استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/08/26

الحب في عصر الحرب

الفصل السادس : الحب في عصر الحرب



 

16 نوفمبر 1943م..

وفي بيت بهاء الدين كانت فاطمة قد استجابت لهاتف النهار وهذا الخير الذي يتلازم معه - هكذا تعتقد - فيقظتْ من فورها لتنهل من أبوابه الموفورة، وشرعت تجهز الفطير المشلتت الصعيدي في حيوية صباحية تألقت لها غضون وجهها كالماء حين يسري في الأرض اليابس فيحيله جدبه إلى حياة، وجمعت للأمر أكواباً أربعة من الدقيق وكوبين من الماء ورشةً من الملح، وكذا الزيت والزبدة والقشطة بينما ينسل شعاع النهار ليحدد معالم الغرفة والأثاث، ولحق بها بهاء الدين الذي استيقظ فغمغم ولم يفتأ أن بثق عن شماله ثلاثاً، وقالت له :

- ما بال الكوابيس لا تترك منامات الرجال الصالحين؟!

واعتدل الرجل في جلسته، قال معللاً :

- إن يوسف بات كثير الإسراف في سهره فلا يعرف الشارع إلا وقد انقشعت سحابة النهار ولا يأتي إلى البيت إلا حين يحل وجه الفجر،.. وأما هدى فتنتظر غائباً بأسيوط قد لا يعود،.. وصابرين تعصي أمري حين تصر على التعلق بعامل لا يملك قوت يومه في مصبنة، وقد بت أهفو إلى عز الدين بعد أن طالت غيبته.. من أين يجيء الصفاء بعدئذٍ؟

وقالت فاطمة كالتي التقطت شيئاً إيجابياً وسط سلسال من الشكايات:

- إن صابرين فتاة مجدة، وسوف تحظى - لأجل هذا - بمستقبل تستحقه..

ولم يحفل بهاء الدين كثيراً بقولها وصلى صلاة الصبح - بعد أن تيمم - ثم قال بعد أن فرغ من أداء العبادة :

- وأنى لكِ أن تحوزي كل هذا الماء؟

وقالت متهللة كالتي تتذكر تجربة سارة :

- إنهم بائعو الماء المصريون الجوالون.. أبصرتهم يطوفون الطرقات بجلبابهم وأقدامهم العارية لدى كوم الشقافة، وأما رؤوسهم فتعتمر ما يشبه القماش الملفوف، إنهم  يمسكون بعصى في يمناهم ويحملون قدراً ملؤه الماء ينوءون به،.. آه.. (ثم كأنما ترى ظهورهم المحدودبة في خيالها) ولقد أرثي لمظهرهم هذا كل رثاء ! غير أني - وبعد الرثاء - وجدت في ابتياع الماء الذي ننتفع منه سبيلاً لتخفيف هذا العبء عنهم! واستوقفت منهم واحد فناداني بـ"سيدتي" بعد أن لبى مطلبي.

وبدا بهاء الدين عارفاً بهم وإن لم يتدخل الرجل ليقطع حديثها، وقال بعد تأمل في شمس كانت أشعتها تأتيه خجلى فتتسع لها - مع هذا - حدقتا عينيه الزرقاوين :

- إن الشفقة وفي هذه الساعة تنسحب على المصريين جميعاً،.. وحتى الملك فاروق كاد بالأمس يموت !

وكانت تفرد العجين على صفحة طاولة أرضية فتوقفت كالملتفتة، قالت :

- وماذا جرى.. كفى الله الشر؟!

وقال مستحضراً ما قرأه بجريدة الوقائع المصرية :

- يقولون إن مقطورة عسكرية إنجليزية قادمة من بني غازي اصطدمت بسيارته،.. بعد عودته (الملك فاروق) من رحلة لصيد البط قرب الإسماعيلية ! لقد طارت عجلة سيارته وتحطم باباها الأمامي، إن هذه السيارة، وللمفارقة، هي التي أهداها له هتلر سنة 1937م !

وتساءلت في لهفة :

- وكيف حالته (الملك)؟

- لقد تفادى السقوط في الترعة،.. لديه كسر في عضمة الحوض أسفل البطن، وقد رفض أن يعالجه الطبيب الإنجليزي وآثر عليه المصري المسمى بعليّ إبراهيم باشا فقال : "لا أريد شيئاً من هؤلاء..".. أي من الإنجليز !

ونطق بهاء الدين عبارة الملك فاروق كمن يتمثل الملك في غضبه من الإنجليز لشراكتهما في هذا، وقالت فاطمة وهي ترش الملح :

- أتكون الحادثة مدبرة؟

وأجابها :

- بهذا تنطق الإشاعات.. ولا أستبعد الأمر قط، فبين الملك والسفير البريطاني (مايلز لامبسون) ود مفقود ! ولكن ما أعجب لهفتك ! وهل وصلنا إلى هذا الدرك من التبعية إلا بسياسة تفتقد للنضج كسياسة فاروق ومن سبقه ؟!

وقالت :

- إن الشيطان الذي تعرفه خير من الملاك الذي لا تعرفه !

وفرغت فاطمة من إعداد الفطير ما خلا التسخين، فنهضت متوجهة صوب الفرن، وأغلقت النافذة المدهونة بالزرقة - بسبب الغارات - فحجبت أشعة النهار عن سرير الرجل الذي جعل يتثاءب، ونهض بدوره كي يتأهب لعمله الوظيفي الجديد مرتدياً بذلته البنية العتيقة التي غاب فيها جسده المتوسط،.. وقد أضاف الرجل في العام الفائت إلى جانب عمله بتجارة الأخشاب - لكسادها - عملاً آخر ومورداً جديداً يتكسب منه فعاد إلى العمل بشؤون الرقابة الفنية بعد استقالته منها، وقصد إلى مكتبه فبلغ محطة مصر - في سبيله إلى هناك - سائراً على قدميه، وفي الطريق ألقى التحيات على الأهالي الذين بادلوه بأمثالها فحنى رأسه لهم في استحسان، كان الرجل ممتازاً عنهم بارتداء البذلة - شأنه شأن الموظفين - على حين رفل أكثرهم في جلابيب بسيطة اختلفت في مظهرها بين رث ذري ونظيف أبيض، ومن هناك (محطة مصر) استقل التاكسي بعد انتهاء مسير يومي يحرص عليه لأجل صحته، وبلغ وجهته وهنالك قابله مدير المكتب أمين فريد بنصف اهتمام وهو يقول :

- اجلس ها هنا ! (يشير إلى الكرسي المقابل لمكتبه!)

وجلس بهاء الدين متعجباً ومشدوهاً، حتى قال له الرجل كمن جد في أمر :

- إن لدينا مشكل في فيلم وادي النجوم !

واعتدل بهاء الدين في جلسته فذهبت عنه الهواجس والمظان، وجعل يزدرد ريقه، قال متصنعاً الاهتمام :

- حقاً؟! وماذا تكون؟ هل تعرض الكاتب (محمود ذو الفقار) لجلالة الملك بسوء أم عساه تناول الإنجليز بما قد يسيء إليهم؟

وجعل أمين يطوف حول مقعده فعاد القلق في نفس الجالس، حتى قال وهو ينفث دخان السيجارة :

- لا هذا ولا ذاك،.. إن ثمة قبلة بالفيلم بين محمود ذو الفقار وعزيزة أمين ولا أدري أمن الواجب أن يجري اجتزاؤها أم الإبقاء عليها؟

وتنفس بهاء الدين الصعداء فهش وبش، لم يذكره الرجل بسوء.. لا.. ولا جعل ضرورة الظرف السياسي تقضي بالتخلص منه، قال وهو يتأمل الاسمين في سخرية :

- ولاريب أنها ستكون أنزه قبلة في تاريخ السينما المصرية ! فلنبقِ عليها..

وتوقف أمين فريد بغتة، قال بينما انعقدت لدى السقف سحابة الدخان :

- هل ذهبت الغارات بعقلك؟ وسوف نجتزأ القبلة ابتداءً من عرض الأسبوع المقبل ولا ريب.

وسأله بهاء الدين في غضب يتخفى وراء دواعي الاحترام المقرون بالفروق الوظيفية :

- ولمَ تسألني إذن؟

وقال الآخر وهو يهم بالجلوس :

- كنت أحسبك توافقني الرأي !

ونهض بهاء الدين فجلس إلى مكتبه المتواضع حيث يميل جذع زهرة في كوب من الماء بينما يغمغم :"ألا لعنة الله على هذا الكساد الذي جعل حاجتي موصولة بمثل هذا السفيه.. وتجارة الأخشاب ! أين أنت؟ ولتنتهِ الحرب الملعونة في أعجل فرصة !"، وسمع فريد أمين غمغمته الأخيرة التي تخص الحرب فقال :

- سوف تنتهي الحرب قريباً بهزيمة الألمان، فمن يروم أن يستحوذ على كل شيء يعود بخفي حنين !

وقال الآخر متململاً :

- إن هذا حق.. (ثم في تورية يقصده بها) وليت أن الناس تدرك هذا..

وعند المغيب عاد بهاء الدين إلى بيته في حي كرموز مترجلاً، وجعل ينادي لدى عتبة الباب ثم حين دخوله :

- واليوم جهزت لكم مفاجأة، أجل.. وسوف نرتاد سينما مترو الجديدة لنشاهد فيلماً تختارونه !

كانت المدينة عامرة بسينمات أفلام الطليان واليونانيين والفرنسيين  خلافاً لما كانت عليه ثقافة السينما الأمريكية بالمجتمع القاهري، غير أن الانحياز إلى الفيلم المصري كان مبعثه رغبة في أن يشارك الأبوين في تجربة المشاهدة برؤية المحتوى القريب منهم.. وخرج الأبناء (يوسف وصابرين) من حجراتهم استجابة للهاتف السار بينما بقت هدى لحزنها الموصول حيناً وظهرت أخيراً، وصفق يوسف بكلتا يديه في طفولة قريبة من مسلكه الصبياني المألوف، وقال في شغب :

- وليكن فيلم وادي النجوم !

وتذكر بهاء ما كان من أمر الفيلم في صباحه دون أن ينبس،.. وقصد أربعتهم إلى سينما مترو في يوم تجاور فيه الرياح والمطر، على حين مكثت فاطمة في بيتها لآلام العظام التي ما فتئت تعاودها،.. وكانت أحداث الفيلم تدور حول عدلي ورؤوف، إنهما أخوان يحط بهما المطاف في إحدى الجزر النائية البعيدة من العمران، وهناك يستنقذان فتاة مصرية اسمها زينب من أيدي قبيلة تحتفل بدق الطبول، وقد وثبت إلى نفس عدلي محبة اختمرت دواعيها تجاه زينب في رحلة العودة.. كانت صابرين أكثر شيء تجاوباً مع حوادث العرض على حين لزمت أختها هدى حياداً لم يفارقها منذ يوم هجران الأحبة، وأما يوسف فقد بدأ اهتمامه يتنامى حين ظهر ساحر من وادي النجوم، هذا الذي أراد استعادة زينب في ليلة الزفاف ولأجل هذا تعاون الأخوان (عدلي ورؤوف) على التخلص منه،.. وقد تعاطف الفتى (يوسف) مع الساحر تعاطفاً انفرد به بين رواد الصالة فشغل لبه المفتتن بالغريب من الأشياء والظواهر وإن جعل يصفق حين انتهاء العرض الذي لذَّ له، وكان خياله يصل به إلى لقاء صوفيا لورن وجان مورو وغيرهما من نجمات سمع عن ارتيادهم لمدينته،.. وسألت صابرين أختها هدى بعد أن لاحظت وجومها البادي في شحوب عينيها :

- وما أكثر ما شغلكِ في العرض؟

وقالت هدى مأخوذة اللب :

- لعله رؤوف وعدلي حين تعاونا على التخلص من الساحر !

وتدخل يوسف في سمر فقال لاهياً :

- إن هذا في الواقع أسوأ ما في الفيلم.

وعادوا إلى البيت بعد مسير تجاوبت فيه هدى معهم بعض التجاوب فأزاح عنها بعضاً من هذا الحياد الذي ضُرب على شخصيتها منذ وقعت الواقعة، وباتت تشاركهم النجوى في استحياء وتحفظ من أوغر الحزن قلبه،.. ولعلها تساءلت في مناجاتها : "أيستحق عبد الغني في مهجره كل هذا الحزن؟ وهل ينفعه في أبي تيج كل هذا الكدر؟ وهل عساه في أصقاع الصعيد اشتد به الجوى كحالها؟"، وكانت تأتيتها رسائله متواترة فتثبت نفسها على حافة اليقين، وترضى لها بواطنها فتمسي كالجذع المتين تمر عليه الأيام واقفاً في جلد دؤوب.. ولكنه الانتظار.. الانتظار عذاب صامت،.. كان بهاء الدين يرقبها دون أخويها في قلق بات ينجلي تدريجياً حين رؤيتها تبتسم، ولعل إشفاقه الصامت عليها تجلى في اهتمامه الزائد بكل ما تقوله وفي إصغائه لآرائها إصغاءً يهدف إلى إشعارها بالأنس، وقالت (هدى) :

- لا أعرف لماذا يصر الناس على الحب إذا هم يتجشمون في سبيله كل تلك الآلام المعنوية !

وكان يوسف يقول وهو يرتقي الدرج في خفة :

- ولأجل هذا فإني مؤثر عليه السحر،.. والأسحار !

وهنالك اختل توازنه فوقع وسط الضحكات، وقالت صابرين له :

- من المناسب أن يحسن المرء صعود الدرج قبل أن يتحدث عن الأسحار.

وطرق بهاء الدين الباب مرات ثلاث فلم يجد مجيباً وطال الارتقاب حتى سمع بالمنور صوت لفأر ينبش، وعمت رهبة طارئة في الأنفس المسرورة فاختل ميزان السعادة اختلالاً كاملاً، وقبضت القلاقل نذر المباهج والمسرات، وفتح الباب بمفتاحه فألفى فاطمة مسجاة على الأرض تتأوه، وهرع الرجل إليها فحملها مع يوسف إلى حيث السرير، وقال (بهاء الدين) :

- أهي.. آلام العظام؟.. (ثم كالذي يستوثق من الأمر بنفسه) قاتلها الله!

وأجابت فاطمة في صوت واهن :

- أجل.. هاتوني بالأعشاب !

وقال بهاء الدين لصابرين محولاً رأسه عن زوجه إلى جهة ابنتيه :

- عيسى العطار،.. ومن هناك تبتاعين حب الرشاد والحلبة وزهرة العطاس وحتى عشبة السنفيتون !

وتحرجت صابرين أول الأمر لرغبتها في أن تتفادى لقاء يجمعها إلى فتحي ففكرت في أن تعهد بالمهمة المتعذرة إلى أختها هدى،.. وقالت كأن صوتها يخرج من جسد آخر :

-  إن أختي هدى بمقدورها أن..

وقال بهاء الدين كأنه يزجرها :

- إنها (هدى) الساعة ساهمة الوجدان بطيئة القرار.. والوقت وقت جد تُحصى فيه الثواني !

وملأ الرجل المتلهف طستاً بالماء فأسلم فيه ساقي امرأته بينما جعل يردد في خشوع :

- يارب عفوك.. يا رب عفوك..



  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

**

وفي الغد طرق الباب طارق فانبرت صابرين تفتحه بعد أن مسحت يديها المبتلتين من أثر الطعام الذي كانت تجهزه، وقالت في نفسها بينما تقطع سبيلها من المطبخ إلى الباب :"يوسف،.. لابد أنه أنت،.. ولقد تأخرت كثيراً اليوم عن العودة.."، وألهمها حديث نفسها القناعة بما وصلت إليه فحثت خطاها متأثرة بحقيقة أنه ما من أضياف يقصدون إلى البيت في ذاك التوقيت الباكر، وارتبكت لرؤية عيسى العطار وابنه فتحي قبالتها رافلين في ثياب منمقة غريبة بعض غرابة عن مظهرهما المعروف، يتضمخان بعطر ذي أثر قوي نفاذ، وقال عيسى قاطعاً هذا الارتباك :

- هلا أمكننا الدخول؟

وقالت بعد أن جعلت تتدارك المفاجأة :

- أهلاً بشيخ الحارة..

ولم تذكر ابنه فتحي فعده الرجل (عيسى) سهواً غير مقصود، وقالت وهما يجلسان في حجرة الاستقبال الأساسية :

- لقد تحسنت صحتها (تريد فاطمة..) وصارت أقدر على المشي من يوم أمس،.. وأما زيارتكما إلينا فتحمدون لها.

وتولى فتحي الخجل بينما جعل عيسى يشير إليه بنظره أن أنطق، وقال عيسى حين لم يجد استجابة من نجله :

- وفي الحق فلم نأتِ لهذا الغرض بحياله.

وهنالك حضر بهاء الدين الذي طفق يقبّل عيسى وابنه ويمد يده اليمنى للسلام ثم يؤزرها باليسرى في حفاوة الاستقبال والضيافة، وجلس بين الرجلين والمرأة كأنما هو حكم بينهما، وقال عيسى له :

- ولمَ لم نعد نرك في حانوت الأخشاب؟ وقد أظلم السبيل لامتنعاك حولاً عن الوجود فيه،..

وقال بهاء الدين في لهج من تلقى المديح ولا يعرف أين يصرفه :

- إنه العمل الوظيفي بشؤون الرقابة،.. وقد امتنعت عنه اليوم لأجل الاطمئنان على سلامة فاطمة !

وتساءل عيسى في اهتمام :

- وهل أجدت الأعشاب فتيلاً؟

وأجاب بهاء الدين شاكراً :

- أجل،.. إن لها تأثير السحر على العظام، والفضل لكما بعد الله.

وأمسك عيسى بطرف عباءته فضمه إلى الطرف الآخر وهو يقول :

- لسنا سوى أسباب.

وتفرع حديث الرجلين فقال بهاء الدين لعيسى :

- كاد الملك يُقتل،.. هل تعتقد أن للإنجليز يد في هذا وأنت أعرف مني بهم؟

وأجاب عيسى مسارعاً :

- لا أخال أن لهاتيك الأراجيف سنداً واحداً،.. وأما فاروق فقد عرف عنه نقصان الخبرة والحيطة، ولاريب أن رعونته في إدارة البلاد قد انسحبت على قيادته لسيارته أيضاً !

وتبادلا ضحكات في مشهد الظهيرة المفعم بالحيوية والحرارة، وقال بهاء الدين:

- ومشكلة الديمقراطية الحالية أن الملك والإنجليز يقفان أمام تطورها حجر عثرة.

وقال عيسى:

- بل أنها أفضت إلى التمزق والمشاحنات والفوضى بين الأحزاب التي تعدم من الكوادر الحقيقية على كثرتها.

- رحم الله سعد زغلول باشا، ولتبارك الأقدار النحاس باشا من بعده، عساه يكون شعلة الأمل الباقية في النفوس.

ولم يُسر عيسى بمديح زعامات الوفد فقال :

- إن الوفد صار وبمرور الوقت أوهن من أن يفرض رأيه في مواجهة الإنجليز والملك، وأخشى أن ينزوي سلطانه الشعبي مع استمرار تضعضه الداخلي،.. وما رأيك بأحزاب الأقلية؟

- إنها جميعاً من صنائع الملك والإنجليز، وهم جميعاً يعتقدون في أن الشعب لا يصلح معه الأسلوب الديمقراطي.

وكاد عيسى يقول مدفوعاً بميراث صداقته بالإنجليز :" أخشى أن لزعمهم هذا بعض وجاهة.." لولا أن الرجل تذكر أن مقالة كتلك قد تعكر صفو محدثه وكذا تفسد الغرض الذي جاء من أجله فنكص عنها، لقد فطن إلى هذا - في مثل طرفة العين - فأمسك عنه إمساكاً وجعل يسترد قناعه الودود،.. وكانت صابرين كالغائبة ذهنياً عن حديث الرجلين الضاحكين، وجعلت تتأمل لوحاً معلقاً دونت فيه أسماء الله الحسنى في شكل مرسوم على هيئة ثمرة تفاحة، وقالت كالتي تعرض الاستفهام من واقع النفور:

- ولأي سبب حضر شيخ الحارة إلينا في هذه الساعة إذن؟ أعني سبباً غير الاطمنئان على سلامة أمي فاطمة؟

واعتدل عيسى وقال بينما يرمق ابنه فتحي معجباً :

- إن فتحي أراد أن ينزه نفسه عن الشبهات، وقد أبدى إعجابه بالست صابرين غير مرة،.. فما عاد يرى إلا الزواج مكملاً شرعياً لهذا الإعجاب !

وقال فتحي في أدب يتناقض مع مشاكساته السابقة :

- إن هذا حق..

وحل الصمت بغتة، ولزمت الوجوه الأربعة الحياد فهبت ريح تحركت لها الستارة سامحة لأشعة الشمس أن تخترق اجتماعاً ساكناً فتكسوه برداء الظهيرة، وكادت صابرين تنطق رافضة لولا أن بهاء الدين تدخل - كالذي فطن إلى ما وراء تحفز ابنته - قائلاً :

- وسوف ننظر في طلبكم هذا..

 ولم تمضِ إلا دقائق حتى انفرط عقدهم، وقال بهاء الدين لابنته :

- العقل يقتضي القبول به وقد طرق الشاب وأبوه الأبواب المعروفة !

وقالت :

- إن هذا حديث جديد قديم، وموقفي منه لم يتغير قط.

- عامل المصبنة ليس إلا سارقاً للصابون، وأما عيسى وابنه فصديقا الإنجليز.

- ليس للإنجليز رفيق أو حليف.

- لقد توسط عيسى للفتوة سلامة الغلأ لعلاقته بهم ولولا هذا ما خرج من محبسه بعد واقعة الطوبجية ! انظري كيف يتضاءل نفوذ الفتوات في محضرهم ! والجميع واقع في فلك بريطانيا، وها قد أفضى مخاض الحرب الكبرى إلى انتصار لهم جديد.

وبدا أن بهاء الدين هذه المرة قد لزم قناعته هذه لزوماً لا رجعة فيه، فقال كالمتسلط :

- والأسبوع القادم تعقد الخطبة وبعدها بأيام يكون الزفاف المنتظر  موافقاً لرأس السنة !

وهرعت صابرين إلى حجرتها تبكي فأفاضت على وسادتها دمعاً هتوناً، هل حقاً تهاوت جدران بناء الحب الذي شرعت تشيده بالخيال فوق رأسها؟ وخيل لها أن أباها ليس سوى جشعاً نهماً فكأنما اندثرت طباعه المحمودة تحت وطأة موقف أخير، وتراجعت محبتها له تحت كراهة الإرغام والتسلط مثلما ينزوي الغصن في موضع لا شمس فيه، وباتت تحتقر الأبوة ولا تراها إلا مرادفاً للتحكم وخلق التعاسة وانتزاع السرور.. وأما هشام عزمي فقد ظُلم مرتين.. أجل.. ظلمه الخواجة ذو الطباع المتعسفة والصلف الأجوف وجار عليه أبوها وعيسى وفتحي لمسارعتهم جميعاً إلى المصلحة،.. ولا مكان للحب في عصر الحرب، وقصدت إلى مسجد أبي الدرداء الصغير تشكوه حالها، فوقفت إزاء ضريحه تقول :

- ولا أريد ضرراً يلحق بأبي، ولكن أن يعدل عن قراره المجحف بحقي..

وسمعت من يقول على قرب منها :

- لقد أفاق الصحابي أبو الدرداء الأنصاري (صاحب الضريح) من مرقده ليدافع عن الإسكندرية في أثناء الحرب الراهنة فصد صاروخاً ألمانياً كاد يفتك بالمواطنين ووجهه إلى موضع آخر يخلو منهم !

وأجابه ثانٍ :

- إنها (الإسكندرية) محمية - منذ قدم - ببركات الأولياء والصالحين والنذور، وهم وسطاء لنا لدى المولى عز شأنه.

وقال شاب ثالث في هزو واستنكار :

- إنها أسطورة (يريد قصة الصاروخ) متوهمة لا يحتاج العاقل جهداً يذكر لتفنيدها ومحقها..

وقال العجوز للشاب :

- إن الألمان هم صليبو القرن العشرين،.. ألم ترى إلى أصلبتهم المعكوفة؟ ولا تتجرأ على كرامات الصالحين بغير علم.

وأجزلت الدعاء متأثرة بالقصة الأخيرة التي صدقتها - أو قل أرادت لها التصديق - فعبثت الدموع بكحل ناظريها، واستشعرت نفسها خاسرة كأختها هدى في ساحة الحب النقي النبيل، وتشبثت بأسباب غيبية حين عدمت في دنياها الأسباب الواقعية التي تستطيع الانتصار لها مثلما يتشبث الغرقى في بحر لجي بثُمامة ويسترشد بضياء الفنار الواني أو بخيالات الشطآن البعيدة فأمست تتلقى الإشارات بقلب يستقبل الإلهام وروح تنتظر الخلاص، وسألها العجوز (مردد قصة الصاروخ) :

- ولمَ تبكين يا بنيتي؟

ومضى بها حتى صار بناء المسجد - الأخضر والمذهب - بعيداً منهما، فجعلت تقص عليه فصول محنتها كالإناء يفرغ ما فيه، وعلت أصوات كانت تصدر من ورش الحدادة فقال العجوز :

- ولن يضر بحبكما مكروه مثلما لا يضر بالإمام في مستقره ضجيج الحدادة ! والمهم أن تخلصي الدعاء..

- وكيف لا يضر بي؟

وقال لها وهو يشير إلى الضريح مخلصاً في يقينه :

- إن هذا أمر يتدبره الإمام بنفسه !

وأرهقتها الفكر بحثاً فلزمت بيتها ساعات أكبت فيها على الدرس والتحصيل، وانتابتها رغبة في الشراهة عارمة تقترن - عادة - بإحساسها المتنامي بالقلق، وحتى لقد صارت تتشهى مذاق البطاطا الذي طال استنكافها عنه،.. حتى جاء يوم التقت فيه بهشام عزمي لدى الكورنيش فقالت متأثرة - كأنها تبكي - بينما تبدى لها الشاب واجماً :

- أما بلغك الأمر؟

وقال :

- إن أهل كرموز بالمقاهي والحوانيت يتحدثون عن العرس الكبير الذي سوف يقام، وقد جمعوا له أهل الطبول والطرب والمزامير.. إن عيسى وابنه ثرثاران لا يكفان عن اللغو،.. هنا وهناك !

- وما العمل إذن؟

- ألا ترين الهرب حلاً؟

وقالت في عجب مستوحشة ما سمعت :

- هل حقاً تحضني على الهرب؟

- أجل.. ريثما يعدل والدك عن رأيه.

- إن هذا جنون خالص..

- ما أحوج العاقل إلى الجنون !

وصمتا فانتزعت حركة الأمواج اهتمامهما، وكان ثمة هذه الطيور التي تسبح فلما يشتد المد تطير ثم ما تلبث تعاود - حين يأتي الانسحاب -السباحة، وقالت في حياد :

- المهم ألا تفتر همتك في العمل.

- إنها كذلك،.. (ثم وهو يحدق إلى السماء الملأى بالنجوم) بل هي (همته) فوق الثريا والسماك الأعزل ! 

وجلس فوق السور الذي نقشه الرذاذ بأيدي الطبيعة والزمن، ومد لها يداً فأبت أن تشاركه الصعود لتكاثر الهموم عليها، وقال كأنه يرمي بحجر في بركة ساكنة :

- ليس بهاء الدين إلا شيطاناً.

- لا يجب أن تصفه بهذا أبداً.

- وماذا يكون إذن؟ هادم الآمال؟ عدو العواطف؟

- لقد أورثته الحرب خشونة، وأما قلبه ففائض بالحنان.

- وبم عساي أن أنتفع من هذا الذي يسره ويضمره قلبه ولو كان في باطنه ملاكاً بريئاً بجناحين من فضة؟ والمهم ما يظهره ويعقد عليه عزمه.

- .....

وانصرفت عنه بعد عناق أخير، وعادت تودعه بقبلة كالتي شاهدتَها في فيلم وادي النجوم تلقفها الهواء رسولاً، وعادت إلى البيت فسمعت صوت جلبة صادرة عن حجرة فاطمة فانطلقت صوبها مدفوعة برغبة الفضول، كانت المرأة قد بدأت تستعيد قدرتها على المشي وقد تجمهر - لأجل هذا - أهلوها جميعاً، فهذا بهاء الدين حاملاً المبخرة النحاسية، وتلك هدى تمسك بذراعها كأنها سند لها في رحلتها القصيرة إلى المرآة، وأما يوسف فقد جعل يقول :

- وغداً تفوق (فاطمة) عداءي المارثون سرعة..

وقال بهاء الدين وهو يبخر صابرين والأولاد بعد فروغه من أمر زوجه :

- الحسد ! إنه الحسد الذي نزل بها وبنا..

ودلفت صابرين إلى اجتماعهم فجلست تقول في نفسها بينما تلتفت إلى أبيها الذي يبخرها في حركات يده الدائرية - تلتفت إليه في تطلع :

- ولن أهرب أبداً.. 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق