الفصل العاشر : السادات يلتقي بالفتوات
وقفت صابرين أمام مقهى فاروق رفقة يوسف تنتظر مجيء الملك، وتأخر مقدم الرجل لسويعات فتسربت إلى نفس الفتاة ثمة ريبة حتى هبطت بشائر الليل فسمعت صوتاً ينذر بمحضر الغائب المنتظر، وأبصرت حشداً من الدراجات النارية وعدداً من السيارات المرافقة فبدا كل أولئك موكباً مصغراً مرافقاً، وهبط الملك من سيارته الفارهة وكان يحيي الناس الذين اصطفوا على الجانبين فيبادله المارة التحية بمثلها، وتضاءلت دواعي الخوف أمام لهفة الرؤية فهرعت صابرين إلى حيث مسار فاروق فاعترضها اثنين من الخدم، وظلت الفتاة تنادي :
- إن لدي شكوى تتعلق بأبي أرفعها إلى الأعتاب الملكية السامية،.. ممثلة في شخصكم !
وأعادت الكرة بغير مجيب والرجل يمضي في مسيره، وهنالك تسلل يوسف لصغره فنفذ - كالسهم العابر - إلى الداخل، وكان فاروق يحدث معاونه فيقول:
- الحكمة تقتضي ألا نعلن الحرب على المحور الآن !
- إنه إجراء شكلي، جلالتك.. ولن يتم إلا بموافقة مجلس الشيوخ والنواب والوزارة، يجب أن نقف في صف العالم المنتصر.
- أمهلني فسحة من الزمن كي أقرر، ثم أنني لم أجيء إلى هنا لأجل الحرب !
واقترب يوسف من الملك فاروق فتصدى نفر من الخدم لإبعاده، غير أن الملك أثناهم عن قصدهم قائلاً كمن يفصل في نزاع :
- دعاه وشأنه ! (ثم في ود..) ماذا تريد؟
وجللت الرهبة يوسف فقال مختلقاً شيئاً :
- أود أن أهنئكم بمناسبة نجاتكم من حادثة القصاصين !
وابتسم فاروق، وقال ضاحكاً :
- إنها تهنئة متأخرة، (ثم وهو يستدير إلى معاونه..) والمشكل أنني صرت أحس نفسي عائشاً حادثة قصاصين في كل يوم نظراً لعظم الملفات التي تسلط على رأسي !
وقهقه المعاونون بين متكلف وبين مستجيب، وقال يوسف في جدية بينما تسري عدوى الضحك في الأنحاء :
- أعرف أنك رفضت أن يعالجك الطبيب الإنجليزي رغم خطورة حالتك، آنذاك،.. جلالة الملك !
والتفت فاروق لأول مرة إلى الصبي باهتمام، وساد في المقهى لون من الوجوم الصامت الموحي الذي تزامن مع مجيء النادل ومعه الشاي والنارجيلة، وقال فاروق وهو يلتفت إلى معاونيه بعد أن شرب من الشاي رشفة :
- أصاب الصبي ! جاءوا لي يومذاك بأحد كبار الجراحين الإنجليز غير أنني آثرت الجراح المصري المدعو بعليّ إبراهيم باشا، وحتى لقد انتظرت قدومه خصيصاً بالطائرة بعد إبلاغ القصر الملكي ! (ثم في سرور يقترب من الضحك..) أذكر أنني جعلت أردد : "إن لدي كسراً فى عظمة الحوض أسفل البطن !"، فلم أكن بحاجة إلى من يشخص حالتي !
وقال المعاون في تزلف بادٍ :
- لا عجب في هذا جلالتك، إذا أنت العامل الأول، والجندي الأول، والطبيب الأول!
وقال يوسف، بكل تجلة واحترام :
- وإذا كان الحال هذه جلالة الملك، فكيف تسمح بأن يسجن رب أسرة لم يقترف إثماً في سجون الإنجليز الذين لا تثق بهم؟
وساد هرج تبارى فيه المتبارون في ذم تجرؤ الصبي على فاروق، وفي تسفيه رعونته، حتى قطعه الملك بقوله :
- فلتقص حكايته إذن..
وازدرد يوسف ريقه يقول :
- لقد قبل أبي بهاء الدين، ذات نهار، بضائع من الفتوات بحي كرموز..
وهنا استوقفه معاون الملك فقال :
- الفتوات ! أخ ! بئس الجماعة والطريقة ! لقد وقع أبوك فيما هو جدير بأن يُجازى عليه،.. ألم يبلغه أن لا شرعية لهم في القطر المصري الحديث الذي أسسه جد جلالة الملك وصنعه على يديه (يريد محمد علي باشا) حيث سيادة القانون تمثلها الشرطة الحديثة؟
وقال فاروق لمعاونه :
- دعه يكمل..
وقال يوسف :
- وقد تكشف لأبي بعد فوات الأوان حقيقة هاتيك البضائع،.. إنها مسروقة من شون الإنجليز والآن صار يعاقب في سجونهم ! ولا أحسب أن سيفك كليل أو أن إرادتك قاصرة إزاء من يجور على فرد من أفراد شعبك.
وشرب فاروق من دخان النارجيلة حتى امتلأ صدره، وقال وهو يزفر الدخان :
- وسوف أنظر في أمره، ولتكتب لي اسمه ها هنا (يشير إلى ورقة تحت يده).
وكان المعاون يقول ليوسف وهو يكتب اسم أبيه :
- فلتحمد للملك رحابة صدره،.. يالك من مشاكس مسارع إلى التبرم !
وأودع فاروق الورقة جيب بذلته ذات النياشين الكثر والبهرجة، وعاد يوسف - بعد أن انحنى للملك تحية إكبار وتوقير - إلى أخته صابرين التي كانت تطلع إلى اللقاء من وراء سياج الخدم، وجعلت الفتاة تمني نفسها - كالمستغرقة في عالم الأمنيات - بقولها :
- وهل بمقدور الصدف أن تجمع بين خروج أبي وعودة عبد الغني في يوم واحد؟
وقال يوسف بينما يهبط شعاع المغيب على وجنتيه، على حين يحرك الهواء بذلته فيملأها بهواء :
- أتمنى أن يحدث هذا حقاً.
وتحرك موكب الملك عائداً إلى قصره محفولاً محشوداً وزمجرت المحركات، واصطف الناس للحدث اصطفافهم أول مرة، إنهم يصفقون ويهتفون ويتجمهرون في سعادة عظيمة كالجماعة المشمولة بنعمة، وحتى لم يعد اشتداد هواء هذا اليوم إلا كنسمة وانية في أنظارهم، ووقف يوسف وصابرين يودعان فاروقاً بينما يسد الشاب أذنيه من زمجرة المحركات، كان شتاء يناير (كانون الثاني) حاضراً بقسوته القاهرة وبزوابعه الغاضبة،.. وبينما الحال هذه انفتح جيب بذلة فاروق بتأثير الهواء والزوابع وطارت الورقة (التي تحمل اسم بهاء الدين) منه،.. ولاحظ يوسف ما جرى فهرع إليها يلتقطها عجولاً، ثم إلى الملك يقول :
- لقد هوت الورقة من جيب البذلة،.. جلالتك ! لا يمكن أن يحدث هذا في أسوأ الأحلام !
واحتجزه الخدم والشاب بين ذهول ونداء، وقالت صابرين تواسيه حين سارت العربات :
- ثمة أمور أقوى من إرادة الملوك،.. إنها تراتيب الأقدار !
وقال يوسف لها في أسى وهو يركل حصوة من الزلط فترتد بعد اصطدامها بالطوار إلى ركبته :
- والمشكل أنها (تراتيب الأقدار) تقف في وجوهنا على الدوام،.. آه.. ليتنا لم نره (فاروق)، إننا إذا عجزنا عن رؤيته ما رأينا بارقة الأمل العارضة التي استحالت هباءً.
وعاد يوسف في مساء هذا اليوم إلى مقهى الفنانين خائب الفؤاد، لم يكن الشاب يومذاك بحاجة إلى إعداد الكثير لوقفة المنصة وقد امتلأ قدره بصفحات السخريات والمضحكات، وأما ما حدث فلا ريب أنه رأس العقد في نوادره، وعليه قص على حشد الجمهور ما وقع له فعلاً :
- وترى الملوك رجالاً مخيفين، وما هم بمخيفين.. فإذا اقتربت منهم ألفتهم بشراً يسهون، وقد تعبث بهم زوبعة من هواء فتنسيهم أمراً كانوا قد حرصوا على تدوينه،.. وعليه،.. هربت الورقة من جيب الملك فاروق فلا عاد يبقى لنا إلا أقصوصة نرويها هنا.
وانتزع الشاب إعجاب الجمهور بغير ضحك لأول مرة منذ صعد المنصة الخشبية، إن هذا إلا لسبب وصفه البارع وتأثره الظاهر غير المفتعل،.. وجاءته عفاف بعد انتهاء العرض تقول :
- لقد أضنتني قصتك.. ولدي حل لها !
ورفع يوسف رأسه في نصف اهتمام كأنه يتساءل في صمت:"وماذا يكون الحل؟" :
- إنه زوجي تشارلي،.. لن يحل عقدة الإنجليز إلا إنجليزي مثلهم !
وقال يوسف في حزن موصول :
- حقاً؟ اليوم حزت وعداً ضائعاً من الملك نفسه والساعة تريدين من ضابط إنجليزي مغمور أن يقوم بدوره.. انظري كم تراجعت آمالي سريعاً!
وقالت تطلع إلى المحيط المترامي بالغرفة الواسعة :
- حدثني إذن كيف بقى هذا المقهى على ضخامته لولا تدخل تشارلي في يوم كادت المتفجرات تأتي على بنيانه؟
وقال يوسف مناوراً :
- إن أبي بهاء الدين في غنى عن تدخل الإنجليز، إنني أعرف منك بنفسيته، فلسوف ينبذ الأمر ويحتقر خروجه على هذا النحو.
وقالت عفاف :
- أنت تغار من تشارلي ليس أكثر ولا تريد أن يكون له يد في انحلال أزمتك !
وقال وهو يشب إلى المرآة فيرفع حاجبه الأيمن :
- ولمَ أغار منه؟ أعساه أن يكون أبهى مني مظهراً؟
وقالت في صوت تردد في وجدانه كالأصداء :
- بل، لأنني آثرته عليك زوجاً لي،.. ولأنه أطول منك يداً وأوسع سلطاناً.
وقال وهو يمشط رأسه بالمشط الأحمر :
- آه.. كان ضابطاً أخرق كثير الثمول (يريد تشارلي)،.. ولكن عين الرضا عن كل عيب كليلة !
ولاح تشارلي في مشهد اجتماع الاثنين، فقال بعد أن أحدثت بيادته العسكرية وقعاً على الأرض الملساء شديداً :
- "لقد أظهرتني عفاف على أزمة وقعت لأبيك، ولقد يخيل إليَّ أن بمقدوري أن أساعدك..".
وصمت يوسف فجعلت عفاف تحضه على الحديث، وقال الفتى :
-"وماذا تريد في مقابل هذا؟".
وقال تشارلي في تطلع حالم :
-"إن لديك هبة التأثير في الجمهور، وإن لدينا، نحن ضباط الإنجليز، من اللورد والأميرال وحتى الجنود، مشكلة مع الأهالي..".
وقاطعه يوسف مأخوذاً فقال كأنما وصل بين الجملتين :
-"تريد مني أن استخدم المنصة الخشبية في تبييض صفحة ضباطكم؟".
والتفت تشارلي إلى عفاف مبتسماً وقائلاً :
- "إنه سريع البديهة، فطن الخاطر، حقاً..".
وقال يوسف وعيناه تقطران إباءً وشمماً على براءتهما :
- "لن أضع يدي في يد محتل مهما أضطرتني الظروف.. إنَّ طلبَ أن تشرق الشمس من المغيب أهون عليَّ وفاءً من هذا..".
وقال تشارلي :
- "وكأن القطر المصري بوسعه أن يدير نفسه بنفسه ! ولولا الفرنسيون والإنجليز لكانت حالته أسوأ بما لا يقارن من حالة اليوم..".
وقال يوسف :
- "إنها لعنصرية هذه التي تنطق بها.. لقد كان انتقال الحداثة عارضاً من أعراض الاحتلال لا مقصداً من مقاصده..".
وحدق تشارلي في حدقتي عيني يوسف الزرقاوين يقول :
- "أريد منك أن تتخيل يوماً يخرج فيه أبوك من محبسه، بربك.. كم يساوي هذا ثمناً؟".
وبدا أن يوسف قد انثني بتأثير العبارة الأخيرة عن عزمه الأول، فسأله :
-"وما رأي رشدي عبد العظيم (مدير المقهى)؟".وقال تشارلي :
- "لقد بات الرجل قنوعاً بحقيقة ضرورة التعامل مع الإنجليز بعد كل ما حدث..".
وكان يوسف مستوعباً لرغبتين متضادتين، فيحدث نفسه :"لشد ما لهذا العرض من بريق ! ولكن.. ألا تكون أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع؟ وقد تخلب النفوس بالثمن فتزل أقدام الفكر في مهاوي الممنوع،.. إنها هفوة تُغتفر.. وقد أطبقت عليه ظروفه فلم يعد أمامه إلا سبيل باقٍ، وإذا الأوطان عجزت عن حماية حقوق أبنائها فكيف السبيل إلى الحياة الحقة النزيهة في ربوعها؟"، وإنه كذلك حتى أسلمه الصراع للقبول،.. وكان يوسف في الأيام التي تلت الاتفاق يصعد بضابط إنجليزي على المنصة الخشبية فيقول لجمهوره :
- ومن عساه أن يكون وراء هاتيك الستارة؟ إنه ذو هيئة ذات وقار، يمشي مع أشباهه بالطرقات في نظام (قالها وهو يتمثل هيئة مصطنعة كالإنسان الآلي..)، كأنما هو مخلوق فوق القانون أو ممثلاً خارقاً له أو كأنما هو القانون الموازي في صورته المتجسدة، وأما وقع بيادته العسكرية على الأرض فتصك الآذان صكاً كأنها دقات الأقدار في لحظات الامتحان الرهيبة، ولقد نراه كائناً في قيادة الطائرات بالارتفاعات السامقة، أو ماثلاً تحت الماء في غواصات المحيط بالأعماق السحيقة، ولكنه لا يفهم لغتنا، فما أسهل أن تستغله !.. فمن يكون؟
وكان الناس بالمقهى يبادورن إلى القول في سمر :
- إنه الضابط الإنجليزي !
وهنالك يكشف عنه الستارة فيمد الضابط يده فيسلم على جمهور الصف الأول !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
1944م..
كان النيجرو ومنذ عودته إلى حي كرموز كثير التواري عن الأعين، وقد كثفت شرطة زكي طبيلي دورياتها بحثاً عنه وتعقباً له،.. إنه إذا قصد إلى فيلا الفتوة النونو يوماً فأنس إلى الحياة فيها أتاه هاجس بعد يوم أو يومين أن أذهب إلى غيرها، فإذا هو عائد إلى رقعة كان قد بسط عليها نفوذه منذ مر منها موكبه المظفر - يعود إليها حين يتنادى المبارزون في الصبائح فيحقق النصر ويلوذ بالاختفاء، وهكذا دواليك.. وقصد يوماً إلى فيلا الفتوة إسماعيل سيد أحمد بمحرم بك فألفى عنده ضابطاً مصرياً أسمر البشرة، وكان يضع رجله اليمنى فوق اليسرى، مطلق اللحية، وسأله في تبرم :
- بربك.. ومن يكون هذا؟
والتفت إسماعيل سيد أحمد إلى الجالس ثم قال للنيجرو في صوت خفيض :
- إنه الحاج محمد.. وقد هرب من معتقل الزيتون باحثاً عن ملاذ آمن، مثلك تماماً.. واسمه الكامل، كما أفصح لي مساء الأمس، محمد أنور السادات !
وقال النيجرو في صوت عالٍ نسبياً :
- وهل هو معنا أم معهم (يريد الإنجليز)؟
وسمعه الضابط الجالس فاعتدل في جلسته وقال في نبرة مترفعة :
- إني معكم قلباً وقالباً، إن فتوات مصر يدافعون عن شرفها أمام الغزاة منذ قدم.
واقترب النيجرو من موقع الجالس كأنما اطمأن له، فسأله :
- وكيف الخلاص من هذا الكابوس الجاثم؟
وقال السادات فيما يشبه التردد الذي يسلمه للحسم :
- لابد من استخدام القوة،.. لن يخرج الإنجليز ما لم نستخدم القوة، وقد أخطأ مصطفى كامل حين تغاضى عن هاته الحقيقة.
وحضر إسماعيل سيد أحمد إلى حيث الاثنين، فقال محدثاً النيجرو :
- لقد عمل سيادة الضابط حمالاً على عربة لوري لدى تاجر اسمه "غويبة" كان متعهداً للجيش البريطاني، وقد عهد إليه بنقل الخضروات والفاكهة إلى معسكر الإنجليز في التل الكبير،.. ثم عمل في نقل الحجر (الدبش) في بلدة اسمها "مزغونة" من المراكب الآتية بالنيل إلى هاذيك الطريق الذي يرصف الساعة بين القاهرة وأسوان، من مطلع الفجر وحتى مغيب قرص الشمس،.. وقد ذاق أفندينا الضابط الأمرين بعد هربه من المعتقل كيما يضمن لأولاده حد الكفاف، ولا ريب أن الأقدار ستكلل جهده يوماً ! إنه العمل الشريف لا يسيء إلى صاحبه مهما كانت صورته.
وقال السادات كالذي يستشرف أمراً :
- في الحقيقة إنني أنتظر أن تسقط الأحكام العرفية يوم تنتهي الحرب لأعود إلى حياتي الطبيعية، ولكن الأهم قبل أن تتحرر ذاتي وذواتكم المحدودة أن يتحرر الوطن جملة !
وسأل النيجرو مأخوذاً بحديث الرجل :
- وكيف يتأتى ذلك؟
وأبدى السادات انفعالاً مزيفاً، وهو يقول :
- لشد ما يأسرني ذاك الحس الوطني لدى فتوات مصر ! إن شأنهم شأن المعارضة الشعبية غير المنظمة،.. أعتقد أننا يجب أن نبدأ بالخلاص من أسماء ساسة أعلنوا خيانتهم جهاراً، ولن يتأتى ذلك إلا بتأسيس الجمعية السرية.
وبدا لـ"الجمعية السرية" وقع مغلف بالإثارة في الآذان المُصغية إلى الحديث الأخير،.. وجاء إسماعيل سيد أحمد للجالسين بحساء العدس الساخن، وقال السادات مستحسناً مذاقها :
- ما أشبهها بحساء العدس الذي كنت أتناوله في شغف ونهم في المطعم الصغير ببلدة مزغونة بعد انتهاء جهد وجوع يوم من العمل الشاق! إنه أشهى من أيما طعام آخر وخصوصاً حين يتناوله المرء في برد الشتاء القارس!
وسأله إسماعيل سيد أحمد :
- وأين كنت تقضي المساء في مزغونة،.. سيادة الضابط؟
- كنت آوي إلى جراج مسقف بالصفيح،.. ما أشقى حياتي هناك !
- انظر إلى المفارقة : كيف ينام فاروق في رغد القصور على حين يقضي نفر من ضباط جيشه ليلته تحت سقف الصفيح.
وقال السادات وهو يدخن :
- لا أخال أن فاروقاً ينام في رغد، إن المثل الإنجليزي يقول :"قلقاً ينام الرأس الذي يحمل التاج !".
وساد صمت ظل فيه النيجرو يتفحص صورة السادات العجيبة حتى تساءل في عجب وارتياب :
- هل أنت ضابط حقاً؟
وقال السادات في استنكار وانفعال بينما يزفر الدخان :
- تخرجت في الكلية الحربية قبل أعوام ستة خلت، وقلبي مفعم بقصص البطولة التي أنتظر أن أغير بها وجه التاريخ.. كيف لا أكون ضابطاً؟
وانتزع السادات إعجاب النيجرو تدريجياً بحديثه عن "أتاتورك" وجمعه شتات الدولة التركية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وعن "محمد درويش زهران" وثباته يوم إعدامه في دنشواي، وكذا عن "أدهم الشرقاوي" وقيامه بعمليات المقاومة ضد الإنجليز والإقطاعيين، إنها نماذج ثلاثة خلبت لب الفتوة الذي بدا أنه يتعرف على عوالم جديدة عليه كل الجدة، فأشرق بسببها صدره بصفحات البطولة التي عدّ الرجل نفسه - عدلاً أو ظلماً - حلقة من حلقاتها الممتدة، وتحرك وعيه الوطني بمدد من التجارب التي بثت فيه نشوة المرءوة والشهامة وأهابت به مشاعر المجد والخلود، وسأله النيجرو :
- هل بمقدوري أن أكون كأدهم الشرقاوي؟
وأجابه السادات مبتسماً :
- ستكون كذلك إذا أنت سخرت قوتك في خدمة الأهالي، ثم ترفعت عن الجور والأذى.
وانصرف السادات للصلاة والنوم فسأل إسماعيل سيد أحمد محدثه (النيجرو) :
- وكيف حال الفتاة (يريد صابرين)؟
وقال النيجرو مغلوب الفؤاد :
- آه.. أضعت الأمر بحماقتي،.. كالدب الذي قتل صاحبه ! أردت أن أبدأ فصلاً من التودد إلى عائلة الفتاة فبعثت بقفتين من السكر والزيت، وعهدت إلى الجعب بالأمر، ولكن الإنجليز، قاتلهم الله، سجنوا الأب. (والتفت إلى الحصان الضخم يقول..) من أسف أن الحصان بات يعاني المغص، وقد ضاعف هذا من أسباب الأسى التي حلت بي، الويل لفاكهة الإنجليز التي أسرف النونو في تقديمها له، إليها يعزى هذا المرض الذي نزل بالجواد، ولا أستبعد أن تكون عاطبة أو مسمومة !
وقال إسماعيل سيد أحمد في تندر :
- حتى الحصان يعاف أن يأكل فاكهة المستجبرين،.. الناس يقولون بأن ضابطاً إنجليزياً توسط للأب وسوف يخرج قريباً من محبسه، لمَ لا تكون في استقباله ؟!
وقال النيجرو :
- لا أخال أن هذا حسن،.. سيقول قائل منهم بأن قاتل المقتول جاء للسير في جنازته !
وقال إسماعيل سيد أحمد :
- لقد جنبت الفتاة زيجة تكرهها ووضعت روحك على كف عفريت،.. لا ريب أنها تثمن هذا !
وتساءل النيجرو ثم أجاب عن سؤاله دون انتظار :
- وهل للفتاة إرادة مستقلة عن إرادة أهليها؟ تنشأ النساء في المملكة المصرية على الطاعة منذ نعومة أظافرهن.
وتأمل إسماعيل سيد أحمد ملياً في موقع وهيئة محدثه وكان النيجرو حاني الظهر وقد خاض في بيئة الحظيرة الملحقة ببناء الفيلا بقدميه، يحاول أن يطعم الحصان بغير استجابة منه، وسأله :
- ولمَ لا تتقدم بنفسك كي تطلب يدها على سنة الله ورسوله؟!
وقال النيجرو وقد شاع في نفسه العجب المقرون بالاستهجان :
- سيكون هذا عبثاً خالصاً،.. ينشأ نفر من الناس على جانب الحياة السعيدة يرونها دون معايشة أو تجربة، وأزعم أنني واحد من أولاء.
وقال إسماعيل سيد أحمد منكراً عليه سلبيته :
- ولسوف تحرقك نيران الجوى إذا أنت رأيتها في معية رجل آخر، فالسبق السبق.
وقال النيجرو وهو يمسح على رأس الحصان الذي بدأ يأكل لماماً من العلف :
- فلترفق بي،.. إنني أمسك نفسي عن ذاك المدعو هشام عزمي إمساكاً، وأخشى أنني إذا أطعت غرائزي قتلته وورثت الفتاة ألماً أبدياً.
وقال إسماعيل سيد أحمد مدهوشاً :
- إن حبيبها لص كما يشيع عنه الناس.. ولا أفهم لمَ تؤثر الصبية الحسناء لصاً على فتوة إلا أن يكون سوء التقدير قد أعماها عن سبيل الرشاد؟
وعلا صهيل الحصان كأنما برء من مغصه وانتشى الفتوة بعبارة محدثه فساوره زهو أسلمه لحماسة، وعاد يتأهب لمغامرة ليلية بقفزته البارعة على صهوة الجواد المعافى، فسأله إسماعيل سيد أحمد متلهفاً وقد راعه ما رأى:
- إلى أين؟ إن ظلام ليلات الحرب أشد حلوكاً من غيره، تشيع فيه المكائد والأحابيل، فالحذر الحذر.
وانطلق النيجرو راكباً دابته الحرون وقال وهو يخترق عتمة الدياجي فلا يسمع منه إلا صوت :
- إلى بيت الفتاة نفسه،.. وما أنجع الحل الرأسي إذا عدمت الحلول !
كانت عيون الحي الشعبي (كرموز) هواجع حين شق النيجرو سبيله إلى بيت بهاء الدين، وبلغ وجهته مسترشداً بسناء القمر الذي طبع صورته الباهية على سماء فقيرة النجوم، فجعل - بعد ترجله - يرمي نافذة الفتاة حيث الدور الثالث بحصوات الأرض، وأنهكه الرمي حيناً فجعل يلتقط أنفاسه، وساورته السؤلات بلا أجوبة غير أن الظلمة الخالية من البشر استوعبت غضبته، أَيَّانَ تتجاهله الفتاة ويزدريه الناس؟ وقد حارب لأجل الأهالي معركة ضد الأذى المسلط عليهم تماماً كأدهم الشرقاوي الذي سمع عنه من الضابط المصري.. فأين هو من الأخير؟ ولمَ لا ينتزع عين الاعتراف إذا دفع ويدفع الأثمان نفسها؟ وهنالك يقظت صابرين من منامها - مثلما يقظ نفر من أهل الحارة الذين راحوا يطلون برؤوسهم من النوافذ - فجعلت الفتاة تستشرف ما يدور بعينين ناعستين، وسرعان ما ألمَّ بها خوف حين رؤيتها شبحاً رابضاً إلى جوار حيوان ما أشبهه في وعيها المشوش بالحصان،.. وأغلقت النافذة وهرعت إلى سريرها كأنما أبصرت بالشارع ما يخيفها، وباتت تلعن الظروف التي زينت صورتها في عيون الفتوات ومن قبلهم الموالين للإنجليز، ثم حببت إليهم التقرب منها، وماذا لو أنها - كهدى - حريصة على هيئتها تواقة إلى التزين؟ وألا تكون صورتها المعتدلة أدعى إلى حياة عادية خالية من العشاق؟.. واقترب من النيجرو شبح آدمي يقول :
- وهل تعتقد أن الحارة عدمت من شيخها كي تتجرأ فتوقظ سكانها في جنح الليالي؟ وكفى بماضيك سبباً لاعتزال الناس وطلب الغفران.
وتساءل النيجرو الذي لم يعِ صورة محدثه لاستتاب الظلمة بعد أن امتطى حصانه :
- ومن يكون المتحدث؟
وقال عيسى معتزاً بصوت شائخ رخيم :
- إن اسمي عيسى العطار، وقد عُرفت بين الناس شيخاً للحارة !
- من الأجدر أن تلقن ابنك (فتحي) شيم الجسارة قبل أن تتحدث عن الأصول!
وقال عيسى وهو يأخذ ينصرف :
- وسوف أعد مقالتك هذراً لم أسمعه، وإذا طلعت الشمس والحال لم يتغير فسوف تُبلغ نقطة الطوبجية بالأمر.
- وهل يخشى الجائع الجوع؟ وقد وعيت نفسي طريداً للعدالة منذ أبصرت النور.
وأعاد النيجرو الكرة فعاد يرمي النافذة بالحصوات من موقعه فوق الحصان، وتقدمت الساع وأغلقت النوافذ وأطلت نسائم الفجر فاستسلم الفتوة للنوم والرجل لا يزال على هيئة الممتطي !