ثارت ثائرة بهاء الدين حين سماعه للخبر، أضرمت في بواطنه المشغولة بأحوال الشأن العام نيران الخاص فأنسته ما كان من أمر الملك ومجلس الأمة والإنجليز، صحيح أن الرجل قبل على مضض بعمل نجله الأصغر في المقهى الشعبي، وقد أبدى تحفظاً على فقرة الضابط الإنجليزي، وأغفل ناظريه عن مرات تسلل أعقبت فرمانه هذا، ثم أرخى عزمه على منعه من مواصلة الإضحاك.. ولكن.. حقاً؟ زواج مباغت؟ وبمن؟ راقصة؟! ومغنية رديئة؟ وإذا رضى بهشام عزمي زوجاً بصغرى بناته صابرين على ضعف مورده، وبساطة وظيفته،.. فكيف عساه أن يبارك زيجة لابنه بصاحبة الوظيفة التي يليق أن تجر عليه أسباب الخزي؟ هكذا انبثقت الخواطر من صندوق الغضب.. قال مدهوشاً :
- وكيف وقع هذا دون علم مني؟!
وقال يوسف :
- لقد أسكرتنا، أنا وعفاف، سعادة عابرة، والحق، الحق أقول لك إننا كنا نتجول في ليل حالك كل الحلوك - كأنه الصريم - في أحياء المدينة، وقد جمعت بيننا أسباب وفاق بعد خصام فانتشينا بالحادث انتشاءً لم نحسب عواقبه، ورأينا أن خير البر ما يعجل به،.. (ثم وهو يلتفت إلى صابرين كأنما ينشدها أن تخفف من عليه عبئاً..) ألم تتزوجي أنت أيضاً؟ وغداً تلحق هدى باثنينا !
ونهض بهاء الدين، فقال وهو يتقدم خطوتين إلى موقع الفتى :
- ولا مبيت لك هنا إلا حين تعود تصحح ما أخطأت فيه !
وقال يوسف في صوت واهن :
- ولكن يا أبت..
ولم تجدِ محاولته فتيلاً ذلك أن شيئاً من الاستعطاف لم يغير معالم الوجه الصارم، يعود يجلس بهاء الدين وسط ابنتيه وقد أنهكه الحوار المشحون فيسود الوجوم وتفتر الشفاه وتهبط الجباه وتطرق العيون، ويشعل الأب سجائره من نوع "ملك مصر" الفاخرة بعد طول امتناع،.. تسارع فاطمة إلى شرفة تطل منها على حركة نجلها رغم الدياجي التي تحجب الوضوح عن بصرها، تحدق وتحقق فتراه على أضواء السيارات الباهتة يقترب أكثر من عفاف - التي تنتظره - فيمتلأ قلب المرأة بالحسرات، تعود إلى بهاء الدين فتقول له :
- ما أقسى فؤادك وما أتعس قرارك ! تركته يمضي وحيداً في ليلة كتلك؟
ورمى بعود ثقاب فأخطأ السلة، يقول :
- ما أتفهه من شاب ! وقد أحسن الاختيار حين عمل مونولجستاً !
يقبل بهاء الدين تحت ضغط زوجه الغضوب أن يرسل بهدى كي تتبع حركة الشاب، وتنقضي نصف ساعة فتعود الفتاة تقول كالمنهكة :
- وقد انتهى سعيهما في بيت بالبياصة، إنه حي يقطنه العوالم، يبدو أن يوسف سيبيت في بيت الراقصة..
وساد لون من الهدوء حين علمت الأسرة بموقع المنصرف، ولكن بهاء الدين ما فتِئ يقول كالذي يشعل النيران فيما أوشك على الانطفاء :
- أخبروني أي مقومات حازها يوسف كي يصير رباً لأسرة؟
وقالت فاطمة :
- كان يجب أن تستوعب جموحه.. وهل يلفظ العاقل شيئاً له؟
وذكرت المثل : "إن كبر ابنك خاوه.."، قال الرجل :
- تمتلكين قلباً مرهفاً لا يصلح لأن يقيم شيئاً أو أن يرد عوجاً !
وقالت فاطمة وقد أحست ألماً متجدداً يساورها عند مفصل الركبة :
- أنسيت رغبتك في أن تزوج صابرين بمن لا تحب؟ يحب الرجال التسلط على غيرهم فإذا لم يجدوا سبباً أفسدوا الأمور.
وتدخلت صابرين على استحياء فقالت :
- كان هذا من الماضي، وقد أثبت أبي رجاحة رأيه في مواضع أُخر !
وقالت فاطمة :
- هل أبدو غريبة بينكم إلى حد أنكم تتكاتفون على تسفيه رأيي؟
وقالت هدى، في صوت عالٍ، كأنما تلوذ بخلاص من طريق انفعال ممسرح :
- إنه الشيطان أوقع بيننا في ساعة تعسة !
وانعكست الحالة المرتبكة على حالة فاطمة الصحية فجعل الألم يستدعي حضوره في جسدها، كان يوسف بمثابة حدقة العين التي فقدتها، وسألت زوجها وهي تأخذ تستريح :
- ولمَ لا تزوره غداً في حي البياصة؟
- تريدين من عضو مجلس أمة أن يزور حياً للراقصات فيدلف إلى بيت واحدة منهن كي يهنئ ابناً عاصياً بما لا يستحق تهنئة؟
- وما المانع؟ ثم ألم نزل نقيم هنا بين مثيلاتهن ممن قُدر عليهن في الرزق؟ إن أولئك هم من حملوك على أكتافهم إلى حيث صرت تناطح الملك رأساً برأس..
وهنالك جعلت فاطمة تتأوه فكأنما تركزت الهموم فاستحالت من الصورة المعنوية لها إلى الألم العضوي، وعاد بهاء الدين بدوره إلى صورته الطبيعية الخيرة، يطبب ويداوي، يحمل طست الماء - في لهفة آسرة كمثل لهفة التائبين - ويهبط إلى حيث هاتين الساقين المتألمتين، تعرض عليه صابرين وهدى المعاونة ولكنه يصر على تحمل العناء وحده تكفيراً عن الجرم الذي اقترفه بنفسه، بمغالالته في معاقبة الابن، يتمتم التمتمات ويستعيذ بالله من أولئك الذين لا يراهم ويؤذونه، ويقول :
- تسببت في هذا.. فالويل لي !
تستقر حالة فاطمة سريعاً حين تسمع نكوص الأب عن موقفه المعارض لزواج يوسف، وعدوله عنه.. ويتساءل المتساءلون من المحققين : هل تدب في الأعضاء حياة حين يولد الأمل في دنيا إنسان؟ يقول الرجل :
- إنها زيارة واجب أؤديها في نهار الغد له (يريد يوسف).. (ثم وهو يلتفت إلى سجائر"ملك مصر" التي ما يفتأ يشربها مفرغاً شحنة ضغوط، وإلى هذا التاج الملكي الذي اُتخذ رمزاً لها..) إنها سجائر صادرة بتصريح من خاصة جلالة الملك فاروق،.. (ثم وهو يقرأ ما كتب على الغلاف بصوت جهير..) آيات الخضوع والولاء، إلى سدة العرش المفدي من البستاني، مبتكر السيجارة الفاخرة الممتازة.. أي هزل هذا وأي خبل؟.. إن الرجل وبطانته ليتعمدان إعاقة تطور الديمقراطية بشتى الطرائق كيما تتوطد دعائم سلطاتهما.. كانت أسرته العلوية غريبة عن المصريين منذ جاء جده المقدوني.. فكيف له أن ينحاز إلى حقوقهم؟!
وصمت دون أن يقتحم حديثه أي من النساء الثلاث لعلمهم بعدم انتهائه، وكانت فاطمة - على الخلاف من البنتين - تعارضه في حين ثم تلزم قناعة الصمت في أحيان، وتذكرت الأخيرة شيئاً عن سجائر "بيت الأمة" التي أنتجت في إبان ثورة 1919م، وكيف ظل يوظف السوق الاستهلاكي السياسة - من جهة الملك أو المعارضة - من أجل تحقيق الربح، لقد تذكرت هذ كله دون أن تصرح به.. واستتبع :
- إن المشكل ليس مشكلة الملك وحده، وقد يتفق في بلادنا أن يقول الأمي عن نفسه : إنني سعدي أو وفدي، ولكن وعياً بالاختيار أولى من تظاهر بالمشاركة،.. أخال أننا - والحال هذه - نقترب دون روية من يوم ينفرط فيه الحال انفراطاً مخيفاً.
وكانت هذه المرة الثانية التي يُلمِّح فيها الأب المكلوم لاحتمال وقوع حريق أو ثورة أو ما شابه، وأما حديثه الأخير فنوبة هجوم جديدة على الملك بعد هدنة الأيام الماضية.. وقالت هدى في تحدي لسلطة الأب، لأول مرة منذ جلوسها :
- لا أخال أن الأمور تمضي على هذا السوء..
وقال بهاء الدين مستمسكاً بغضبه :
- هذا لأنك لا تعرفين من حال البلاد، على طولها وعرضها، إلا حي الإبراهيمية، وبيتاً ينعم بالكفاية في كرموز، ولم تعايشي فقر الصعيد أو حاجة القرى.
وقالت هدى :
- وقد روى لي عبد الغني في رسائله، ثم حين عودته، ما يكفي عن فقر الصعيد..
وقال بهاء الدين :
- ليس من سمع كمن رأى.. إن الناس في حيّنا (حي كرموز) ليطلبون مني من الخدمات ما أعجز عن الوفاء به، إن هذا ليضنيني كل الضناء، ويتعسني تعاسة عظيمة،.. وحتى لقد يبدو لي أشد الناس حزناً بالقياس إليَّ رجلاً سعيداً.
وقالت صابرين وقد لاحظت ما خلقه حديث الأب من حالة وجوم :
- أخال أن أمنا بحاجة إلى سماع الأخبار السارة ! ولدي واحدة..
وتكشف صابرين عن حقيقة الطفل الثاني الذي ينتظر المجيء إلى الوجود، تشير إلى أعراض انتابتها كالغثيان ونحوه.. تستبشر الوجوه المكفهرة، وتغشى النفوس حيوية، وتزول ظواهر الاعتلال، وتقول فاطمة بعد أن تقبلها (صابرين):
- سيكون ولداً هذه المرة..
تجيء هدى للمنتشيين بصحون فيها فاكهة التين، تقول في تجرد :
- مبارك للأخت العزيزة !
ويفتح النبأ السعيد شهية الأم فتقول لهدى :
- ما بال عبد الغني يستأخر زواجه بك؟ أما آن له أن يكف عن التذرع؟
وقالت هدى في خجل :
- سوف أقنعه بأن يعجل بالأمر المنتظر.. منذ عاد من أسيوط والرجل في شغل، وقد أَوكلت إليه مسؤلية الحانوتين بعمل مضاعف.
وقال بهاء الدين في سخرية :
- إن عليه أن يتعلم من يوسف عجلة اتخاذ القرار !
وعمت ضحكات خرقت حجاب الجلسة المتقلبة أحوالها، بين المناخ القاهر والسمر اللطيف، وذكر بهاء الدين شيئاً عن اشتياقه إلى زمان العمل بالأخشاب، ثم عاد يتساءل : كيف يهفو المرء إلى ما كان يبغضه في الماضي ويمقته كل المقت ثم ينتظر فرصة اعتزاله على أحر من جمر؟ ولكنه أجاب عن سؤال نفسه في غير انتظار لمجيب : لأنه وجد في حاضره شر ما كان في ماضيه فحببه إليه.. يتذكر عمله الثاني بالرقابة على المصنفات الفنية فينتابه شوق من نوع آخر، إن أشد الوظائف عناءً تبدو فسحة قياساً إلى شواغل العمل النيابي،.. وعاد يقول كالذي يرمي بحجر في بركة راكدة بعض ركود :
- إنهم يتحدثون في مجلس الأمة عن احتمال وقوع حرب قادمة.. في فلسطين !
وتساءلت هدى التي كانت لا تعرف من أحوال السياسة إلا قشوراً :
- وهل ستكون بلادنا طرفاً فاعلاً فيها؟
وأجاب :
- أجل، ستشارك في الحرب - إن وقعت - بالقسط الأوفر من الجنود! يبدو أن الملك سيعمد إلى مخالفة الإنجليز وتحمل العواقب ! إنه - وكما تنطق الشواهد - يطمع في التغلب على منافسه الملك عبد الله في زعامة العرب من خلال اتخاذ هذا السبيل !
وتساءلت هدى :
- وأنّى لمصر أن تتخذ قراراً مستقلاً عن إنجلترا في هذا الشأن أو في غيره؟
- إن هذا السؤال يتكفل الغيب بالجواب عنه ! ومهما يكن من أمر،.. فمنذ متى كانت تمضي الأمور في بلادنا على منوال مفهوم أو متناسق؟
وقالت صابرين :
- وقد كنا نحسب أن حرباً كبرى - كالتي وقعت طوال الأعوام الستة ووضعت أوزارها منذ قريب - ستكون آخر الحروب،.. ومنتهى الشدائد والتباريح !
وقال في حكمة :
- يبدو أن لكل زلزال عظيم توابعاً أخف وطأة، وذيولاً أبعد وأطول عمراً..
وتساءلت هدى :
- ولمن ستكون الغلبة؟
- لمن يزيد عدداً وعتاداً، إن بلداً محتلاً يعسر عليه أن ينتصر في حرب خارجية، لأن قراره الوطني مسلوب منتهب، فما بالكن إذا هو على حالتنا هذه ؟!
وهنالك سمع الجالسون رجلاً يطوف الشارع يقول :
- "توفي إلى رحمة الله تعالى شيخ الحارة، عيسى العطار، العزاء بمسجد سلطان..".
وتذكر الجلوس ما كان من أمر الرجل وابنه، ونهض بهاء الدين إلى حيث الشرفة - ومن ثمة تبعه البنتان اللتان سبقانه إلى هناك رغم نهوضهما بعده - يقول بينما يلفح الهواء البارد وجهه :
- فلينظر بم سينفعه مداهنة الإنجليز في قبره !
ونهضت فاطمة أخيراً كي تسمع إلى هذا الذي يجول الحارات مردداً الخبر كأنما قد برأت من هذا الألم الطارئ الذي ألم بها، وقالت لزوجها :
- حنانيك ! وقد كانت له في حانوته أعشاب تخفف وطأة الألم !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
كان هشام عزمي يتجهز في بيته لموعد استقبال الملك فاروق بقلب مترقب يغمره الوجل، لقد استيقظ قبل أوانه بساعتين حتى بدا منافساً لطيور الصبيحة في نشاطها النهاري، واستعار بذلة عمه العتيقة، وحظي إلى الأمرين الآنفين - بالاستحمام والفطور خلافاً لما درجت عليه نفسه المتعجلة في أيامه الأُخر، وإذ هو يستعمل في حمامه صابون الزيتون النابلسي بزيت الغار التركى والجلسرين فلعدم قناعته بجودة ما تنتجه مصبنته منه، وكان يأتيه صوت الخواجة رجب مصحوباً بتفاصيل المكيدة كالشرر :" فشلت محاولة عائلة الجرار، وصودرت المصبنة، واليوم لدينا فرصة لمحاولة ناجعة مع سليل العائلة العلوية عينها!"، وأضمر الرجل شيئاً حين نظر إلى مرآة الحمام التي تشوبها الأبخرة فرأى صورة نفسه كالنائم حين يرى نفسه في منام مشوش، ، وأنهى استعداده للقاء الملك وكاد يهبط إلى المصبنة لولا أن أتاه هاجس يقول : "فلتقصد إلى حجرة مريم علها تطلب شيئاً من الخارج.."، ولبى الرجل نداء باطنه فدلف إلى حجرة الغربال والخزانة والألعاب، وانحنى إلى حيث لثم خدي الطفلة، وكانت محبته لمريم محبة لا تخلو من نرجسية إكبار لكل ما ينتسب إليه، ثم جعل يسألها :
- هلا تريدين شيئاً من الخارج،.. زهرة الكرز؟
وكان يتفق له أن يناديها بأسماء الزهور ترققاً،.. وأجابت بعد أن التفتت إلى صندوق الحلويات الملآن إلى جوار الخزانة :
- كلا..
وكاد ينصرف لولا أن سمع صوتها يقول :
- ولكن.. هلا أمكنك أن تحملني إلى ما فوق الخزانة !
وانتابه عجب من نوع خاص، وقال :
- إن هذا خطر جداً، وغير ممكن،.. ولتشحذي خيالك في أيما شيء عدا هذا..
وقالت :
- إنها محض فكرة تساورني،.. وقد قام بها الرجل القوي !
ودار بين الأب وابنته حوار اشتمل على محاولة استخراج الحقائق وسط سرد طفولي، الأمر الذي أورث هشام عزمي قناعة نهائية لم يجد وقتاً كيما يعبر عنها لذات الشأن (صابرين)، وهرع إلى المصبنة حين تأكد له تأخره عن الميعاد الذي كان قد تجهز له، ورأى الخواجة رجب واقفاً ينتظر مقدم الملك لدى المكتب، قريباً بعض القرب من قِدرة الصابون المغلي، أداة جريمته المبتكرة، واقترب من الخواجة رجب الذي كان يرفل في سترة إنجليزية فاخرة من طراز Burberry فقال له الرجل متطوعاً، ومعللاً :
- "إنها ممنوحة من السفارة البريطانية !".
وأبدى السامع تهكماً حين قال :
- "وكأن اقتراف جريمة يحتاج إلى سترة فاخرة !".
وقال الخواجة :
- اخفض صوتك.. ألم تر إلى رجال الأمن وقد جعلوا ينتشرون، هنا وهناك، كالطاعون استعداداً لمقدم صاحب الجلالة؟
واقترب هشام عزمي أكثر من صاحب السترة متظاهراً بمعاينتها وتفحصها، وقال حين وقفته وراء الخواجة :
- "هلا أمكنني فضلاً أن اختبر الجيوب ؟!".
وأجابه الخواجة على مضض إلى مطلبه الغريب بعد أن حدجه بنظرة ارتياب فوضع يديه في مجرى الجيبين، وهناك أحكم عليه الخناق وحمله حملاً إلى حجرة داخلية من حجرات المصبنة، وربط فمه بقطعة من القماش، ثم أوصد الباب، وجعل الخواجة يصرخ صراخاً محبوساً بينما تهالك الشاب على كرسيه يستمع له :
- "الويل للمصريين ! ثم الويل للمخادعين !".
وتنفس هشام عزمي الصعداء حين أبعد الرجل من تدبير مكيدته، ولم تمضِ إلا دقائق حتى كان واقفاً أمام الملك يقول كالمباغت من الزيارة :
- فلتنظر جلالتك إلى قدرة الصابون المغلي، وإلى الجرادل السبعة، والصابون يصطف في وحدات كالجدار القائم، وإلى سير العمل هنا، إن حانوتاً كهذا لمدين إلى عطفك الشامل على مملكتنا مرتين، الأولى بموارده، والثانية لزيارتك المفاجئة له..
وكان فاروق يجيبه :
- شكراً،.. وهل ثمة من يعينك على أمر العمل هنا؟
- إنه خواجة إنجليزي وقد غيبه النوم عن المجيء !
وهنا التفت فاروق إلى معاونيه، فقال :
- انظروا كيف يفوق المصريون الإنجليز همة ودأباً في أحوال، ولكنها عقدة الخواجة تمسك بتلابيب عقولنا فتصيرنا إلى ما نحن عليه !
وسرت بالمصبنة همهمات موافقة متواترة :"إن هذا حق.."، وتساءل فاروق في تطلع :
- وما عساه أن يوجد وراء الحجرة الموصدة؟
ويجيب الشاب في لغة جسد متوترة :
- لا شيء مهم،.. جلالتك !
تنقضي الزيارة على خير ما يرام فَيُطلِق هشام عزمي صراح الخواجة رجب، يغمغم الخواجة بإنجليزية غير مفهومة - بالنسبة إلى الشاب - عن حماقة من يهدرون الفرص، وعن القوة : أسلم الطرق كي تسوس عقلية كعقلية رعاع الشعب، ثم يشكو زمانه ويودع معطفه ويلوذ بالصمت على مكتبه مسلماً وجهه الملآن ليديه،.. يعود هشام عزمي إلى بيته،.. إنه جالس، على مائدة طعام العشاء، ولا يأكل، تسأله صابرين - التي تحمل مريم على ساقيها وتطعمها الغذاء في جرعات ملاعق صغيرة تناسب الفم الصغير - عما هنالك،.. يروي لها قصة الجريمة التي لم تحدث فتثني المرأة على حسن تصرفه بعد أن تأخذها سكرة الانفعال لسرديته، يقول كالذي يتذكر شيئاً وهو يغرس ملعقته في إناء الطعام :
- هل حقاً سمحتِ للفتوة بأن يبيت ليلة في خزانة البيت؟
تضطرب صابرين كل اضطراب، يطرق الرجل على الطاولة بيديه في جموح حين يعد صمتها مصداقاً للإقرار بسؤال حائر حتى تهتز الصحون وتفزع مريم، وتقول صابرين مستجمعة قواها :
- أتاني مستغيثاً من ضباط الشون، ظننت أن بمقدوره أن يرعوي عن غيه القديم إذا ما وجد يداً تساعده !
ويقول هشام عزمي تغشاه أشباح الغضب :
- وهل أحلنا بيتنا إلى سبيل؟
تحمل صابرين مريم إلى حجرتها كي تحجب عنها وقائع الخلاف بين أبويها، لقد تسببت الصغيرة بسذاجة في كل ما جرى ولكن لا يجب أن تكون في مرمى النيران، تقول صابرين حين تخلو لها الساحة :
- فلتحفظ للرجل جميله،.. ولولاه لكنت (تريد نفسها) الساعة زوجاً لفتحي العطار !
- بربك.. وهل كان يروم الأحمق أن يساعدني؟ لقد أرادكِ زوجاً له.. وكاد يفسد عرسنا مثلما أفسد العرس الأول.
يترامى أطراف الشجار الدائر حتى يبلغ أسماع بهاء الدين الذي يقيم في عين العقار، يهرع الرجل إلى بيت المتخاصمين كي يفصل في الخلاف الدائر، يسمع للقصة فيميل إلى أن ينحي باللائمة على صابرين ولكنه يعتب على هشام عزمي فرط انفعاله، وتردد صابرين :"وأعجب شيء أنه يعتقد في أن شيئاً بيني وبين الفتوة.."، يردد الشاب :
- طفح الكيل..
ويهبط إلى الشارع، تستقر خطاه الغاضبة لدى مقهى الفنانين، يدلف إلى حيث يثمل وتغشاه الأنوار وتسره الموسيقات والعروض، تخالطه أحلام مملوءة بالطيش والجنون، يرى في كل امرأة من جاليات الأوربيات احتمالاً ممكناً، حتى طاولات الخيزران والأبنوس تمنحه إحساساً بالاستئناس.. يعود إلى البيت فتبدي صابرين الاعتذار عما وقع، تقول :
- لابد أن ما جرى اليوم من لقاء الملك قد ألهب أعصابك.. حتام تركب رأسك؟!
يقبل الرجل الاعتذار وينام مبتسم الشفتين على أمل العودة إلى سهرة جديدة، تغمغم المرأة : "أصاب المثل : إن نوم الظالم عبادة.. كان الزواج خطأً من البدء وحتى المحصّلة.."، وتقصد إلى حجرة مريم فتقول :
- لابد أن تُعاقبي، أجل.. لقد أشعلت فتيل فتنة في البيت لا يعلم أحد مداها..
وتقول مريم في براءة مغلفة بالصدق، فتصيب حكمة ما دون عمد :
- أردت الوجود هناك (تشير إلى ما فوق الخزانة)،.. ولم أرد إشعال الفتن!
تفاضل صابرين بين صور العقاب لكن عاطفة الأمومة تطغى على العقل المشحون بالانفعال فتقوض الفعل، وترده إلى لا شيء، تدير صابرين الراديو لتذاع نذر أنباء الحرب القادمة، تتساءل مريم :
- وإذا كانت الأرض للبشر، فلمَ يتقاتلون عليها؟
وتقول صابرين :
- هلا تعلمت شيئاً من درس اليوم؟ فلتلزمي الصمت حين يتعلق الأمر بما لا تعرفين..
تصر مريم على أن تعرف الجواب لكن محاولتها تبوء بالفشل فتفتر همتها سريعاً، يتلقفها الخيال فتتصور صندوق الحلويات سفينة فضاء، ثم تتظاهر بأن دمية من الدمى طفلة لها، وتثور الشفقة في نفس الأم فتجيب على السؤال المعلق بغير جواب :
- يحدث الصراع بين البشر حين يظن طرف أن آخر قد تعدى على ملكيته أو مساحته.
وتتساءل الطفلة :
- ولمَ لا يتدخل الله كي يمنع الحروب والأرزاء إذا الدنيا كلها تدور في فلكه وبين يديه؟
وتدرك صابرين أن الطفلة المشاكسة تجتاز خطاً لا يصح تجاوزه، على أنها سرعان ما تلجم نفسها عن العقاب، إنها لتزدري أساليب التربية التقليدية وتسمو بالتوجيه إلى ألطف صوره،.. يردد المذيع : "الانتداب البريطاني على فلسطين.." ثم "قرار الأمم المتحدة رقم 181 بالتقسيم.."، فتتساءل مريم عن ماهية الانتداب والأمم المتحدة، وهل يشبه بريطانيو فلسطين ضباطاً تراهم في الشوارع؟ وتفصح عن خوفها من رؤية الجنود الإنجليز فتقول صابرين في سرها :
- ومن ذا لا يخاف رؤيتهم؟!
ثم تعود تقلد الصغيرة الملك فاروق فتمد يدها أمام بطنها وهي تقول :"إنه سمين إلى هذا الحد.." فتبتسم الأم، وتتمادى الطفلة في فنون العناد المتعمد حتى تورث صابرين تبرماً، تتساءل مريم عن يوم تزور فيه شاطئاً لتبني قلعة الرمال التي تقف في وجه الموج، لقد سمعت خالتها هدى تقول أسماءً كمثل كامب شيزار، وسبورتنج وستانلي فما كان إلا أن تعلقت بما سمعت تعلقاً شحذ خيالها الخصيب، وتقول لصابرين :
- إننا في مدينة تطل على البحر ولكننا لا نزوره !
- يتطلب الأمر قبول أبيك !
- إنه مسارع إلى التبرم !
- ويحك.. هل تصفين أباك بهذا؟
وتهدأ المرأة قليلاً فتنتقل من دور الأمومة إلى الزوج لترى حقيقة أن الطفلة لم تفترِ على الرجل بالكذب، ولا هي أدعت ما ليس فيه، وتقول وهي تهمس في أذنها كالتي تسر إليها بما لا يجب سماعه :
- وسوف نقوم بهذا سوياً إذا هو أبدى اعتراضاً !
وتعود تقول مريم في صخب المتحمسين :
- سوف أبني قلعتي بهذا الارتفاع أو يزيد (تشير إلى الخزانة) حتى إذا جاءها الموج عجز تياره عن هدم جدرانها وعمدانها !
وتنام الطفلة منهكة بعد أن تبدي رغبتها في امتلاك سرير أكبر يناسب حجمها الذي ينمو سريعاً كنبت اللبلاب،.. على حين تتذكر الأم شعراً للمازني يقول :
رعى الله أيام الطفولة إنها.. على جهلها أحلى وأهنأ ماليا
ليالي أظن الكون إرثي وأنني.. أعير النجوم الزهر نور بهائيا
وأحسب بطن الأرض واليم والدجى.. مثاوي للجن المخوف خوافيا !
تقولها فلا تلبث أن تنام مستغرقة في الأحلام !