كانت حارات كرموز تتأهب لعهد جديد يعود يتسيد فيه النيجرو ومن معه شأن الفتوة، وحين كان بهاء الدين يرش الماء أمام حانوته رأى على الأرض ظلاً لآدمي أكبر من المعتاد، ورفع ناظريه متسلقاً هاتين الساقين والبطن الممتلئة فألفى إسماعيل الجعب في زي الفتوة مرفوع المنكبين كأنما سربله النصر الأخير عزاً وزهواً، كان الرجل يجر قففاً تناثر منها شيء من السكر وزجاجات الزيت على أديم الأرض، وقد أرهقه هذا الجر - نظراً لسمنته البادية - من أمره عسراً، وقال الأخير وهو يتقدم إلى الحانوت خطوات :
- جئت إليك مبعوثاً من طرف الفتوة النيجرو !
وامتقع وجه بهاء الدين، فقال كالذي يتذكر منغصاً تملك خياله :
- حاشا الَّلهَ منه.. ومن أتباعه !
وقال الجعب في انفعال وهو يشير إلى القفف بطرف هامته :
- إنها هدية،.. إن النبي محمداً سبق وقبل الهدية !
وهبط بهاء الدين إلى مستوى الأرض جاثياً وفتح القفتين، وبدأ يمسك بالسكر في قبضة يديه فلا يلبث أن يتسرب من بينها - كالرمال - والرجل مستغرق الوجدان، وتطلع إلى زجاجات الزيت رانياً، وقال وهو يهم بالصعود كأنما استرد انتباهه مع استقامة بدنه :
- إنها مرفوضة !
وتساءل الجعب بينما يملأ العرق صفحة وجهه :
- ولمَ؟
- إنها مسروقة من مخازن الإنجليز ! بربك.. أتريد مني أن أقتات على فتات موائد الفتوات؟
- وما المشكل في هذا؟ لقد علم الفتوة النيجرو بحاجتكم وأراد لكم مدداً.
وأشار بهاء الدين إلى نفر من أهل الحي جعلوا يجمعون هذا السكر المتناثر من القفة لدى جانب السبيل :
- إن الحاجة، وفي هذه الساعة، تنسحب على أهل كرموز جميعاً، فلمَ يخصنا النيجرو، دون غيرنا، بمدده؟
وهبط الجعب - كالذي تملكه غضب من سؤال محدثه - إلى حيث أقفل القفتين، وقال وهو يأخذ يقبض على طرفيهما :
- وما أدراني؟
وكاد الجعب يمضي بالقفتين منصرفاً لولا أن اعترضته صابرين التي كانت تتسمع حديث الرجلين - وكانت في سبيلها الصباحي إلى الجامعة - فقالت له :
- فلتبقِ على القفتين،.. إنها هدية محمودة !
واستدار الجعب إلى حيث يقف بهاء الدين فقال :
- فليتعلم الأب من ابنته سماحة القبول !
وبدا الذهول على وجه بهاء الدين، فقالت الفتاة له بينما ترقب رحيل الجعب عنهما :
- سوف نقبل بها اليوم لحاجتنا إليها، ونرفضها غداً حين تعود تتحسن أوضاعنا.
وقال بهاء الدين كالذي ينكر عليها منطقها هذا :
- إنه (النيجرو) يريد أن يستميلنا إليه فيمحو إرادتنا بقفتين من السكر والزيت، فما أتعس غوايته ! وغداً يقول الناس بأن بهاء الدين يتسول من الصعاليك لقمة نهاره،.. ألا تدرين أن النيجرو يضمر لك حباً؟ لقد صرح لك بهذا فوق حصانه المخيف وأفسد لأجل هذا عرساً.. إنه يمد إليك آمال أشواقه التعيسة في صورة السكر والزيت كيما تلين نفسك وترضخ،.. ولو تم له مراده هذا فسيكون زواج الذئب بزهرة جميلة، فانظري إلى مواضع قدميك على السبيل إذا هو بلا عودة - انظري إليها أين تخطو ! أخبريني لأي سبب جمعت بين عملين إلا لأجنبكم (يريد أبناءه) مصيراً كهذا؟ إن اليد العليا في دنيانا خير من هاته السفلى !
وقالت صابرين على عجلة فما تلبث تهرع إلى محاضرتها الصباحية حين تتنبه لتأخرها :
- رويدك ! رويدك ! إنها مرة أولى وأخيرة !
وقصدت صابرين إلى الجامعة بقدمين خفيفتين وقد أورثها فشل عرسها إلى فتحي العطار تحرراً من نوع ما، كان يحدث أن يراها نفر من أهل كرموز فيبدأون في استعادة ما كان من شأن ليلة الزفاف وتدخل الإنجليز لفرض الأمن ثم تنتقل بهم النجوى إلى هاته الأرواح التي أزهقت وهذه النفوس التي ارتعدت، كأنما الفتاة في نظرهم شرر يوقد في وعيهم جذوة السرد والحكاية،.. وأما الفتاة فكانت تمضي على حال من السرور والتحرر لا تزيغ عنه ولا تحيد، وحتى لقد خالت المتحدثين كالظلال أو كالأشباح من فرط استسلامها لحالتها غير المبالية هذه، فتغني لأسمهان :" يا طيور غني حبي وأنشدي وأجدي وآمالي.. للي جنبي واللي شايف ما جرالي.."، فيزداد من يسمعها عجباً ودهشاً، وتمضي تقول :" غنت الأطيار من فوق الأشجار أعذب الأشعار، مالت الأغصان من هنا الألحان والفؤاد ولهان,.."، ولا تزال حتى فارقت نطاق حيها الشعبي وبلغت كلية الآداب، وأتمت يومها - وكانت شاردة الذهن - في مستقبل لا يلوح منه إلا ظلال تشير ولا تجزم، وإرهاصات تنذر ولا تقطع، وأطالت التفكير في كل ثني من أثناء يوم الزفاف برؤية المراجعة، ولأول مرة ترى في هشام عزمي رجلاً خائر العزم، هزيل الإرادة.. إنه كذلك قياساً إلى النيجرو الذي تحدى الموت في ليلة انتشالها من الزيجة التعسة ! وعادت تتساءل : ولمَ يتهمه (هشام عزمي) الخواجة بسرقة الصابون إلا أن يكون في الأمر شيء؟ وقد كان ينتظر فرصة ترحيل الخواجة إلى بريطانيا بعد هزيمة بلاده في الحرب كي يحوز مصبنة ليست له، وقد حدثني يوماً عن إنسانية لا تعرف إلا لغة المصلحة والمنفعة، والحب النبيل كالذهب النقي لا تزيده النيران إلا وهجاً،.. هكذا تداعت الفكر في رأسها.. وعادت إلى البيت تقول حين دخولها :
- أريد أن أجرب الشاي بملعقتين من السكر لأول مرة منذ عامين! آه.. ما أشد تلهفي إلى مذاقه الحلو !
واقتربت من يوسف - وكان على حال من الوجوم غريب - تقول وهي تلحظ آثار كدمة تحت عينيه :
- ماذا دهاك؟ (ثم وهي تلتفت إلى أختها وأمها..) ألم يطلعكم أبي على هاته القفف الحاوية على السكر والزيت؟ لقد قبلها اليوم على مضض..
وقالت فاطمة في تحفظ من يصارح إنسان بأمر يحزنه :
- لقد قبضت شرطة الإنجليز على بهاء الدين بسبب القفتين نهار اليوم !
وأسقط في يدها، فقالت بينما يخفق قلبها بالنبض :
- وكيف يحدث هذا؟
وأجابها يوسف :
- كانت القفتان مسروقتين من شونهم وقد تتبعوا (الإنجليز) مسارها فألحقوا بكل من شارك في تهريبها وأمسكوا به عقاباً، وقد حاولت اعتراض الضباط الإنجليز حين جاءوا ليقبضوا على أبي، وقد أصبت بجرح غائر هنا من جراء لكمة تلقيتها منهم،.. الأوغاد ! (يشير إلى ما تحت عينيه!).
وحارت الأسرة في تعويض المورد المفقود بعد حبس بهاء الدين في سجون الإنجليز، وجلست صابرين على الأريكة الخشبية تقول بينما تخلع أساورها الذهبية :
- مسكين أبي ! إن الذنب ذنبي وحدي ! هاك أساور الذهب أعوض بها عن بعض خطيئتي!
وكانت السيدات وقتئذٍ يحفظن قيمة إدخارهن في صورة الذهب لا في ودائع البنوك، وقالت فاطمة وهي تعيد إليها الأساور :
- فلتهدئي من روعك ! وسوف يخرج الغائب من محبسه عاجلاً أم آجلاً (ثم في حزن) كان على بهاء الدين أن يعتبر من درس الماضي،.. إنها ليست المرة الأولى التي يقبض فيها عليه بسبب تعامله مع الفتوات، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين !
وعادت صابرين تقول :
- مسكين أبي ! والذنب ذنبي وحدي !
وكان يوسف يتأوه من حولها وهو يمسك بخرق مبلل فيدلك به موطن الكدمة المؤلمة، يقول :
- إنها في حجم ثمرة المشمش،.. غير أنها من الألم في نهاية !
وقالت هدى :
- وما العمل إذن؟
وقالت صابرين مدفوعة برغبة في تكفير عن إثم اقترفته :
- لم يعد ثمة في قوس الصبر منزع،.. وسوف نرفع شكوانا إلى الملك فاروق نفسه إذا لزم الأمر !
وقالت فاطمة :
- ما أبعد رجاءك ! وأنى لنا بهذا والرجل أسير قصوره ؟!
وساد صمت قصير علت فيه أصوات بائعي الفول الجوالين، حتى قال يوسف :
- مقهى فاروق !
وبدا الجهل جلياً على الوجوه الثلاثة التي لم تفهم المرام، وأغلق الشاب الستائر والنوافذ وأقام لثلاثتهن عرضاً بالظل على الحائط يتمثل فيه صورة ما يحكيه :
- حدث هذا منذ نحو سنين ستة ! كان موكباً هائلاً هذا الذي أقيم للملك فاروق في صيف العام 1938م بمناسبة تتويجه بالعرش، كان الموكب (وتمثل الموكب بحركة يديه) يسير إلى قصر رأس التين (وهنا جاء يوسف بإناء ذي قبة فتبدى ظله على الحائط كأنه القصر..)، وقد صيرتني الصدف شاهداً على حركته، غير بعيد من مسيره.. وبغتة اعترضت فتاة شقراء ذات ملامح أجنبية تدعى "ماري بيانوتي"، لعلها كانت في مثل عمر هدى أو صابرين، لا أعرف.. اعترضت مسير الموكب، وانطلقت بالقرب من سيارة الملك وحيته فحياها وأمر رجال الأمن بأن يتركوها وشأنها،.. وهنالك تجسرت الفتاة أكثر فدعت فاروقاً أن يحتسي الشاي في المقهى المملوك لها، وكان له اسم يوناني يدعى "كاليميرا"، أي صباح الخير بالعربية، ولبى الملك رغبتها وحتى لقد طلب الشاي والشيشة !
وفتح يوسف الأنوار، فتساءلت صابرين كالتي خاب أملها :
- وكيف يمكن أن يساعدنا هذا فيما نحن فيه؟
وضرب يوسف بيده على جبهته يقول :
- أخ ! نسيت الجزء الأهم، وقد صار الملك فاروق ومنذ يومذاك كثير التردد على المقهى الذي صار له اسم جديد يحمل اسمه (فاروق) ! وإذا وقع لنا رؤيته هناك فسوف نطلب منه التوسط لبهاء الدين.
وتساءلت فاطمة :
- وأنى لنا أن نصل إليه وسط هيلمان حرسه؟
وقال يوسف :
- مثلما نجحت "ماري بيانوتي" في الأمر عينه !
وقصدت صابرين إلى المقهى المقصود فألفت لدى بوابته تاجاً من النحاس منقوشاً عليه اسم فاروق، وعليه استيقنت من صدق مروية أخيها، ودلفت إلى الداخل حيث تطلعت إلى صور الملك التي تملأ أرجاء المقهى فاستوثقت منها أكثر وأكثر، وتعالت الأغنيات بطيئة الإيقاع في مناخ من الهدوء العام، وسألت الفتاة صاحبة المقهى في إنجليزية متوسطة :
- "هلا أمكنني أن أعرف أين يقع الركن الخاص بالملك فاروق؟".
وأشارت المرأة اليونانية إلى الركن الذي طلب فيه الملك الشاي والنارجيلة منذ سنين، ولا يزال يتردد عليه بين آن وآن،.. على حين ألحقت صابرين سؤالها الأول بسؤال آخر :
- "معذرة.. هل أنت قديمة هنا؟".
- "أجل، شيدته (المقهى) منذ عام 1928م!".
-"إن هذا تاريخ قديم حقاً،.. ومتى يجيء الملك؟ وكيف هي طباعه؟".
-"أعذريني، إن هذا سر، يحتاج الملك إلى أوقات خلوة.. إنه امرؤ حنون وكثير الجود.. إن لديه قلب طفل..".
وغادرت صابرين نطاق المقهى في تعاسة كأنها العائدة بخفي حنين، حتى استوقفها النادل بالمقهى لدى منتصف السبيل، يقول :
- مهلاً.. مهلاً.. إني أعرف متى سوف يجي الملك إلى هنا !
وتفجر قلب الفتاة بالأمل، فباتت تتألق الصور في خيالها كالأمنيات المتوهجة، وعلى حافة اليأس تجيء المعجزات وتنبثق الخوارق، وسوف تكفر عن إثم اقترفته فيلتئم شمل متبعثر، ويعود نظام العدالة إلى عمله المحمود.. وسألته وهي تشخص إلى صورته في نجدة :
- حقاً؟ وماذا تريد في مقابل هذا؟
وأجابها النادل في عينين متطلعتين إلى معصمها :
- أسورة من الذهب ! إني أروم واحدة !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
كانت هدى ترش نبت الفل بالماء فتحيي عادة أبيها المحبوس في شيء من رثاء،.. حين سمعت صوتاً بالشارع ينادي :
- رسالة إلى الآنسة هدى !
ووضعت في السبت بضع قروش ثم رمت حبله إلى مستوى المنادي، هذا الذي أودعه - بدوره - رسالة عبد الغني، وصعدت (هدى) به (السبت) وهي تقلب وجوه العواقب فيما يمكن أن تشتمله الأوراق الصاعدة على أسرار الغيب ونجوى المستقبل، وفتحتها وجعلت تقرأ :"عزيزتي هدى.. أعلم أن الأيام الأخيرة التي أعقبت رسالتي الأخيرة إليك حفلت في وعيك بما لا حصر له من المخاوف الطبيعية، ولا ريب أن هذا الشعور انتقل بك وبذويك إلى حافة القنوط.. وإني عظيم الأسف لهذه الحالة التي أورثتها لكِ ولكم مجبراً، وأخشى أن فصول المحن في أبي تيج موصولة وقد صيرتني المقادير، ومن أسف، كاتباً لها.. ومهما يكن.. فقد شهدت الأيام الأخيرة توجهي إلى مكتب الصحة في أسيوط دون عز الدين (الذي لزم لمرضه فراش البيت)، ومن حسن الطالع أنني وجدت هناك طبيباً، لطيف المعشر، حسن الخليقة، اسمه موريس كان ولايزال الطبيب المسؤول عن مكافحة الوباء هناك،.. وقد أظهرني في مكتبه على صور مخيفة من المنيا شمالاً وإلى جنوب أسيوط حيث بؤرة الانتشار للوباء الذي جعل يتآكل ويرتد، في العام الأخير، وقد خففت الحكومة لأجل هذا إجراءات الحماية فصرتُ من التنقل في سهولة،.. إن الأهالي يستمسكون بحق المقاومة، ومزيد من المقاومة، في مواجهة وباء يجر أخبار الموت أينما ذهب.. وأخشى أن الإسكندريين والقاهرين لا علم لهم بما يدور هنا حقاً، وقد ضرب على ما يدور حجاب غليظ ومقصود من التكتم والمنع،.. كان موريس متفائلاً على نحو أذهلني وقد أظهرني على دواء جديد لم أجد بداً من تجربته، وسألته بينما أغالب وعثاء التنقل بشرب الماء :
- وهل يجدي هذا الدواء فتيلاً؟
وسألني :
- وكم عمر المصاب؟ وكيف حالته؟
- قد جاوز الخمسين ربيعاً، إن حالته يرثى لها، إنها تنحدر، شيئاً فشيئاً، وأخشى أن يتلقفه الموت.
وابتسم ابتسامة رائقة غريبة عن بيئة عمله القاتمة وعن موضوع حديثي إليه، وقال :
- وسوف تنفجر في نفسه ينابيع الحياة إذا هو آمن بما في يدك (يشير إلى الدواء الجديد!).
وعددت بشرى موريس وعداً حقاً، على أنني وحين عودتي إلى سرير عز الدين ساورني اضطراب، فقد كان على حال امتقع معه لونه وتدافعت له أنفاسه وشحبت بأثره وجنتاه وجبهته، وقلت له :
- أبي.. فلتبارك هذا ! إنه دواء جديد !
وقال يحدثني على ضوء مصباح من الكيروسين :
- لعل حكومة الملك توزعه للخلاص منا.
ولاحظت تصاعد القلاقل والمظان في دواخله، وهي عادة لا أحسب أنها غريبة عمن تصل بهم تجربة المرض إلى حدود النهاية المحتومة، فهؤلاء يتمثلون الأشباح في كل شيء، وتتكاثر على أنفسهم الهواجس دون روية، فقلت :
- إنه دواء من مكتب الصحة، لطبيب قبطي.
- هل هو صادق؟
- أجل، أظن أنه كذلك.
وأمسك بيدي يسألني:
- وكيف حالة بهاء الدين؟
ولم أجبه بادئ الأمر عن حالة أخيه لجهلي بها، وقد أسلمته بعد حين لجواب يرتاح معه في نهايته، وقد عدمت الحاجة إلى الصدق أمام وطأة الاختبار،.. فوجدتني أقول مبتسراً :
- إنه على خير ما يرام !
وأخشى أن أخبرك بأن الرجل كان على فراش المرض يحتضر، فلم يجدِ الدواء الجديد نفعاً لانعدام الفرصة في تجربته.. وقد جللت الابتسامة وجهه الجميل، وتسربت الأنوار إلى فضائنا الحار، وأشعت النفوس بريقاً خلته بريق الأرواح الصاعدة، أو حضور الأجسام النورانية،.. وقد أوصاني بكم وصية أخيرة كآخر ما حدثني به، إنها رسالة أكتبها إليك بالدموع، وليكن في رحيل الأرواح المعلقة راحة لآلام تؤرق أصحابها، وبداية لعهد جديد.. وعليه، سوف أعود، عما قريب، إلى الإسكندرية، وبعيد أن تنتهي المراسم الخاصة بتوديع أبي، فلعها الأشهر القلائل تفصلنا عن اللقيا،.. وقد جمعت لتشييع جنازته كل الجريد، وشحذت لفراقه كل العواطف، فوداعاً لرؤوس النخيل، وللأكواخ المتداعية المظلمة، ولشواطئ الترع والغدران، ولأبي تيج..
المخلص..
عبد الغني عز الدين..".
وسمعت وقع أقدام خارج حجرتها تزامن مع إنهائها للخطاب فسرعان ما طوته وأودعته جيب فستانها كأنما تخفي إثماً، إنها من الإفصاح عن الخبر المؤلم في حيرة، وإذا أرادت التعبير.. فأي سبيل تنتهج؟ وأي منهاج تسلك؟ وهل حق لها أن تسعد لعودة عبد الغني إذا اقترن رجوعه بأعقاب مثل هذا الحدث الأليم؟ وسرعان ما فطنت إلى هذه الدمعة التي تحركت على وجنتها فعبثت بكحل عينها كأنها مرتكب الذنب يدرك بعد فوات الأوان فشله في إخفاء بعض آثار ما اقترفه - فطنت إليها حين وصلت أمها، وقالت لها الأم حين رأتها تذرف دمعتها هاته :
- هل تبكين لأجل بهاء الدين حقاً؟ وقد عرف الرجل عيشة السجون قبلئذٍ فلم يخرج منها إلا وهو أصلب عوداً وخير صقالاً، وأما صابرين فقد عثرت على الركن الخاص بالملك في المقهى الذي يحمل اسمه ! طوبى لها من فتاة مجدة !
وأبدت هدى سروراً مصطنعاً، على حين حملت فاطمة كومة من الملابس حتى خرجت بها عن نطاق الحجرة، وهي تقول :
- ولكن قلبي يحدثني بأن شيئاً آخر يزعجِك.. أهي الكلية؟ أم الفتوات؟ (ثم في جدية..) أم عساه يكون عبد الغني قد أتى بخبر جديد؟
وعادت الأم إلى حجرة هدى بعد أن طبّقت هذه الملابس فأحالت فوضاها إلى نظام، وقالت الفتاة في مباشرة كأنما تتنازعها عاطفتين متضاربتين كل التضارب :
- لقد قضى عمي أجله في أبي تيج،.. وسيعود عبد الغني إلى الإسكندرية!
وتسمرت فاطمة في مكانها فكأنما تلقت ضربة من هراوة (عصا غليظة)، وتباطأ الزمن في وعيها فهوت من يديها كومة الملابس، وأقامت الأسرة سرادقاً بالإسكندرية للراحل الغائب في أبي تيج اجتمع له تجار الأخشاب وأهل الحي، وكان لفاطمة (لغياب بعلها) موقع التصدر في استقبال المعزين والمشيعين بجامع سلطان، وكان الفتوات يجيئون العزاء فيقولون لها :
- قدرك الله على احتمال المكتوب !
وتقول فاطمة لهم في صوت يجتر العتاب والغضب :
- سنكون أقدر على احتمال المكتوب لو عدمت حياتنا منكم ! لقد أفسدتم عرساً وسقتم بهاء الدين إلى محبسه غير ذات مرة !
وتحاول هدى أن تهدئ ثورة أمها بقولها :
- إن لكل مقام مقالاً.
وكان للمقرئ صوت مسكن للآلام - كالقيثارة - فما أن أتم ربعه حتى ركنت النفوس إلى السلام، وتولت عن الرؤوس سحابة غضوب، وظنت العيون أن سيل المعزين قد انتهى بحضور تجار الخردة وبائعي سوق باب عمر باشا، حتى لاح من مبعدة رجل سمين يحمل فوق رأسه طربوشاً، وجذب بصورته الرسمية المهندمة انتباه الحاضرين بالسرادق فتحولت إليه العيون على حزنها فكأنما انتشلها من الفتور، وتقدم إلى حيث أبصرته هدى فبزغت من الصف تحسن استقباله تقول:
- أهلاً وسهلاً بالأستاذ فضيل،.. إن لمحضرك اليوم مثابة أكبرها حقاً ! (ثم وهي تعرف به أهليها الحزانى..) إنه مدير المدرسة الإبتدائية التي أعمل بها بحي الإبراهيمية !
واحمر وجه فضيل وهبط العرق على شاربه الصغير وبدا حضوره وسط الناس عبئاً، فتطوعت هدى بتوصيله إلى عربته، وسألها كدأبه لمّا يختلق معها حديثاً :
- أعذري تطفلي،.. ولكن أي سبب أودى بحياة الفقيد؟
وقالت في ألم :
- الملاريا، هكذا يرى الرائي بغير تحقيق.. ولكنها - وفي الحق - طائرات الإنجليز من أضاعت تجارته وحدت به إلى هجرة في أرض تنتشر بها الأوبئة وتنعدم فيها المرافق !
وقال فضيل وعيناه تلمعان بوهج ما :
- إن هذا مؤلم حقاً.. كنت أفكر دوماً في هجرة إلى الشمال ! لندن أو ما شابه ولكنني أرجأت الفكرة إلى أن تنتهي الحرب !
وقالت وهما يقتربان من السيارة :
- إن هذا قرار صائب..
وقال مجتهداً في موازاة مشية الفتاة السريعة نسبياً :
- وليست الحرب وحدها،.. ولكن أن يجد المرء نصفه الذي يملأ عليه دنياه سروراً وبهجة !
وقالت الفتاة غير واعية بمرام الرجل :
- أجل إني أفهم قصدك،.. وقد انتظرت طويلاً حالما يعود شاب من الجنوب،.. وها قد أثمر الانتظار الأخير وإن تزامن مع ألم آخر !
وسألها كأنما أنهكه السير وأزعجه سماع القول الأخير :
- وماذا يعمل هذا الشاب؟
- إنه يعمل بتجارة الأخشاب قبل أن تضطره هجرته إلى امتهان تطويع الجريد.
وقال بينما يخرج الصوت من رحابة شدقيه :
- ما أتعس هذا الذي يشتغل به ! (ثم وهو ينتقل إلى الحديث عنها في نبرة يرق لها صوته المخشوشن..) إن المعلم حديث التخرج، مثلك، ليتقاضى شهرياً جنيهات أربعة،.. ولا أعرف كيف عساه يدبر أمره وأمر ذويه ! وقد أمسى ثمن الخروف بالمملكة المصرية ستمائة قرش ! لماذا لا تفكرين في شاب غيره؟
وتساءلت هدى في فضول :
- حقاً؟ ومن يكون إذن؟
وقال فضيل وهو يستقل سيارته فيخلع طربوشه كيلا يرتطم (الطربوش) بأعلى سقفها :
- لعله يكون أقرب إليك مما تتخيلين،.. هنا أو هناك !
وقالت وقد أحست لأول مرة بأن الرجل يقصد نفسه :
- لا أظن،.. إن رابطة الحب أمتن وشيجة من أن تتوالد في المواقف العابرة لأنها تطلب الاختمار والوقت !
وقال في سأم وهو يفرد ساقيه على كرسي السيارة فيستريح :
- كيف تقصدين إلى المدرسة الإبتدائية؟
- الحنطور !
- هل بمقدورك الذهاب يومياً على قدميك؟
- كلا..
وقال وهو يخرج رأسه من النافذة مجتهداً في أن يجد لها منفذاً:
- أعتقد أن شاباً يعمل بالأخشاب يريد زواجاً بك في عالم اليوم سيكون كمن يفرض عليك المشي على قدميك إلى غاية المسار البعيد، ثمة أمور لا تقام - كالزواج - إلا بوفرة من القدرة وإلا استحالت شقاءً وعناءً !
وأدار محرك سيارته فانطلقت بينما لاحظت الفتاة منديلاً يخرج من النافذة بغير رأس - كالمودع - فابتسمت، وعادت تسترد حالتها الواجمة بمجرد وقوفها في صف استقبال المعزين، وكانت قولة فضيل التي لم تعرها اهتماماً كافياً - أول سماعها بها - قد استحالت وقتئذٍ رفيق أذنها :"ثمة أمور لا تقام - كالزواج - لا بوفرة من القدرة وإلا استحالت شقاءً وعناءً!"، إن الرجل لم ينطق بالقول الحكيم إلا لأنه في صالحه،.. وكيف أن يطمع في الزواج منها متغافلاً عن فارق العمر الكبير؟ وقد يزول العجب لأن الرجل نسب نفسه إلى فئة الشباب آية على المفارقة، وكان أولى به أن ينخرط في حمية تزيل عنه بعض أرطاله الزائدة وشحومه.. ولكنها - ولسبب ما لم تفهمه - لم تغضب من محاولته فلا عبست ولا تجهمت، ولعلها عدت ازدحام بابها بأكثر من متطلع إليها دليلاً على حسن امتازت به، وجزءاً طبيعياً من سوق يشارك فيه البشر جميعاً بالقبول أو بالامتناع أو بالطلب، وكيف الخلاص من هذا كله إلا بانتزاع الطبيعة الإنسانية ذاتها أو بتثبيطها؟ وسألتها فاطمة بمجرد انتظامها في الصف :
- ومتى يعود عبد الغني؟
- قريباً..
- ألم يذكر لك في جوابه موعداً؟
- كلا،.. ألا نكون أقرب إلى احترام عز الدين بصمتنا في سرادقه؟
وعادت تتذكر ساعة عودة عبد الغني بمزيد من الرجاء وقد عدمت دنياهم بقضها وقضيضها - بعد وفاة عز الدين وحبس أبيها - من رجل!