اقتربت صابرين من حوض الاستحمام المملوء بالماء فملأت به القدر، كانت محطة الماء - التي يديرها الإنجليز - قد أصابها الخلل طوال شهري يوليو وأغسطس، ومع تحسن الأحوال شهري سبتمبر وأكتوبر، فقد عاد الانقطاع - ومعه عادة ملأ حوض الاستحمام - شهر نوفمبر،.. وتأففت من الحرارة الخانقة واستدارت عن الحوض إلى الباب حاملة القدر، ومضت تسير الهوينى إلى المطبخ جاهدة أن توازن سطح الماء وألا تفقد في مسيرها هذا شيئاً منه، فلما بلغت مبلغها قالت لفاطمة :
- آه.. الماء.. الماء.. أين الماء؟ وحتى البطاطس بتنا نستبدل بها هذه (تشير إلى البطاطا)، ولا سبيل إلى السكر والشاي إلا برشوة الموظفين بالبقشيش ! لم يكن غريباً أن يرحل عمي عز الدين ونجله، إنها (المدينة) باتت تلفظ أحبابها، وهي - إلى هذا - عصية على التعايش أو القياد في ظروفنا كأنها الذئب الجامح رغم ما لها - وفي الوقت عينه - من سحر لا يقاوم !
وقالت فاطمة التي كانت تبادلها شعوراً ممثالاً دون أن تصرح به :
- الواجب أن نلوذ بالصبر وألا نشتكي، فهناك - على الدوام - من هم أسوأ منا حالاً.
ونظرت صابرين إلى بدروم المنزل حيث تنام الأسرة مخافة الغارات، وقالت - كالهازئة - وهي تغسل البطاطا فيتألق ثغرها :
- ليس ثمة في هذه الدنيا شر من النوم في البدروم.
وتساءلت فاطمة بعد أن حركت رأسها يميناً وشمالاً بينما تنكمش شفتاها في استهجان بسبب ما سمعت :
- وأين أختك هدى؟
وأجابت صابرين :
- إنها حزينة لفراق عبد الغني، وقد قضت الليل في بكاء، لا ريب أن الأرق احتجزها عن النهوض المبكر.. (ثم وهي تمسح جبهتها بظهر يدها من العرق..) إنها (هدى) أيضاً تخشى عليه من الملاريا - ونحوها من أوبئة - في أسيوط،.. ولكن الحكمة أن تقنع بتصاريف القضاء والقدر.
وتوقفت فاطمة هنيهة عن أداء شواغل المطبخ، وقالت :
- الله خير حافظ.. إن القلق الحقيقي - في ظني - هو أن يتزوج بامرأة من هناك وينسى حب المدينة !
وانتهت صابرين رفقة أمها من إعداد الغذاء في همة متوثبة، ونشاط دائب، وحينذاك تجهزت الفتاة - كدأبها أيام الجمعة - كي تهبط الشارع، وقالت لأمها :
- إنه يوم الجمعة، وسوف أتريض قليلاً،.. ما من أمر تريدينه؟
- أريد سلامتك.. (ثم وهي تتظر إلى أساور ذهبية تغطي مساحة من معصم ابنتها إلى الكوع) وحاذري الحذر كله من طمع الطامعين !
وقصدت صابرين إلى مصبنة الخواجة كي تلتقي بهشام عزمي فحثت خطاها إلى هناك وهي تفكر :"ها قد انتكس الألمان.. ورومل.. ثعلب الصحراء.. آه.. ليس إلا حَملاً وديعاً.. وقد أمطروا آذننا بحديث كالغثاء عن الجيش الذي لا يقهر فأين هو الساعة؟ والغلبة للجنرال «مونتجورى» والجنرال «الكسندر» والحلفاء والإنجليز والخواجة صاحب المصبنة،.."، وبلغت وجهتها بعد مسيرة حافلة بالمناجاة الصامتة فسمعت صوت الخواجة خارج الحانوت يقرع هشام عزمي تقريعاً :
- " أيها اللص الحقير ! لقد دأبت على سرقة الصابون وكنت تحسب نفسك تنجو بفعلتك..".
واقتربت أكثر من الباب وجعلت تتلصص من ثقوب أقفاله فوهبت لما يدور بالداخل عينها بعد أذنها، وأبصرت هشام عزمي واقفاً من أمام الخواجة منكس الرأس والكتفين بينما يقول الخواجة له في زجر أخير :
- "ولا مكان للصوص هنا،..".
وهم هشام عزمي بالانصراف ولكنه التفت إليه بعد مسير خطوات وقال :
- "وإذا أنت نجحت في منافسة المصابن الحلبية فلتبثق على وجهي.. أيها السمين المعتوه..".
واقترب الشاب الغاضب من الباب فاستجابت صابرين - سريعاً - لمقدمه وجعلت تتمثل هيئة "من لا تعرف شيئاً" بعد أن ابتعدت قليلاً من موقعها، فاستقامت قناتها وارتفع رأسها، وانفتح الباب في عنف فتبعت الفتاة مسير الخارج منه، وقالت له بعد مدة من المسير الصامت متظاهرة بعدم المعرفة :
- وماذا جرى لأجل كل هذا الصخب؟
وأجابها هشام :
- إن الخواجة يتهمني زوراً بسرقة الصابون !
وسرت الفتاة بالشاب حين أصدقها القول وعدت قوله هذا دليلاً على برائته، وقالت في عاطفة ملتاعة - كالأم تنزه طفلها - بغير روية :
- لاريب أنه سوء الفهم،.. فما أبعد العيب من شرفك !
وحمد لها الشاب ثقتها به حتى عاد إلى وجهه الممتقع بعض البشاشة، وقالت له - وهما يقتربان من معهد دون بوسكو - كأنها تجس نبضه بينما تركل حصوة من الزلط :
- ولا ريب أن أنباء معركة العالمين قد بلغتك.. وقد أسفت لهذا أول الأمر لأنه يعني استحالة أن ترث المصبنة من الخواجة الإنجليزي وفشل هذا المخطط الذي كنت تطلع إليه بعد أن تخلو لك الساحة منه، أجل.. ولكن رأيي قد تبدل بعد تحقيق فحلت في نفسي قناعة،.. بل لقد يتفق لي أن أرى هزيمة النازيين تصب في صالح الإنسانية جمعاء - وبمفهومها المعنوي الشامل - وإن تسببت في بقاء الإنجليز في بلادنا وفي خسارتنا المادية المحدودة لفرصة امتلاك المصبنة.
وقال لها بعد وقوف ذاهلاً منكراً :
- وما معنى الإنسانية إذا نحن لم نكن من جماعة المنتفعين بها؟ ألسنا بشراً أيضاً؟ إن عدو عدونا لا يكون إلا صديقاً لنا في عرف من يفهم معنى المصلحة.
وعجبت الفتاة لهذا الوجه الجديد للشاب التي ظلت تُكبِر فيه خصاله المتجردة، وإن عزَت - ولا تزال تعزو - تعثره المالي إلى سوء النصيب،.. كانت محبتها له تعميها عن مسالبه بل وتحبب إليها هفواته، وأما أوقات تنزهها معه - في كرموز ومحرم بك والمنشية - فتضفي على حياتها العامرة بشكول المهام وألوان الكد - تضفي عليها رونقاً كأنه الأريج يشيع في الحجرة المزدحمة، ولأجل هذا استملحت أن تغض الطرف عن كل ما يثير في نفسها ارتياباً نحوه، وقبلت أن تكذب حدسها إذا هو عارض قناعتها المبدئية هذه.. أولا يكفيه أنه يعمل ويقبل الإهانة يلقي بها الخواجة في وجهه فيستقبلها عن طيب نفس؟ ثم ألا يكفيه أن قلبه تحرك نحوها دون غيرها بشيء ما؟ أليست المعاناة الصفة الغالبة على الجميع في حيّها؟ بأي حق تنتظر منه أداءاً كالخوارق في عالم لا يعرف المعجزات؟ إنها رأت عبد الغني يرحل إلى أقاصي الصعيد فإذا أختها في قنوط.. فلم لا تقبل بمن بقى على علاته هرباً من مصير كمصير هدى؟ وشملتها هذه الفكر بقناعة قربت إليها الشاب فمدت إليه يدها، ومضيا - على حال الارتباط - يعدوان، وقالت له في غمرة السرور :
- وسوف أتوسط لك لدى الخواجة الإنجليزي كيما يعيدك إلى العمل !
وأجابها :
- ربما يجدي هذا فتيلاً،.. أخال أن صلفه سوف يلين أمام رقة الأنوثة.
كانت عيون العابرين تحدجهم بنظرات الغبطة والحسد حيناً، وحيناً بنظرات الالتفات والاهتمام فيتهربان منها، لقد ثملا بسرور العاشقين فأنساهما هذا محيطهما حتى أمسيا لا يتوخيان قبولاً ولا يستجديان رضاءً.. وأتبعا سيرهما الملفت إلى أن بلغا ميدان المنشية فألفيا تمثال محمد علي البرونزي ممتطياً حصانه متوسطاً هاته الحديقة التي جلسا يتناجيان فيها، وتساءلت الفتاة في اهتمام :
- وإلى أي شيء يميل قلب الخواجه؟
وأجابها وهو يشخص إلى عصفور يربض فوق تمثال محمد علي فينقر هامته البرونزية :
- إن شأنه كشأن من يظنون بأنفسهم سمواً زائفاً يستعذب المديح والإطراء ويحب التصدر كقدوة لمن سواه.
وألحقت سؤالها بسؤال آخر :
- وأي شيء في شخصيته عساه أن يستحق هذا المديح فعلاً؟
وفكر الشاب ملياً وبدا أن جعبته قد عدمت من صفة حسنة ينسبها إليه، وقال بعد طول تدبر :
- لعلها الحمية التي يداوم عليها دون أن تتجلى آثار لها مرئية في هيئته السمينة.
وأمالت الفتاة رأسها للأمام كمن عثرت على ضالتها، وتبادلا حديثاً ملؤه الحب والتلطع على مشهد من التمثال البرونزي وصاحبه المتجمد على حال الفروسية، إنهما يتبادلان الرأي في تفسير أشكال السحائب، فيقول هشام حين رؤيته لسحابة ممتلئة متأثراً بظاهرة الباريدوليا (Pareidolia) :
- إنه الخواجة رجب..
وتجيبه متطلقة الوجه :
- أو لعلها البطاطا،.. وقد سئمنا في البيت مذاقها !
حتى قالت صابرين حين انكساف الشمس فوق رأسيهما :
- إن هذا يكفي اليوم.
وعادا إلى الخواجة فتقدمت صابرين - ومن ورائها هشام - ودقت على الباب في خوف وحرص، وانفتح الباب فلاحت هيئة الخواجة ذي البطن الهائلة والشعر البني والأسنان المصطفة البيضاء، وأذن لها الرجل بالدخول دون رفيقها فقال في جدية كمن يضع حدوداً :
- ولست أفاوض في عودة اللصوص إلى هنا.
وكانت تتوقع جواباً كهذا الجواب، وشخصت إليه قائلة كالمستحسنة :
- ما أشد حرصك على الحمية !
ولم يجبها الخواجة فقالت وهي تشير إلى مكتبه حيث يكتنز البسكويت:
- ولكن ألا تخرق هذه الحمية مرات؟.. إن هذا شأن هشام حين خانته نفسه فسرق الصابون، أعني مداومة والتزام ثم هفوة تضيع كل شيء وتعود بالأمور إلى نقطة الصفر،.. وأين الرحمة إن غابت عن الأنفس معاني العدالة؟ وأزيد أقول بأن منافسة المصابن الحلبية أورثته اليأس الذي هو منبت كل قبيح في النفس،.. وهذا المرام الأخير يستوجب أن تتخلى عنه.
وأثمرت جهودها في عودة رفيقها إلى العمل بالمصبنة، وسرت بهذا سروراً عظيماً، وعادت إلى بيتها تغني لأسمهان :" يا نار فؤادي.. فضلت حاير في الغرام.. تهون لعيني دي الآلام.. وقلبي زادني بالملام.. وأمتى أشوف عطفك عليَّ.."، حتى بدا صوتها أجمل وأرق فاستحسنت نغمه مميلة رأسها طروبة الوجدان، ودلفت إلى البيت فاستشعرت هذا التناقض بين حالتها وحالة من في الداخل، وتعذر عليها أن تنسى إشراقات نفسها في الحب والغناء رغم الوجوم الذي نضحت به الجدران والأثاث والبشر، وإن شرعت تمسك عن الغناء حين جازت عتبة الباب وتهيأت لحال غير الحال، وألفيت بهاء الدين فوق السجادة المزركشة مسهباً في التسبيح بعد صلاته، والتقطها - كالذي خرق سلسالاً من ترديد سبحان الله - بقوله :
- إن ميزانية البيت لم تعد تحتمل كل هاتيك المصروفات، خصوصاً بعد كل ما جرى،.. أنسيت أن تجارتنا قد تأثرت تأثراً جسيماً بعد هجرة عز الدين الذي كان يمثل سنداً لي عظيماً؟
واقتربت منه فألفيت رأسه وشعره غارقاً في ماء الوضوء، وقالت كالتي تتنصل من أمر ما :
- لعلنا إذن بحاجة إلى مزيد من ترشيد النفقات.
وباغتها بقوله :
- أو لعلنا بحاجة إلى زيجة تكون سنداً مادياً لنا،.. ولتكن بنجل عيسى العطار.
وهرعت إلى نافذة البيت فجعلت تستنشق هواءً نقياً كالتي تروم الخروج :
- هل حقاً ترى الزواج سلعة وصفقة؟
- إن هذا خير من التعلق بعامل في مصبنة.
واضطربت لمعرفة أبيها بالأمر، فقالت :
- إن هذا حديث الناس..
- حديث الناس ليس إفكاً كله.. بئس العوز والعائزين !
وأجابته :
- العائزون خير من الخائنين، إن عيسى وابنه يعملان مع الإنجليز.
- وقد وهبت السماء لهم قوة وقدرة.
- مثلما تهب للأشرار في أحوال.
وأمسكا عن الحديث حيناً، وكانت هدى تتسمع حديثهما، حتى عاد بهاء الدين يقول :
- ما معني الحب؟ ألم تري إلى أختك هدى وما جرى لها من وراء التعلق بمن سافر ورحل؟
- سيعود عبد الغني يوماً.
- هذا إن لم تقضِ عليه الملاريا بأسيوط.
- ما أقسى نفسَك هذه الليلة،.. كأنها جُبلت من حجارة أو أشد !
- إن الحقيقة قاسية في مرات.
وقالت وهي تهبه نظرة ذات يقين :
- ولن أهب للحقائق القاسية اعترافاً.
وقال :
- إن الأبوة تقتضي التوجيه.
وشع خيط من خيوط الشمس المشرقة، على وجه الفتاة التي بدت – وقد فتحت فمها نصف فتحة على نحو حالم – وكأنها ملاك يعب الضياء عباً، وقالت :
- والحب يتطلب التضحية.
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
وقد أحدث الفراق في نفس هدى شيئاً شبيهاً بالحزن الذي يحمل صاحبه على الشرود والاستغراق، ووجدت في الخيال باباً سحرياً يسري عنها وطأة الانتظار فاشتبكت في خيالات الرجاء والأمنيات، كانت تستشعر أن الزمان قد توقف يوم سافر عبد الغني - رفقة أبيه عز الدين - إلى أسيوط فتستحضر صوتها الملتاع حين تسأله :
- ومتى تعودان؟
ويجيبها وهو الناهض بحمل جل الحقائب :
- في أعجل الفرص.. وسوف نكون في معية الأهل والأحباب، هناك، فما من داع إلى القلق أو التوجس.
حقاً،.. الأهل والأحباب؟ وماذا عنها؟ ألم يكن خليقاً به أن يرفض وأن يمنع أباه عز الدين من الرحيل؟ ألم يكن يستوجب عليه أن يصدح وأن يصرح وحتى أن يهدد؟ أليس العاشقون رفاق وثمن الحب لا يكون إلا الجسارة؟ ومن ذا يزيل عن قلبها المكروب أثقاله إذن؟ وجعلت ترش نبت الفل تروح به عن شواغلها الجمة، إنها عادة تلقنتها من أبيها بهاء الدين فاستوعبتها خير استيعاب، فليجزه الله - هو الآخر - نظير ما تفوه به بالأمس واستمعت له خلسة، توقع لعبد الغني الهلاك بالملاريا ومنذئذٍ حفل قلبها الغض بشتى الهواجس،.. وحتى لقد نشطت نفسها إلى قبول الابتلاء وتمني السلامة، على أنها - وبين الانتظار والتعلق - لم تفقد رغبتها في التزين والتأنق بل لعل رحيل الشاب أفقدها مرآة الطمأنينة التي كانت ترى فيها صورة نفسها فزادت هذه الرغبة بعد رحيله ازدياداً محموماً، ثم أنها عادت تخمل وتهدأ بكرور الأيام حتى باتت تهمل مظهرها حيناً، ثم ما عتمت حين تواتيها آمال العودة واللقيا أن تعود تسرف في اقتناء الأعشاب والروائح - تسرف في كل هذا إسرافاً عظيماً، وجاءتها فاطمة - وهي تقف من أمام المرآة - تقول :
- والواجب أن تنشغلي في عمل بدلاً من أن يسلمك التفكير للحزن.. إن للسعادة باباً واحداً وللحزن ألف باب،.. ثمة من يسألني عن غيابك بالمدرسة الإبتدائية.
وأبدت موافقتها فقصدت - بعد تفكير عابر في حديث الأم - إلى المدرسة الإبتدائية حيث تعمل قريبة من سوق الإبراهيمية راكبة الحنطور، كان الحي يقطنه مواطنون من بلدان البحر المتوسط في منازل فقيرة من طابق واحد أو من طابقين، وقد عرفت المصريين منهم مثلما عرفت اليهود والشوام واليونانيين والمالطيين والأرمن والإيطاليين معرفة وثيقة وغير وثيقة، وعدت الحي - بطبيعته الكوزموبالتينية - ديارها الثانية بعد كرموز حي الصبا والمنشأ، وأما الأطفال - رواد الحضانة الذين تلتقتي بهم في جلسات الدرس - فأبناء المصريين والجاليات الأجانب من سكان الحي، أولئك الذين تجتهد في التواصل معهم بتعلم أساسيات لغاتهم المتفرقة اجتهاداً يثمر أكثر الأوقات ولا يثمر في بعضها، ووقفت من أمامهم وقالت كالطفلة :
- مرحباً بالصغار..
وأجابها الأطفال إلى التحية، فانبرت تكتب على السبورة عدداً من حروف الأبجدية العربية :
- واليوم ندرس الصاد.. والضاد.. والطاء.. ومن ذا يأتي لي بكلمة تبدأ بحرف الطاء؟
وأجابها أول من سمحت له بالجواب، وكانت طفلة من الشام :
- طائرة..
وحينئذٍ استسملت للاستغراق تتذكر يوم تهاوت قذائق طائرات الإنجليز فأشعلت ما أشعلت، وخربت ما يشيب لذكره الذاكرون، وينتفض له الأسوياء المرهفون.. هنالك تمزقت أواصر الوداد الوشيجة ونزلت الشرور كالنيران، وعادت تتذكر ما جرى بقلب محموم، وشردت عن محيطها اليومي الراهن برهة حتى أيقظها صوت الطفلة الشامية في قلق بريء :
- أفيما قلته خطأ ما،.. أستاذة هدى؟
وقطع حضور الطفلة تيار خيالاتها فقالت تستجيب لسؤالها في ود :
- إنه جواب سليم، (ثم كالتي تحدث نفسها..) والمشكل أن له في نفسي أصداءً ما.
وانتهى الدرس فجعل الأطفال يتسامرون عن أيام الغارات التي قضوها في البحث عن شواظي القنابل في حدائق منازلهم، وعن تباريهم فيمن يعثر على الأكبر منها، وتنافسهم الذي فاق بحدته المعروف عن سلام الطفولة، وتفرق الحديث وساد الجدل حتى سألها منهم واحد عن موقفها :
- أإلى الحلفاء أم إلى المحور انحزت؟
فقالت في اعتزاز :
- إن انحيازي إلى الأمة المصرية !
وسألتها الطفلة وكانت لها ملامح أوروبية :
- ومن عساه أن يقف ممثلاً عن الأمة المصرية في الحرب الدائرة من الأوربيين؟
وحارت هدى جواباً،.. وقالت - بعد أن أنهكها التفكير - كالتي تجد مهرباً من الجواب في الإحالة إلى القاعدة العامة :
- ولا سياسة في التعليم،.. وخصوصاً لمن هم في مثل أعماركم الصغيرة.
وكالطير حين يعود أدراجه آبت الفتاة إلى حيّها وإن لم يسلمها العمل للارتياح الوجداني مثلما كانت تروم، وفي كل ما يحيط بها علامة من علائم الماضي المحفور تنطق - في تصريح أو تلميح - بألف لسان، ووقفت من أمام أطلال حانوت عمها عز الدين شاردة الخاطر تغمرها شتى العواطف، هناك كان يقف عبد الغني،.. وألفيت الأشياء تنطق ساخرة مبتسمة في هزو أمام محنتها توحي بالاستمرار العابث الذي لا يبدو له غاية أو غرض، ولم تحتمل الإقامة أكثر في الحي العتيق فأثقلتها الذكرى المؤلمة، وصعدت إلى أمها تقول :
- انتهى الدوام اليومي.. وسأعود آخر الليل !
وسألتها فاطمة في عجب :
- إلى أين؟
وأجابت دون تفكير :
- شاطئ سيدي بشر !
كان شاطئاً يغص بالمصطفين يقصده القاهريون - وغيرهم من أهل المحافظات الأخرى - حين يجيء الصيف، ولأجل هذا أُوسعت مساحته فصار له - إلى جانب الشاطئ الأساسي المعروف بالرقم واحد - شاطئين اثنين لهما الرقمان اثنين وثلاثة،.. وقصدت إلى الشاطئ الأساسي وأمسكت بهاته الصخور الجيرية تستمع من خلالها إلى أصوات ارتطام الأمواج،.. إنها عادة الطفولة السحرية، وزمانها الذي ينذر في لطف دون أن يواجه بحقيقة - كالوجه الجامد - من تلك التي تتشكل في فصول العمر الباقية،.. وانتقلت إلى الشاطئ الثاني مدفوعة برغبة في الاستكشاف وسبحت إلى هاته الجزيرة - الواقعة على مبعدة كيلو متر - حتى بلغت مبلغ الدرجات المحفورة التي تفضي إلى الحمام الصغير، يشيع المشيعون أن هناك استحمت كيلوباترا قبل أن تبحر مع يوليوس قيصر في نهر النيل،.. وتخايل لها خيال عبد الغني فنادت :
- عبد الغني؟ لم أنت هنا؟ ألم تقصد إلى الصعيد؟
واختبأ الخيال خلف الصخور وبدا وهماً اضطربت لمعرفة حقيقته الزائلة، وتبين لها أنها كانت تعدو دون روية وراء ذيول الحب الذي لم يزايل وجدانها المعتل، وإن لم يفقدها اكتشاف الوهم هاته الرغبة في ارتياد الشاطئ الثالث، هناك الخليج المحاط بالكبائن ذات اللوان الأخضر، كأنها نصف الدائرة تحيط بمسرح روماني، وولجت إلى عالم الرمال الناعمة حيث كان بمقدورها أن ترى قصر الملك فاروق محاطاً بغابة من النخيل ضخمة،.. إنه قصر المنتزه - هكذا رجحت - وقد أتبعت مسيرها بين الأثرياء والسوريين - الذي يرتادون الشاطئ الثالث على الدوام - حيث وقفت على حدود خالت عندها أنها تناجيه (الملك) :
- والإنجليز.. أين أنت منهم؟ لقد تخليت عن واجبك في حماية شعبك وقد تسبب هذا في مآسي لا تحصى،.. جلالة الملك..
وتبدى لها محدثها منكس الرأس مثقل اللسان، حتى تسرب الحديث من فيه :
- إن المصريين أبنائي جميعاً،.. ولكن كيف لي بالقوة التي تعينني على ما تطلبين؟!
فقالت في رجاء متشجعة بالحديث الأخير :
- الواجب أن تتخذ القرار ومن ثم يأتيك المدد، إن هذا لأضعف الإيمان.. وأما أنصاف الحلول فلا تجر على صاحبها إلا الخسران.. مثلما طردهم جدك محمد علي يوم أتوا في حملة فريرز..
وجعلت تردد :"حملة فريرز.." كالتي تنبهه إلى ما لا يجب أن ينساه بينما يتوارى خياله، حتى التفتت إلى من كان يعرض عليها بالشاطئ أن تأكل الفستق فأبت،.. وأظلم الليل فعادت إلى الحي الشعبي تجتر فصول الذكريات وتبصر السخريات التي ينطق بها البشر والحجر من واقع المخازي والبلايا،.. وطرقت الباب زاهدة الفؤاد زائغة النفس فألفيت صابرين متهللة تقول :
- إنها رسالة من عبد الغني،.. بعث بها فور وصوله إلى أسيوط !
وانقشعت فقاعة الأحلام والأوهام فألفيت نفسها - ولأول مرة منذ يوم انتقام الإنجليز - أمام حقيقة مستبشرة، وأشرق وجهها لسماع الخبر السعيد فجعلت تمسك بالخطاب جالسة على الأريكة الخشبية :
-"إن هذه رسالتي أكتبها تحت ظل جريد النخل في مركز أبي تيج حيث انتهت بنا الأسفار الطوال،.. وما من شيء أحب إلى نفسي بعد عناء الفراق من مراسلة الأحباب، أولئك الذين ينتظرون في تطلع مصير الحرب والأزمات العالمية في شغف مماثل لنا نحن العائشون بالجنوب.. ومهما يكن من أمر.. فقد اشتغلنا - أنا وعز الدين - بمهنة تشكيل الجريد فنفقت بضاعتنا على خير الوجوه، وراجت تجارتنا رواجاً عظيماً، وقد عاونتُه بادئ الأمر على تشكيل الأقفاص، ثم انتقلت بنا الحال - بعد رواج التجارة - إلى صناعة الأثاث والمشغولات المنزلية، والكراسي التي تجد إقبالاً واسعاً في الحدائق والمنتزهات، مروراً بأسقف المنازل، وحتى لقد بتنا نشكل الجريد في صورة الفوانيس والأرائك.
وفي فجر اليوم هممت بتسلق نخلة في دار عم سعيد، إنه الرجل الذي استقبلنا في حفاوة يعز مثالها، وأنزلنا في بيته منزل أولاده منه، وأذكر منهم ابنه الأبكم نوحاً، وهو على إعاقته زهرة إخوانه،.. كنت حافي القدمين وقد تسلقت جذعها بوثبة رشيقة وتحديتهم ألا تضطرب بي حاسة، وعلقت عيناي إلى أعلى نقطة أستطيع أن أراها - هكذا تعلمت من أبي عز الدين - بينما كانت النخلة لا تبالي ولا تعبأ بي، كان الجو صحواً وخلت أني أفقد اتزاني، وجعلت أردد الصمدية حتى عاد إليَّ الاتزان المفقود بغتة كما فُقد بغتة،.. وحوطتها (النخلة) بحبل أتقنته من الليف كي أصل إلى ثمارها، البلح الرطب،.. والأقباط في أسيوط كثر، وقد عرفت منهم أن أسطورة هي لدى الرهبان والقساوسة عُثر عليها في الأديرة القبطية تقول بأن البلح كان طعام السيدة العذراء طول مدة حملها بالمسيح،.. ومهما يكن فقد قلمت النخل كي استخدم الليف الأحمر في الاستحمام سنة عن النبي محمد.
وإذا كان للحقيقة وجهان : مر وحلو، فالواجب يقتضي أن أقص عليك طرفاً من هذا الوجه الآخر، إنها الملاريا التي أطلت بوجهها الكريه فجعلت من أسيوط مركزاً لها، والمشكل أن حكومة النحاس باشا السادسة لا تريد أن تبدو في وضع عجز من جانب، والقصر الملكي يريد أن يكشف ما هي عليه - واقعاً - من قلة الحيلة من جانب آخر، وأما سلطات الاحتلال الإنجليزي فلا تريد لإنسان أن يتفوه بشيء حيال الجائحة الجارية من جانب ثالث، وهذا التضارب - الذي يعوزه إخلاص النوايا وتجردها - في المواقف الثلاث ساعد على إدامة المحنة بل وزيادة نيرانها اشتعالاً.
إن الآلاف - ولا أخفي عليك سراً - يسقطون، على مبعدة منا أو مقربة، وحين يرحلون يدفنون في أماكنهم، وتوضع على بيوتهم علامة "X"، وقد تعلق قلبي بالمجهولين الذين حضرت جنائزهم غير مرة بدعوى ملحة من عم سعيد، فنثرت - مع الناثرين - السعف في الطرقات التي مرت بها الجنائز، وتضرعت طالباً لهم الغفران في العالم الذي انتقلوا إليه.
وحين سألني الأهل عنك أسرفت في الوصف، وأسهبت في التفصيل، ووجدتني أمام السؤال الصعب حين سألني عم سعيد سؤالاً، وكنا نتمشى في غيطانه :
- وهل تحب ابنة عمك ؟
وقد أجبته بالموافقة بينما أغيب في سلام داخلي وأمل - لا ينقطع - في العودة.. ".
وهنالك اختطف يوسف الرسالة في شغف وشغب وجعل يلقي على الأسماع مضمونها جهير الصوت، بينما جعلت هدى - وسط الضحكات - تنازعه وتحضه على الصمت.