استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/08/24

هواجس في ظل الحرب

  الفصل الأول : هواجس في ظل الحرب 


الأول من نوفمبر 1942م..

انكسفت شمس الخريف فوق أفق مدينة الإسكندرية، تراجعت حيوية النهار وغلب على معالم الأشياء ظلمة شاملة تنذر بالسلام ولا تخلو من اليأس، وكان حي كرموز - القابع في قلب المدينة - قد شمله شيء من هذا، فأمست حوانيت الأقمشة والأخشاب والألبان فيه موصدة الأبواب كأنما هي - في سلبيتها - تتوخى السلامة، على حين نشط الفتوات في أزقة الحي العتيق وحاراته، وراحت تبدأ في الحانات كمقهي الفنانين حياة الليل الصاخبة العارمة،.. وفي قرب من مخازن الأخشاب كان السيد بهاء الدين قد جعل في بيته يرهف السمع لأنباء تقدم الجيش الألماني نحو العالمين، إنه الراديو وسيلته الجديدة في التعرف على ما يدور خارج عالمه من شؤون تتصل إلى صراعات العمالقة وحقائق نتائج تفرضها المقادير على بلده المحتلة،.. اجتمع رب الأسرة مع أبنائه الثلاثة وزوجه فجلسوا جميعاً له وكانوا من الأنباء في إصغاء، وكان الاجتماع حدثاً غير مألوف في حياة الأسرة التي يتفرق أفرادها - كل إلى مشربه - أكثر النهار والليل، فلما فرغوا قال الأب لابنه يوسف :

- إن هتلر ومعه النازيون بأصلبتهم المعكوفة وعقيدتهم الكاسحة إن تم لهم ما أرادوا فلن يوقروا إنجليزياً واحداً !

وسارع يوسف إلى جواب أبيه، قائلاً كمن يصل ما قد ابتدأ :

- ولا مصرياً ! (ثم في تأمل..) أترانا من الجنس الآري الذي يضعه هتلر فوق البقية من البشر؟ إننا - في الحق - دون الإنجليز مثابة في نظره، فلعل شأننا كالغجر أو أقل.

وبادر بهاء الدين إلى القول كالصائح لاكتوائه من نار :

- وليكن في الشيطان عينه خلاصنا من الإنجليز،.. وليقضِ الله بعدئذٍ أمراً كان مفعولاً ! أما رأيت إلى هذا العسف والجور الذي نلقاه - نحن التجار - على يد شرطتهم !

وقال الابن في ثبوت :

- ولا يستقيم أن نكون كمن يستجير بالنار من الرمضاء، (ثم مخرجاً كتاباً من القطع الصغير من مكتبة البيت..) إنه العقاد يشاركني فيهم (النازيين) الرأي عينه !

أمسك بهاء الدين بالكتاب ذي العنوان : هتلر في الميزان كالذي تكاثر عليه خصومه، وقال وهو يفر صفحاته في غير عناية :

- وظني أن العقاد لم يعمل بتجارة الأخشاب ولم يجرب الحبس في سجون الإنجليز مثلي ! (ثم كالحائر..) وأين هو الساعة؟ ألم يفر إلى السودان هرباً؟

وقال الابن في شيء من قناعة :

- حسبه أنه انحاز إلى الإنسانية، والجسارة ليست أن يقف المرء في وجه المدافع متوهماً النجاة !

أعاد الأب لابنه كتابه فجعل الأخير يقرأ لأختيه صابرين وهدى طرفاً منه:

-"وهو لا يؤمن بالسلاح (هتلر) وحده ليقضي به في خصومته مع بولونيا وإنجلترا وفرنسا وبلجيكا وغيرها وغيرها، ثم يكفر به ويلقيه جانباً ويعترف بالحقوق والحرمات. كلا! بل هو يعتمد عليه اليوم مرة ويعتمد عليه غداً عشر مرات؛ لأنه إذا بلغ ما أراد زاد اعتماده عليه، وأصبح أقدر على استخدامه مما هو الآن. فهو قد عمل للحرب فجمع لها عدتها.. وغيرُه لم يعملوا للحرب فلم يجمعوا لها مثل تلك العدة.".

وكان يوسف يستحب أن يظهر أمام أختيه في مظهر العارف، فيتلو عليهما مزهواً أنباء حرب لم تزل تدور رحاها، ويفتح أمامهما ما قد أوصد منها من المغاليق، واختتم قوله كمن يهتف في ميدان سياسة  :

- إن العقاد يحثنا على الانحياز إلى الحلفاء دون المحور، فأولئك أهل الحرية والسلام.

عمت الحماسة أطرافب الصالة - حيث اجتماع الثلاثة - وجاءت الأم فاطمة إلى مشهدهم فقالت كالتي تعاتب زوجها :

- إن الحق في صف يوسف، (ثم كالتي تستجيب لخاطر طريف..) وحسب هتلر شنبه المضحك وغمغمته الخطابية دليلاً على فساد مذهبه! (واستقرت ابتسامتها في جدية تقول) إنه يزعم أنه يبنى نظاماً منيع الجانب يستمر لألف عام ومن أسف أن الواقع لا يزال يصادق زعمه.

 وتدخل يوسف مستقبحاً ما بدا له من انهزامية قائلاً في تبصرة :

- ما من نظام هو يعتمد معسكرات الإبادة وحمامات الغاز ويستمر ألف عام، ومن المعروف أن النظرية السياسية كلما ادعت لنفسها صلاحية التطبيق الشمولي، كانت أقل إنصافاً للأفراد..

وروى بهاء الدين لأبنائه طرفاً عن أحوال يوم  قبض عليه الإنجليز فيه، إنها الأقصوصة التي يستسيغ أن يكررها على أسماعهم كثيراً كأنما بات الرجل يخفف من وقعها في نفسه من سبيل الإفصاح عنها لذويه، وإنه مناقشهم مناقشة النظير لا مناقشة الكبير، قال مما قال :

- إنه الفتوة إسماعيل الجعب السبب فيما وقع لي،.. كان يسرق الإنجليز في النهار ويفتح مخازنهم وشونهم فيستولي عليها لصالح الفقراء، أو يبيعها لنا نحن التجار، وكنت من سلوكه هذا في جهل فلما تناهى إلى علم الإنجليز ما وقع ساقوني إلى غياهب محابسهم عاماً كاملاً بعد أن أوعزوا للضباط المصريين بأن يقبضوا عليَّ !

ساد الوجوم على الوجوه على حين جعلت صابرين تتساءل في شغف :

- وما عسى أبو الأحمد (التسمية السكندرية للفتوة ويريد بها إسماعيل الجعب) أن يبدو؟ أعني فلتصف لنا معالم مظهره..

وسر بهاء الدين لسؤال ابنته فقد عنى (السؤال) أن القصة التي يعرف الرجل عن نفسه إمعانه في تكرارها لم تستهلك كل تفاصيلها الممكنة، وأبدت هدى شغفاً مماثلاً فقالت تصادق على قول أختها :

- أجل، إن شأنه في وعينا شأن الغول والعنقاء والخل الوفي، نسمع عنه ولا نراه!

وقال الأب كالذي يستعيد شيئاً من خزانة ذكرياته :

- أبصرته مكتنز الوجه، شكس الخلق، ذا بسطة في الجسم، قوي التكوين على بدانته الظاهرة، ذا شارب كث عريض ! (ثم في استغراق) لم يكن وحده في ديدنه المعروف هذا، فقد صاحبه الفتوة سلامة الغلأ في سرقة الإنجليز وفي توزيع السرقات على فقراء حيّنا قبل أن تثور بين الاثنين دواعي الاقتتال !

وقالت الأم فاطمة في خوف ملتاع وهي تصب الشاي فتضع للأبناء ملعقتين من السكر في أكواب ثلاث كالمتنهدة، وقد كان السكر والشاي يصرفان لها في شكل حصص نظراً لظروف الحرب :

- فليجنبكم المولى جميعاً شر الفتوات والإنجليز وكل مكروه من المكاره في الرائحة والغادية !

وتساءلت صابرين في فضول جديد كأنما بات حديث الفتوات يستأثر بفكرها المنكفئ على التعليم والدراسة :

- وأنى للفتوّين إذا جمع بينهما الغرض النبيل أن تتفرق بيهما السبل على هذا النحو المفجع؟

وقال يوسف في استنكار وعجب :

- وهل باتت السرقة غرضاً نبيلاً؟

وقال الأب حاسماً الجدل بينما يتأهب لشرب شايه الممتاز بانعدام السكر :

- إن الإنجليز قوم احتلوا بلادنا عنوة طوال عقود جمة، وليس لمن احتل أرضاً ليست له أن ينتظر من أهلها مراعاة لحق من الحقوق، وعليه يغدو سارقهم بطلاً، ويستحيل مقاومهم شهماً، (ثم وهو يرشف من الشاي رشفة) أعني أنه يحق أن تنقلب الأعراف في وجه من استهتر بها.

وقال يوسف في عناد :

- ليس الفتوات إلا حفنة من الصعاليك الذين اشتد عودهم في بلادنا، فليس بينهم معنى للمروءة ولا الشهامة، تماماً مثلما لقبهم نابليون يوماً : الحشاشون البطالون !

وقال بهاء الدين :

- إن لهم وقفات في وجه الاحتلال ونصرة الضعيف تُذكر لهم ! وأما صاحبك نابليون فشر من يُستشهد به في نقاش !

وقالت فاطمة تحاول أن تخفف من اشتعال النقاش بين الأب وابنه، محدثة يوسف :

- دع حديث الكبار لأهله وانشغل بما أنت أولى بالانشغال به !

وقال يوسف ضحوكاً :

- آه.. وماذا يعني هذا؟ هل أتخذه للزينة؟ (يشير بإصبعه إلى شاربه النابت!) وقد يصح أن أحف هذه وتلك (يشير إلى طرفي شاربه)  فأصير أكثر شيء شبهاً بالديكتاتور الألماني !

وجعل يوسف مدفوعاً برغبة في كسر الجمود الذي فرضه الظرف السياسي المتأزم - جعل يقلد هتلر في لكنته وفي انفعاله فساد في بهو المنزل سرور أشبه بالتسرية الخفيفة، إنه يغمغم ويثور ثم يطرق بيده على الطاولة في عنف ثم ما يلبث أن يعود إلى شيء من نفسه كيما يرقب أثر هذا الذي أحدثه بتصرفه، وأغربت الأختان صابرين وهدى في ضحك موصول كأنما استخفهما الطرب استجابة لهذا الحادث الطريف على حين ارتسم على وجه الوالدين ابتسام إعجاب يغالب شعوراً بالاستنكار فيغلبه، كان هذا قبل أن تنطلق صفارة الإنذار منذرة بوقوع غاراة جوية فينقلب الحال السعيد على عقبيه وتتفرق الأسرة أشتاتاً،.. وشرعت الأم سباقة إلى الحركة في إطفاء الأنوار فساد الوجوم في حضرة المساء، وقصدت بعد أن اطمأنت إلى استتاب العتمة في أرجاء البيت إلى حجرة بهاء الدين حيث تنام فألفتها مضاءة الأنوار حتى انقبضت لما وجدت كل انقباض، كان زوجها ممسكاً بالمصحف يتلو آيات من سورة ياسين، وقالت كالتي تؤنبه :

- بحق السماء والأرض،.. فلتطفئ الأنوار !

وقال وقد شغلته المرأة عن التمتمة :

- إن الله خير حافظ، (ثم وهو يضع الشريط في قلب المصحف إيذاناً بإغلاقه..) وقد تسألينني : وماذا عن الأسباب؟ ألا يستقيم أن نأخذ بها ولو من أجل الأبناء لا لأجل أنفسنا؟ وأقول : إعلان التعتيم العام، طلاء نوافذ البيوت وفوانيس السيارات باللون الأزرق، وسماء المدينة تجوبها أضواء الدفاع الجوي طولاً وعرضاً، وحتى العربات المدرعة أشبه بوابور الزلط تثير في الآفاق الدخان الكثيف، ثم البالونات كأنها المناطيد التي شدت إلى الأرض في كل مكان بالأحبال الغلاظ كيما تمنع طائرات العدو من طيرانه المنخفض، وأخيراً أكياس الرمل أمام مداخل بيتنا والبيوت الأخرى،.. آه،.. اسمعيني يا فاطمة،.. إني سئمت سيرة الحرب، مثلما إني عظيم الإيمان بالأجل، وقد يتفق أن يجد العدو بين كل ما تقدم المنفذ يتسلل منه فيلقي على رؤوسنا قنابله، وقد لا يستقيم،.. ولكن لا ينبغي أن يورثنا الخوف الفزع !

ترك بهاء الدين التلاوة فظل المصحف فوق حامل من خشب الورد، معشق بالصدف، وتحركت فاطمة بضع خطوات كأنما تنوء بثقل ما معتبرة بحديثه حتى اطفأت الأنوار، وألقت على أضواء الدفاع الجوي التي شرعت تروع وتغدو في شغب نظرة أخيرة ثم استسلمت لإغراء النوم بعد إذ تدثرت بغطاء من مخمل.

 

 

 اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

**

وفي الصبيحة انتشرت الأنباء في كوم الشقافة واللبان وغيط العنب وجبل نعسة - عن صائد الطائرات الذي يرابض في عمود السواري فيستهدف طائرات الإنجليز بمدفع له، فقال قائل منهم :

- لقد أسقط صائد الطائرات ليلة الأمس طائرة الإنجليز في وقت الغارة الليلة ! لعمري ! إنه بارع براعة مُعجبة، ولو أننا كنا جميعاً من طينته لاسْتَظْهَرَنا في مَعْرَكة الاستقلال.

ويجيب ثانٍ :

- إنه - تعالى - يسلط الألمان على الإنجليز كيما نخرج منها نحن المؤمنون! وأما صائد الطائرات فيصح عليه قوله عز وجل : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى !

وقال ثالثهم :

- ليس صائد الطائرات إلا أسطورة اختلقها أهل الإسكندرية كيما يقنعوا أنفسهم أن لهم دوراً في حرب العمالقة !

وقال رابعهم :

- ومهما يكن من حقيقة وجوده،.. إنها محض أيام وينكشف ستره أمام جواسيس الإنجليز، إنه كالفتوات الشجعان شهامة ونبلاً.

وعاد الأول يقول :

- بل فوق الفتوات نزاهة وتجرداً، إذ هو لا يقصد الرياسة ولا يتشاجر في سبيلها ولا ينتظر الجزاء !

وبين القيل والقال جعلت صابرين تذرع سبيلها الصباحي إلى كلية الآداب، ولم تعرِ الفتاة المشغولة بالتحصيل الدارسي بالاً لما يلقى على أسماعها من تكهنات بعيدة من اهتمامها كأنها رجم بالغيب، بل لعلها ما انشغلت يوماً بالسياسة إلا حين وقفتها لتستمع إلى أخيها يوسف - كليّلة الأمس - يقص عليها من أنباء الحرب ما يمتزج فيه الواقع بالخيال وما تتجاور فيه الحقائق بالأمنيات في نظام شيق عجيب، لقد واصلت مدفوعة بمدد من النشاط النهاري الذي تتألق فيه الطبيعة والكائنات وتبزغ فيه شمس أواخر الخريف ميالة إلى طرد البرودة والصقيع ونشر الدفء، وقصدت الفتاة إلى العطار حيث دكان السيد عيسى وابنه فتحي، فاستقبلها نجله يقول :

- ها قد أشرقت الدنيا بمجيء شمس الشموس !

ولم تبدِ الفتاة استجابة لقوله في كثير أو قليل، بل لعلها كتمت امتعاضاً تجلى أثره على وجهها الممتقع، وقالت كالمحايدة :

- الأعشاب : حب الرشاد والحلبة وزهرة العطاس، (ثم كالتي تتذكر شيئاً..) وعشبة السنفيتون، لأجل عظام أمي فاطمة التي تؤرقها،.. ولولا هذا ما جئت !

ولم تمضِ إلا هنيهة - حاول فتحي جاهداً إطالتها بمشيته المتلكئة - حتى جاء الشاب بمطلبها يقول :

- إنهم يتحدثون آناء الليل وأطراف النهار عن بطولة صائد الطائرات المجهول،.. وماذا عن صائد القلوب؟

وتأففت صابرين فمضت تضرب أخماساً لأسداس، وقالت وهي تلتفت إليه التفاتة أخيرة :

- وسوف أترفع عن أن أخوض فيما فيه إساءة إليك رحمة بأبيك الطيب (عيسى) !

 وتجلت أمامها الصبيحة منزوعة من النور والدفء، ولعلها تساءلت عن موعد المحاضرة الذي تأخرت عنه، وتدانت إلى وجهتها بقلب واجف متردد، إنها تسمع خطاها في السبيل الشاغر من أناسه وحوانيته فتزداد وجلاً وارتياباً، وبغتة لاح لص فاختطف من الفتاة المنشغلة وجدانياً بمضايقات العطار - اختطف حقيبتها وانطلق عادياً، هو ما توقعه قلبها إذن،.. وهرعت الفتاة وراءه تصرخ حيناً وتبكي حيناً، وتجمع الناس فاشتركوا في إبداء الرغبة في الإيقاع به، إنها جلبة عظيمة أحدثها اجتماعهم حتى صارت العيون من اللص في شُغل، وفر الأخير في خفة شيطانية حتى عدم الناس من سبيل إليه.. كان هذا قبل أن يلوح الفتوة النيجرو أبو أحمد ومعه الحقيبة، لاح فوق حصانه المخيف المعروف بـ"الضخم" وسط الترقب الذي أحال الهرج إلى صمت، وانقسم هذا الحشد إلى شطرين توزعا بسبب حركة الفتوة، وترجل الرجل ذو الخمسين عاماً عن حصانه الصافن في رشاقة مُعجبة لم تنم عما قد بلغه من العمر، وتدانى إلى صابرين في مشهد الصباح العامر بالناس ،.. إنها أولى المرات التي تبصر فيها الفتاة فتوة من الفتوات بهذا القرب، وبدت لها أوصاف أبيها أكثر شيء شبهاً بالحقيقة التي أمامها، غير أنها تهيبت لمقدم الرجل الذي يخشاه الناس تهيباً ألجم لسانها عن كل حديث، وتوافد الخلائق من كل حدب إلى موقع الحادث ومنهم فتحي بن عيسى، وقال الفتوة معيداً إليها الحقيبة المسروقة بعد أن مضى متفرساً ملامح الحضور حتى اهتدى إليها بعد أن دلته عليها أوصاف الواصفين :

- إليك ما قد أخذ منك..

وهلل الحضور للفتوة الذي أعاد الحق وبسط العدالة تهليلاً فيه انصياع ونشوة، بينما جعل الرجل يعود ممتطياً حصانه إلى حركة غاب فيها عن أبصار رجال الأمن، أولئك الذين ينتظرون فرصة الإيقاع به وبغيره في نقطة شرطة الطوبجية ونحوها،.. وحمدت الفتاة الصدف ومضت تشق سبيلها بين الناس حتى تفرقوا عنها، وعادت بعد قضاء يومها إلى البيت فاستقبلها أبوها بهاء الدين يقول :

- حمداً لله الذي جاء إليك بالنجدة كأنها الرسول السماوي !

وقالت وهي تخلع حذائها لدى عتبة الباب :

- وكيف عرفت؟

وأجاب الأب :

- الناس في حينا يتحدثون عن مآثر للفتوة المخيف (النيجرو أبي أحمد) يتعرضون فيها لسيرتك !

وتساءلت :

- الناس؟ أم عساه أن يكون فتحي بن عيسى من نقل إليك الخبر بعد يأسه من استمالتي إليه؟!

وصمت بهاء الدين فأيقنت الفتاة صدق حدسها، وقالت في لكنة غضب:

- ولن أتزوج بابن العطار مادمت على شيء من العقل!

وتساءل بهاء الدين :

- وماذا يعيبه؟ أم عساك تكونين قد آثرت عليه الفتوة الذي أنقذك؟

وقالت وعلائم الانفعال يزين وجهها بثورة كالحياة :

- عم تتحدث؟! ألا تعرف عنه (فتحي بن عيسى) تعاونه مع الإنجليز وخيانته التي يتندر بها القاصي والداني؟ أنسيت أن الإنجليز أنفسهم من حبسوك عاماً كاملاً؟

وقال بهاء الدين كالذي يغيب في سحابة الماضي :

- لم أنسَ.. ولأجل ذلك فصداقتهم واجبة والتغافل عن وجودهم خطيئة!

وحل الجواب في نفس الفتاة محل الكدر والأسف، وتلوت بالألم النفساني المرير بينما جعلت تتجرع كؤوس الصمت،.. أحقاً يقصد بهاء الدين ما يقول؟ ألأجل المصلحة تقبل بابن العطار وترتضي بزيجته كالضرورات موءدة الحب في مهده؟ وأين الموقف والحمية؟ وبالأمس أسقط الإنجليز القنابل وشنوا الغارات التي لا صَرِيخ لأحد منها، واليوم يتحدث عنهم الناس بالنواصي والنوادي حديثاً فيه شزر، إنهم يتحدثون أيضاً عن عيون قد أتخذوهم في حيّهم الشعبي : وأحدهم يبيع الذرة والفول السوداني، وثانيهم يبيع الفلافل، وأما الأخير فيمتهن العطارة وراثة عن أبيه، وسوف تتصل إليها الأحاديث والإشارات بالهمز واللمز إذا هي مضت مسارعة لأبيها في هواه،.. وتدخل يوسف في حديث الاثنين وقال في سمر :

- ولمَّ لا ننتظر حالما تنتهي الحرب ويتكشف الموقف من الإنجليز،.. وإلا فهو الرهان الخاطئ؟ وأما صابرين فأحسب أن لها قدراً من الحرية لا يُنتقص في أن تختار من تشاء !

وقنع بهاء الدين بجواب الابن وولى منصرفاً،.. وانفرد يوسف بأخته فتساءل في فضول كأنما قرأ في عينيها شيئاً :

- فإذا لم يكن العطار أو الفتوة،.. فمن يكون يا ترى؟

وتولاها الخجل وشعرت بأن حديثها لا يفتأ يخرج من فيها ولو أن لها ألف لسان، وأحست وقد خلت الساحة إلا من أخيها رغبة في المصارحة، وودت لو كشفت له عن سر باتت تنوء به، أجل،.. إنه هشام عزمي، العامل بالمصبنة، مهوى فؤادها، ورفيق أحلامها، وصمتت تتجاذبها الاحتمالات حتى أدار يوسف الراديو فعلت تموجات الأنغام من إذاعة الموسيقى، وقال الأخ متجاوباً على النغم في انسيابية راقصة متأثر بما كان يراه في السينما من أداء Gene Kelly في أفلامه المبهجة:

- ولست كأبي في إلحاحه.. لا.. وليكن السر حبيس خزائن صاحبه !

وانسحب عنها وهو يخطو في رشاقة كالراقصين حتى توارى في حجرته، وقد انحنى عند عتبته قاطعاً بذراعه الأيمن حركة عرضية وانية من اليسار إلى اليمين كشأن الممسرحين عند انتهاء العرض.. وأظلم مساء هذا اليوم فاختلقت الفتاة سبباً للنزول انطلت على أبويها حيلته، قالت متلعثمة :

- إنها المحاضرة المسائية جعل لها الأستاذ الذي تخلف عنها في الصبيحة  - جعل لها هذه الساعة المتأخرة !

 وقصدت مصبنة رجب الخواجة كيما تلتقي بهشام، هناك يربض فؤادها وملتقى آمالها في الحب والمعيشة الأسرية،.. ودلفت تغالب رائحة الصابون القوية فقال لها كالممتعض :

- ها قد بات كبير الفتوات في حينّا منازعاً لي في ساحة الظفر بك !

وقالت كالمستطلعة :

- اخفض صوتك،.. إنها الأراجيف وليس غيرها،.. وكيف حال العمل هنا؟!

وأجاب الفتى في هم ناصب، وصوت هامس :

- الخواجة رجب يشق عليَّ في عمل لا يكاد ينتهي،.. (ثم وهو يتمثل صوت الخواجة ذا اللكنة العربية المتلعثمة بينما ما يلبث أن يعود إلى صوته في الجواب) فلتصف الصابون ها هنا يا هشام !.. حاضر سيادة الخواجة، فلتجفف الصابون يا هشام ! حاضر سيادة الخواجة،.. لعمري إن كل هذا الشقاء من أجل الفتات القليل أمام الكثير الذي يشح عليَّ به ويستخلصه لنفسه ! (ثم وعيناه تنذران بالثأر..) ولكن أيام أقوامه من الإنجليز في بلادنا باتت معدودات، أجل، هذه المملكة المتواطئة معهم قمين بها أن تنتهي في قريب أيضاً،.. وإننا ما ورثنا عنها إلا الألقاب والطبقات، وألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد،.. وغداً تتلقف الإنجليز سفن العودة يجرون الخيبات حين يتم لرومل انتصاره عليهم في العالمين وأروح أرث هذه المصبنة !

واقترب الخواجة رجب من اثناهما كأنما انجذب لانفعالهما، كان الرجل سميناً منداح البطن عامر الوجه، فقالت صابرين له في تأمل :

- هلا أمكنك أن تدع هشاماً معي فسحة من الزمن في تجوال خارجي، ولتقتطع هذا - إن شئت - من راتبه،.. سيادة الخواجة؟

وأذن لها الرجل بالأمر الذي طلبته - أذن لها في سماحة تجلت في ابتسامته التي كشفت عن أسنانه البيضاء وانكمش لها شاربه البني المصفر، حتى لقد بدت لغته الجسدية تعارضاً مع ما سبق أن وصفه الشاب من مَثَالِبُ الرجل ومع ما صوره من مظاهر إجحافه، وخرج اثناهما - صابرين وهشام - من نطاق المصبنة ذي الروائح النفاذة فتسللت إليهما رائحة الشارع بأتربته وعوادمه، فلما بلغا مبلغاً من السير متوسطاً قالت الفتاة لخليلها :

- وماذا لو أن رومل قد انهزم في معركة العالمين فلم ينطرد الإنجليز ومعهم الخواجة رجب ولم تؤول إليك بعدئذٍ ملكية المصبنة؟ حدثني عن مستقبل لا تكون المصادفات العالمية جزءاً منه.

وقال الفتى وهو يعدو يسبقها بخطوات ثم يقف موجهاً إليها حديثاً :

- لا مستقبل لمصري مادام الإنجليز أصحاب البلد الحقيقيون، وقد عدمت يداي سبباً من أسباب الرزق في هاتيك الظروف.

وقالت كالتي لم تستمع لجديد :

- إن أبي يفرض عليَّ الزواج بفتحي العطار وينتظر نتائج المعركة الحاسمة  كيما ينهي كل شيء !

وقال في أسى ضاحك :

- وعليه يكون مصيرنا كله معلقاً لدى أقدام الجنود، وفي سبيلي إليك سمعت المظاهرات الشامتة بالإنجليز تهتف :"إلى الأمام يا روميل..!"، ولا عجب فلازلت أتذكر كيف استقبل المصريون المنطاد الألماني الجوال زبلن (Zeppelin) في مطار ألماظة بحفاوة بالغة قبل ما يربو على عقد من اليوم، ثم ودعوه بحفاوة مماثلة.

وتساءلت في فضول :

- هلا أقنعت الخواجة بأن يزيد من راتبك ولو إلى حين؟ إني آنست منه اليوم لطفاً.

وقال هشام كالذي يستهجن الفكرة استهجاناً متصلاً إلى يأسه العام :

- إن ذهن الخواجة منشغل الانشغال كله في منافسة المصابن الحلبية، وعليه فلا تتعبي نفسك وإلا عدت بخفي حنين ! (وتنهد فامتلأ صدره بهواء خريفي بارد ثم واصل..) إن شأنه في هذا كشأن من يروم أن يبيع الخبز لخبازه،.. وسوف يؤول مشروعه إلى إخفاق !

وتمشى اثناهما في حي كرموز بينما جعلا يتبادلان النقاش، كانا يبدوان مشتبكان في خيالات طوباوية (مثالية) لا تلبث أن تصطدم بسقف الحقائق فترتد إلى يأس مقيم، ثم ما يفتأ - بغير سبب واضح - يثور الأمل في نفسيهما مدعوماً بطاقة شابة يقظة، ذلك حتى قال هشام لها لدى جامع أبي الدرداء :

- إنها المدة طالت،.. والواجب أن أعود إلى المصبنة !

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق