في أيام الآحاد والعطلات تستيقظ هدى مدفوعة برغبة قوية وعزم نشط، لقد أنهكها الدوام بالإبراهيمية طوال أيام متتاليات وإنها لتقصد إلى شارع شريف، هناك ألفيت أعلام الدول ترفرف على كل باب وشرفة وشارع، وأوغلت فيه المسير فوجدت البائع اليوناني مجاوراً لآخر من نابولي، وثالث يبيع الجبن من الدنمارك وأطباقاً من البورسلين، والرابع بلغاري يصنع الزبادي، ثم هذا التركي يبيع السجاد،.. وتوقفت أمام الإيطالي تحاوره وتشتري منه، ووجدت صوتاً ملآن كأنما يصدر عن جسد موفور يقول:
- إلهي.. أنتِ تجيدين الإيطالية حقاً !
والتفتت إلى صاحبه فألفيت فضيلاً (ناظر مدرستها) قبالتها فقالت وهي تغير لغتها إلى العربية تغيراً منسجماً مع لغة جسدها المرحبة :
- آه.. رب صدفة خير من ألف ميعاد.. (ثم وهي تتلقف الخبز الإيطالي من البائع) في الحق فإنني لا أجد هذا سبباً للافتخار فحتى السوقة بالإسكندرية يجيدون شيئاً من الإيطالية ! ولكن أي سبب جاء بك إلى هنا،.. سيادة المدير؟
وأخبرها الرجل بما سمعه عن مقارنة الشارع (شارع شريف) بشارع بوند، وهو أشهر شوارع لندن التجارية، من حيث التشابه بين الاثنين في الطراز المعماري والتصميم الداخلي للحوانيت وأتبع مقالته هذه قائلاً :
- وقد جئت لأرى بنفسي، خصوصاً وأنني تواق إلى السفر إلى لندن مثلما سبق وأفصحت لك سابقاً !
واستفسرت في غير اهتمام جم بالجواب :
- وكيف وجدته (تريد شارع شريف)؟
- إنه أفضل بكثير مما توقعت !
وتمشيا قليلاً في رحاب الناس حتى بلغا رأس الشارع من الناحية الشرقية فشخصا إلى بنايتين ذواتا معمار متميز - إحداهما مكتب الإعلام الإنجليزي - وأشارت هدى إليها تقول :
- يشيع العوام أن لورانس داريل (مؤلف رباعية الإسكندرية) كان - ولعله لا يزال - يرأس مكتب الإعلام، ها هناك !
وجعل الرجل يلوح بكلتا يديه قائلاً :
- هل تخالين أن الرجل يرانا إذا ما بقى على شغل وظيفته؟ إنه لاحتمال واهن.. ولكن أنى لنا أن نعرف؟ (ثم كالذي يستحضر شيئا من ذاكرته..) ثمة أيضاً جرّاح الملك فؤاد "بيوبير"، وكذا "رلو" و"سلفاجو" أكبر تجار القطن عساهم كانوا - جميعاً - يقطنون هنا أو هناك في وقت ما، إنها حواجز المكان والزمان تفصل بين الناس على الدوام ! من أسف أن ثمة أسئلة في عالمنا تترك بلا أجوبة قاطعة عليها،.. ووجوه لا تلتقي أبداً !
وشاع في صوتها حزن حين أومأت برأسها تقول : "أجل !"، ولعل طيف عبد الغني الذي تأخرت عودته طويلاً من أسيوط قد مر في خاطرها - بعد أن أزكت عبارة فضيل في نفسها نيران الذكرى - فأفسد هذا استمتاعها ولو قليلاً بعطلتها في شارع شريف، وسألها فضيل عما هنالك فتولاها الارتباك واستبد بها هاتف الرحيل عنه، وعاد يسألها :
- هل للأمر علاقة بهذا الشاب في أسيوط؟
ولم تجبه الفتاة فعد الرجل صمتها إقراراً بصحة تخمينه، قال :
- آه.. إن أبواب الحياة أكثر تنوعاً وثراءً من أن تُختزل في باب واحد،.. إنها الأصداء المباشرة لما نردده من المعاني، حتى الحب يبدو معنى معلقاً إذا تخلى الإنسان عن مقدمات شعوره التي يحسبها حتمية.
وقالت في غير تنظير :
- إن عبد الغني لا يزال حيث هو بأسيوط ينهي بعض أشغاله المتعلقة بالجريد، ويوفي أعمالاً لأصحابها.
- وصمتت فعلت أصوات لنداءات الباعة ثم قالت وهي تأكل شيئاً من الخبز الإيطالي :
- لعله لا يخفى عليك أن الإنجليز اتخذوا من الإسكندرية في أثناء الحرب الدائرة أكبر القواعد لأسطولهم البحري، ومركزاً للعمليات الحربية في الصحراء الغربية ضد الطليان وقوات المحور، واستخدموا قطاراتها، مثلما صارت طرقها إلى مرسى مطروح والقاهرة من أهم الخطوط الحربية لهم،.. إن ترقبهم يورثهم التحسب تجاه الآتين والذاهبين، ويثقل حركة التنقل !
وأنصت فضيل لحديثها على تأييده المبطّن للإنجليز، وأثنت الفتاة على صورته النحيفة بعض نحافة - قياساً إلى ماضيه - وكانت قد عرضت عليه الخبز الإيطالي فأبى أن يأكله، وقال :
- لقد انخرطت في حمية، وجدت هذا ضرورياً لأجل المستقبل !
ثم قال في مباشرة وهو يأخذ عنها ينصرف :
- وسأكون خياراً متاحاً على الدوام في حال جد جديد !
وافترقا، لم تكن بالفتاة رغبة في ارتياد هاته الشواطئ ذات الأسماء الأوروبية - كدأبها حين تفرغ من التسوق أيام الآحاد - على مثال : كامب شيزار، وسبورتنج وستانلي وغيرها، حتى شاطئ سيدي بشر بأرقامه الثلاثة وجزيرته غدا أبعد من أن تتحمس لزياته بعد أن كدرت الخواطر صفحة عقلها،.. وعادت إلى البيت فدلفت من الباب، وسمعت صوت زغرودة ما أطول رنتها، كانت فاطمة (صاحبة الزغردوة!) تقول لها ممسكة برسالة :
- إنها الرسالة الأخيرة التي سيبعث بها عبد الغني، لأنه، وكما أفصح،.. آت من مهجره أخيراً بعد أن أنهى أشغاله الباقية !
وتلقفتها بقلب مستمسك ببريق الآمال البعيدة فلم تكد تحس بنفسها إلا جالسة على الأريكة الخشبية : "هذه رسالتي أبعث بها إليك، وقد استقليت هذا القطار المتوجه من القاهرة إلى الإسكندرية، بالمحطة التي شيدها الوالي عباس حلمي الأول قبل ما يربو على القرن.. ولا أدري - وقد كثرت الرسائل واختلطت الأحوال - أين أضعها من حيث الترقيم،.. وقد أشقاني الرحيل من أسيوط إلى العاصمة التي اتخذت منها - مضطراً ومجبراً - وسيطاً في أسفاري، ولا قبل لي بوصف هذا العناء الآن من حيث أنه مر وانقضى.. وإنني ألتمس - صادقاً ومخلصاً - من الحياة السلامة ريثما نلتقي بعد زهاء الأعوام الثلاثة التي ذقنا فيها مر الانفصال، وأما طلاب الجريد في أبي تيج فقد وفيت لهم استحقاقاتهم وودعت حرفة جادت لي بخير كثير، ونفذت من جنود يمنعون الدالفين والخارجين من سبيل تقديم الرشوة، ولا يؤلمني الساعة إلا أنني أرحل عن هاتيك الديار الطيبة دون أبي.. وقد بلغتني رسالتك التي تصفين فيها اقتراب عرس أختك صابرين إلى الشاب العامل بالمصبنة فابتهجت ورضيت، وعددت الأمر بشرى سارة في عالمنا الملآن بأسباب القنوط واليأس والافتراق، وأحسب أن عودتي ستسبق - أو لعلها ستزامن - موعده (العرس)، فلا أكون إذا قدر لي حضوره إلا راقصاً ممعناً في شتى أسباب المسرة واللهو بعد طول الكدح ومعاشرة الأحزان.. وقد صحبني في القطار رجل إنجليزي تعرفت منه على وجه آخر لعملة هؤلاء القوم الذين يمسكون بزمام بلادنا، ويقبضون - رغماً عن الملك وحاشيته والمجالس النيابية - على أعنة تسيير مقدراتها،.. كان الرجل المدعو بـ Jacob (يعقوب)، الجالس من أمامي، لطيفاً كيساً، مسيحياً غير متشدد، لا يعيبه إلا غطيطه المتصل في الليالي الطوال والمصاحب لصخب القطار المعروف في حركته الهائلة،.. وأذكر أنني قلت له :
- "معذرة.. ولكني أعجز عن النوم لسبب هذا الذي يصدر عن أنفك!".
واستجاب الرجل لمطلبي في أدب وكياسة، وسألته وقد بدا لي كثير الأسفار :
- "وكم من الساعات نحتاجها كي نصل إلى الإسكندرية من القاهرة؟".
- "إنها ساعات سبعة، إذا لم نتوقف لأيما شاغل، ولتحمد للمهندس الإنجليزي روبرت ستيفنسون صنيعه (أول من وضع حجر للسكة الحديد في مصر) فلولاه لاستغرقت مدة السفر أضعافاً ستة لما هي عليه الآن!".
- "أعذرني.. من العسير أن أحمد لإنجليزي صنيعه !".
- "آه.. لا تضع الجميع في سلة واحدة، ولا يجرمنك الشنآن ألا تعدل !".
وبدا لي الرجل ملماً بأحوال جمة، لقد روى لي - وهو الحامل في حقيبته لعدد من الكتب - فصولاً مجيدة لشعب الإسكندرية، وأعرف أنكِ كنت لتطربين إذا سمعت شهادة كتلك من الرجل الأجنبي الذي عد الاحتلال والغزو مرحلة في التاريخ الإنساني عابرة، منسوبة لدى الوعي المكتمل إلى الهمجية والغريزة البدائية، قال مما قال :
- "وقد تفانى شعبكم (يريد أهل الإسكندرية) في الدفاع عن المدينة حين دخلها الأسطول البريطاني، رغم أن الحرب كانت حرب مدافع وحصون وصياصٍ وبوارج، فكان الرجال والنساء تحت مطر القنابل ونيران المدافع ينقلون الذخائر إلى الطوبجية في الحصون ويتغنون بلعن الأميرال سيمور ومن أرسله ! إن الإسكندرية كانت ماتزال جميلة حتى وهي تحترق!".
لقد حدثني أيضاً وهو يشخص إليَّ في جدية بعينيه الزرقاوين بعيد أن خلع قبعته قائلاً :
- "من أسف أن يكون القطر المصري ذو التاريخ الضارب جذوره، في واقعه المعاصر، على هامش الحضارة الحديثة.".
وحمدت له إنصافه في سرد الوقائع - وهو الرجل الإنجليزي - فذكر لي شيئاً عن حقيقة أن العدالة معصوبة العينين،.. لقد قص عليَّ بعدئذٍ فصولاً من تطور الحضارة الغربية في عصر نهضتها من القرن الرابع عشر إلى السابع عشر الميلادي، وقد أرتأيت - ولعلي كنت متأثراً بطباع الرجل الكريمة - واجبنا أن ننهل من هاتيك العلوم بدلاً من النظر إلى المنجزات الأوروبية في غبطة وحسد، وأن نفرق بين رغبتنا عن الاحتلال ورغبتنا في التحضر، ولاحظ يعقوب حزني الذي اقترن بأوقات صمتي الطويلة فسألني ملحاً عن مبعثه :
- "إنه أبي وقد وافته المنية بسبب الملاريا.. جاءته العدوى عن طريق الباعوض، ومعظم النار من مستصغر الشرر !".
-"إني آسف جداً..".
-"كان حاملي جثمانه في أبي تيج يقولون بأنه أخف من غيره!".
-"لا جرم أنه كان رجلاً صالحاً، وليباركه الرب في ملكوته وفي الأمجاد السماوية !".
إنها فصول الماضي البعيد سمعتها من الرجل الغريب، ولاتزال تفرض نفسها على حاضر ننشد له التحسن، وأما عودتي إليكم فرهن حركة التنقل، ومن قبل هذا، رهن لمشيئة الأقدار !".
وانتظرت هدى طوال اليوم عودته فباتت تخال كل حركة يداً تطرق، وتحسب كل همس نذيراً يؤشر، وتتخايل لها كل غمغمة صوتاً يعبر، وأظلم الليل والحال على ما هو عليه فاجتاحتها عاصفة المظان،.. وكانت فاطمة تقول لها :
- إن الغائب حجته معه !
وجعلت صابرين - التي كانت تتجهز لعرسها واضعة آخر اللمسات - تطيب خاطرها بقولها :
- لعله يأتي غداً، فيغدو عرسنا عرسين !
وكان بين الأختين أشواط في مضمار العواطف واستقرارها، الأمر الذي بعث الإشفاق في نفس بهاء الدين كي يقول ليوسف :
- وسوف يكون من واجبك أن تصل بعبد الغني غداً، من محطة مصر إلى موقع العرس !
وكان يوسف يجيب أباه في شغب :
- آه.. ولكني أود رؤية العروس، وحمل الشموع ! ثم أنى لي أن أعرف موعد مجيئه على الدقة؟
وضجت في الحجرة ضجة سارة امتزجت فيه الأصوات المستبشرة، حتى برز صوت هدى تقول لأختها صابرين كنغم نشاز في لحن من مقام العجم أو كخروج عازف عن نوتته في سيمفونية سعيدة :
- لماذا لا يعود يظهر النيجرو مجدداً كي يفسد عرس الغد كما أفسد عرس الأمس؟
واضطربت صابرين لقول أختها فكأنما انتقلت بها العبارة إلى نطاق تثور فيه الهواجس وترتع المظان، فتدخلت الأم تقول لصاحبة السؤال :
- يبدو أن قلقك على عبد الغني يورثك سوء الظن تجاه كل شيء،.. من الأحرى أن تنامي !
وقال بهاء الدين :
- وسوف يؤمن عرس الغد زكي طبيلي نفسه،.. سيكون العرس مقبرة للفتوات إذا تجرأ منهم واحد على افتعال شغب !
وأسلمها (هدى) القلق للنعاس فغابت في متاهات الرؤى والأحلام، كانت ترى في مناماتها صوراً لقطار يحترق وينقلب، يعلو دخانه حتى ليبلغ أجواز الفضاء، وتنفصل قاطرته عن عرباته في مشهد أقرب إلى السريالية (فوق الطبيعية)، بينما يلوح فضيل نحيلاً بعد حميته، معتمراً طربوشاً، وقابضاً على عصا المدير، فيقول :
- وسأكون خياراً متاحاً على الدوام !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
في قلب المدينة وقف يوسف ينتظر مجيء عبد الغني وقد تمددت من حوله ظلال المساء، إنها محطة مصر حيث تضم محطة القطارات الرئيسة بالإسكندرية، وأخذ الفتى في يأس ينظر إلى عقرب الساعة الكبير فانتابه الشرود، واستعاد اتصاله إلى واقعه حين سمع صفير القطار القادم فظنه كغيره من قطارات كانت قد خيبت ظنه في قدوم الغائب،.. على أن سروره كان عظيماً حين لاح عبد الغني في صورته المنهكة، وهرع إليه فقال بعد أن تعانقا بينما كان يشب على قدميه ليبلغ مستوى عبد الغني:
- الساعة يقام زفاف أختي صابرين إلى هشام عزمي الذي حرص أبي على أن يكون موقعه في مقهى الفنانين، سيكون من الرائع أن نسرع الخطى كي نحضره، ولقد جعلني أبي رسولك إلى هناك ! ستكون مفاجأة الحفل،.. هلم !
وغالب الشاب العائد وعثاء السفر فتبع يوسف الذي كان يهرول تارة، ويعدو تارة - تبعه على مهل، وإن كانت لهفته إلى رؤية هدى تعينه فتنسيه شيئاً من حاجته الملحة إلى الراحة،.. وبلغا حي كرموز الذي لم يكن ببعيد من موقعهما مترجلين، كان جمهور الحفل غفيراً فوقف الشابان على مبعدة من المنصة الخشبية التي شهدت عناق بهاء الدين بهشام عزمي وقد كان بينما هذا الود المفقود، وقال له بهاء الدين :
- حباً أيها الشاب ! ولننسِ الماضي ضاربين عن الأحقاد والضغائن صفحاً !
وأمسك هشام عزمي يد بهاء الدين بكلتا يديه آية على الموافقة والتحية،.. وكانت صابرين تخشى أن تتكرر مآساة عرسها السابق فيتناولها رعاع الحي الشعبي بألسنة حداد، قائلين في سفاهة وتندر :
- وكم من قتيل يستوجب أن يقع كي تدخل الفتاة عش الزوجية؟!
تلك كانت الطامة الكبرى التي لم تزايل وعيها رغم نشوة الحدث،.. والتقت عينا عبد الغني بعيني هدى فاشتعلت عاطفة قوية كادت - لولا الزحام الذي حال بين الاثنين - أن تستحيل لقاءً مرتقباً، وحاول الشاب العائد أن يزيح حواجز بشرية عن سبيله إليها على حين كانت الفتاة تفعل الأمر عينه، وكاد أن يقع اللقاء لولا أن إطلاقاً مباغتاً للرصاص تفرق لأجله الناس تفرق المأخوذين، وحملت الحناجر المذعورة اسم الفتوة النيجرو آية على الفزع، وحلت في الأرجاء فوضى شاملة حفلت بها جدران مقهى الفنانين واهتزت لها تهاويل جدرانه ذات الحجر الصلد، وكان بهاء الدين يصرخ فيه :
- سل حاجتك نقضيها لك،.. ولا تفسد عرساً جديداً بيديك الآثمتين !
وكان النيجرو يجيبه :
- إن حاجتي معروفة لديك،.. وإذا لم تكن صابرين لي فلن يهنأ بها غيري!
وتقدم زكي طبيلي - ومعه نفر من رجال الأمن - الذي كان يعد العرس مصيدة لخصمه، ووقع بينه وبين الفتوة لقاء فهوى النيجرو من فوق الحصان الضخم على حين فقد زكي طبيلي طبنجته، واشتبكا بالأيدي اشتباكاً طويلاً، ظفر فيه الفتوة بالغلبة وكاد يجهز على زكي طبيلي بضربة بونيته الحديدية لولا أن يداً لاحت من وسط الفوضى فأمسكت يده إمساكاً، إنها يد عبد الغني وكان على إنهاكه من أسفاره شاباً فتياً ذا بأس،.. وسرعان ما أبعد بساعديه الفتوة من اقتراف جريمته، يثب الشاب فوق طاولات الخيزران والأبنوس ويرتكز إلى عَمُود كأنه في ريف أبي تيج يتسلق النخلة الباسقة، ويتقهقر النيجرو مثلما ينسحب وجه الفجر ويظهر خيط النهار، وما لبث أن يقبض عليه رجال الأمن فيودعوه - بعد أن يوثقوا يديه - وصحبه عربة البوليس، وحملق الفتوة في زرد القيود إلى صابرين فكان وجهه الأكثر صرامة عاجزاً عن أن يستمر في شخوصه إليها إلا ثوانِ قبل أن يرتد طرفه مجللاً،.. أهو الخجل؟ أم الأسى؟.. وما أن انقضى الأمر وعاد إلى العرس النظام، صعد بهاء الدين فوق المنصة فقال متحدياً :
- وهذه الكرة فلسوف يتواصل العرس وفقراته !
وعد الجمهور مقولة الأب إشارة لاستئناف مظاهر الابتهاج والمسرة، ودقت الطبول على إيقاع الزفة من وزن 4/4 وعلت المزامير،.. واقتربت هدى من عبد الغني فقالت :
- لقد أنقذت الحفل برجوعك،.. هكذا شاءت العناية !
وقال عبد الغني وقد راعه ما رأى :
- ألا كم أتمنى لو نتعانق لولا ما ينتابني من روع وفزع ! هاك هذه..(قالها وهو يخرج شيئاً من حقيبته!)
وكان جريداً قد نحته وشكله على صورة اسمها (هدى) فسُرت به الفتاة كل سرور، وعدته عزاءً لها في ليلة انتقلت فيها أختها الصغرى إلى مرتبة الزوجة قبلها،.. وتألقت النفوس ببهجة استئناف العرس فنسى الحضور ما كان، وعانق الواقع أحلاماً وآمالاً.. وأشار بهاء الدين إلى يوسف أن أصعد المنصة، وقال في لهجة يتنازعها الفضول والأمر :
- أرني ماذا تفعل؟!
- حقاً؟ ألا تنكر عليَّ عملي كمنولوجست؟
ولبى الفتى مطلبه على خشية ووجل، قال :
- وقد تسببت البراغيث الموجودة على ظهر السفن الشراعية العائدة من موانئ آسيا في نقل الطاعون، وأما البعوض فينقل الملاريا،.. ولا يجب أن يُعطى للنمل فرصته !
وكانت ليلة رقص وطرب حواها الحي الشعبي الأقدم بالمدينة، وأصلها حيث كانت قرية « راكوتيس » العريقة،.. وحضره المصريون فنفر من اليونانيين فالإيطاليين فالإنجليز فالفرنسيين،.. وفي فجر يوم موعود سرت الشائعات بهرب الفتوة النيجرو من عربة الترحيلات ثم اختفائه، هكذا - فيما يظهر - يلوح الزبد فوق برك الماء كما تبرز المشكلات على صفحات الحياة المستقرة، ومنذاك بات بهاء الدين دائم الحضور لأمسيات مقهى الفنانين كي يرى ابنه يؤدي عرضه وسط التصفيقات التي كانت تهون عليه فكرة عمل نجله كمونولجست، وبرزت دواعي الخلاف مجدداً حين قال الأب ليوسف :
- كان عرضاً باهراً.. (ثم وهو يشير إلى يديه) وحتى لقد احمرت يداي من التصفيق،.. بيد أنني لم أستسغ هذا الجزء الذي يظهر فيه معك الضابط الإنجليزي !
وقال يوسف :
- إن الضباط الإنجليز يسيّرون كل شيء هنا،.. ولا طاقة لي بإلغاء هذا الجزء !
وقال الأب :
- سيكون خيراً لو امتنعت عن أداء العرض برمته !
وقال يوسف في شيء من الغضب :
- ألم تدبج الخطب والإلقاءات في صالة البيت إطراءً عليهم (الإنجليز)؟
- إن هذه نقرة وهذه نقرة !
- ما أعوج منطقاً تصدر عنه !
وعلى ما تقدم،.. مكث يوسف يختلس الفرص التي يقصد فيها إلى مقهى الفنانين دون علم أبيه بهاء الدين، وكان جمهور المقهى حاوياً على المصريين كأكثرية طبيعية، ثم تأتي أقلية الجاليات من اليونانيين والإيطاليين والإنجليز والفرنسيين والنمساويين، على الترتيب،.. وكانت أسباب من الحزن والتسليم جعلته يؤدي العرض فارغ الروح،.. وجال ناظريه في مشهد الحضور بدافع هذا الخواء الذي نزل ببواطنه كالذي يبحث عن جديد، وأبصر ساعتئذٍ فتاة استوقفت نظراته العابرة ففطن إلى أن لها ملامحاً روسية، غريبة بعض غرابة عن أشكال نساء الجاليات المعروفة - أبصرها في موقعها بالصفوف الأولى على ميمنة منه فعدها منافسة لعفاف من جهة الجمال،.. بل لعل هذا الحسن الأوروبي قد فاق في ناظريه بهاءً فروعونياً استعصى عليه نواله، وساءل نفسه : ألم تنجب عفاف وتتزوج بتشارلي مستهينة بعواطفه كل استهانة؟ وقد وهب لحبها خيالاً خصباً فلم يظفر من تطلعه إليه إلا الندم،.. وقال الشاب وهو يشير إليها (الفتاة الروسية) وكان بارعاً في اختلاق أسباب التعارف :
- هناك من يزعمون أنهم رأوا شبح فيكتور إيمانويل الثالث، آخر ملوك مملكة إيطاليا، في فيلا أمبرون بمحرم بك، لقد رأوا شاربه، وميزوه به، ليس فيكتور هو الأوروبي المهم الوحيد في مدينتنا،.. من الجيد إذاً أن نسمع لتجارب الأوروبيين في الإسكندرية !
وصعدت الفتاة الأوروبية التي كانت تنطق بعربية متلعثمة إلى مستوى يوسف فوق المنصة فقالت هيابة :
- إني فتاة روسية يهودية واسمي "ناتالي"، وفدت أسرتي بعد الحرب العالمية الأولى إلى هنا مع عشرة آلالاف آخرين من المهاجرين !
وقال يوسف متظاهراً بالتأثر :
- آه.. كم من مآسٍ صعبة تختبئ وراء الملامح البريئة ! (ثم وهو يلتفت إليها..) وما عملك بالإسكندرية؟
وقالت :
- كنت ولا أزال أخطط لإصدار جريدة جريدة اسمها الليبرتيه la liberté..
وسألها عن توجهات الصحيفة المتوقعة فأجابته :
- ستدافع عن سعد باشا، والوفد، وسنبشر بالحركة الشيوعية ! وشعارنا حماية المصالح المصرية..
"organe de défense des intérêts de l'Egypte"
وصفق جمهور المقهى حين سماعه لسعد باشا والوفد، وإن ضرب على الأفهام حجاب غليظ حين برز مفهوم الحركة الشيوعية، وقال يوسف :
- وهل تهتمين بهذه الموضوعات حقاً؟ تبدين فتاة بريئة حتى ليخيل إليَّ أن لا انحياز لك..
وقالت :
- أحياناً تفرض عليك المحنة الانحياز إلى طرف دون غيره ! إنه تهديد البقاء يصيرك ماضياً في هذا السبيل أو ذاك.
وقال يوسف وقد لاحظ أن مسير ليلته - التي يستوجب أن تكون ضاحكة حتماً - قد انحرف إلى شيء من السوداوية فتدخل كالقبطان يعدل دفة السفينة :
- بربك.. أي محنة ليهودية في مدينة جميلة تستقبل كل المشارب بوجه بسام؟ إني أسأل الحضور : ما انطباعكم عن التجار اليهود ؟!
وأجاب الجمهور صوتاً واحداً :
- آية على الدقة، كالساعة السويسرية !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق