ولم يجد النيجرو بداً من الصعود إلى الطابق العلوي، وسرعان ما عاد حاملاً بعض حقائبه، وسأله إسماعيل :
- إلى أين؟
وأجابه وهو يخطو بين الجالسين فيبدون في جلستهم، وحتى الواقفين منهم، كالأقزام قياساً إلى طوله الشاهق :
- عائداً إلى الفتوة النونو !
وساقه الغضب وحده إلى المأوى القديم، وغشته سحائب الانفعال فأمطرت نيران من الغبن والامتعاض، واستقبله الفتوة النونو في هيئة جادة غريبة عن مظاهر الفخفخة التي أعتادها في فيلته، وقال المستضيف :
- لقد طردت الإنجليز من الفيلا إلى غير رجعة !
وقال النيجرو وهو يلحظ خلو الأواني الفخارية من تفاحها :
- إن هذا خير قرار تقدم عليه !
وقال النونو :
- إن هذه واحدة، وأما الثانية فلسوف نتحدث عنها بعد أن تستريح !
وتجلى في نفس النيجرو الفضول بصدد المسألة الثانية وهو يخلع طربوشه ومعطفه واهباً لمحدثه أذنين مصغيتين وعينين متطلعتين !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق