استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/08/25

الأهالي والإنجليز.. الحصان ضد المسدس!

 

الفصل الخامس : الأهالي والإنجليز.. الحصان ضد المسدس! 



جعل النيجرو أبو أحمد يرتدي سرواله الأسود الوسيع كمثل سراويل الصيادين، ثم الصديري وعليه المعطف، وأخيراً اعتمر طربوشه فوق وجهه ذي الشنب المبروم، وتطلع الرجل إلى هيئته النهائية في استحسان أمام المرآة التي لم تظهر كامل جسده الفارع في محيطها المحدود، وهبط إلى الشارع كيما يعلق المصابيح - للزينة والهداية - ويفتش عن الغرباء،.. وامتطى جواده الضخم وألقى على أصحاب الحوانيت من تجار الأخشاب وأصحاب مخازن الأقمشة والألبان التحية فأجابه نفر منهم في فتور، بينما لزم الفريق الآخر لوناً من الصمت الذي تشيع فيه النظرات، وتساءل الرجل عن المبرر وراء هذا التجاهل المريب وإن لم يعره - أول أمره - اهتماماً كافياً، وانتهى مسيره المزهو لدى البياصة فلكز الحصان كي يستوقفه ثم ترجل عن صهوته،.. هل تراه يرد للحصان ديناً قديماً يوم تركه وفر هارباً؟ وأسلم السلم الخشبي إلى حائط المبني كيما يتسلق عليه فيعلق الزينات وجعل يحدث نفسه في غبطة :"وسوف تكون آية للناظرين فأحمد عليها في الرائحة والغادية من المشاة وعابري السبيل.. أجل.. ومن أجل هذا يشيع ذكري في كرموز وكوم الشقافة وجبل نعسة بالثناء الجميل.."، كان القمر بدراً وقد أشاع حضوره الوضاء في الأجواء سحراً مبهجاً كاللطائف الرقيقة، وأنساً رائقاً كصحبة الأحباب، ولم تعدم نفس الفتوة - لأجل هذا - من تجاوب وشعور.. وطلب من صبي عابر أن يمسك بقاعدة السلم الخشبي،.. ومكث الصبي برهة يحدق إليه ثم انصرف،.. واندفعت الحيرة في نفسه فأورثته الغضب، وتراكمت عليه مظاهر التجاهل حتى أحالته لهيباً يحرق، وهنالك سأله في غضب :

- وكيف تجرؤ أيها الرعديد؟

وأجابه الصبي بينما يتخفى ظله في الأزقة كمن يصيح :

- وأين كنتم (يريد الفتوات) يوم أغارات علينا طائرات الإنجليز؟ ولم نسمع لكم حساً ولا صوتاً، فلزمتم - كالفئران - جحوركم..

هكذا إذن،.. إنهم ينحون على الفتوات باللائمة، وشخص إلى حصانه الضخم وجعل يقابل بينه وبين الطائرات المحلقات فأوغر صدره وحل الرثاء، وناجى نفسه شاعراً بالغبن :"منذ نزل الأجنبي نابليون بديارنا ونحن ندفع الأثمان لمقاومة المحتل.. ونخوض ما لا قبل لنا به من المعارك أمام المدافع والطائرات.."، وتسمر في موقعه حيناً ثم طرح الزينات أرضاً، وبحث في قلبه عن معالم السلام والوئام، فانقلب غضبه المبدئي على أهليه عطفاً شاملاً،.. وخلص - بعد أن انصرفت عنه دواعي الغضب - إلى ضرورة الاجتماع إلى إسماعيل الجعب وسلامة الغلأ،.. وسأله الجعب عما هنالك فأجاب :

- إن الأهالي يتنكرون لنا في الأسبلة ويتنصلون من سلطتنا عليهم، وحتى الصبيان صاروا يتمردون !

ووجد لدى رفيقيه أصداءً مماثلة، فسأله سيد أحمد :

- وما العمل مع الإنجليز؟ إن شأنهم - كالهرر - لهم أرواح سبعة.

وأجاب النيجرو وهو يخلع طربوشه :

- إن الفتوة النونو لبأسه - كان ولا يزال - يشكل خطراً على الإنجليز، ولأجل هذا فهم يرسلون المؤن والعتاد إلى قواتهم وإلى الجيش المصري وإليه.. إن هذا ما حمل الأهالي على مناداته بالبعبع.. فأين نحن منه؟!

وتساءل إسماعيل الجعب :

- تقصد أن نهجم على الضباط الإنجليز بنقطة الطوبجية؟

وأجاب النيجرو بينما تتلاشي صورته في حواشي الظلال :

- أجل، ولأجل هذا جمعت ثلاثمائة نفر.

وقال سلامة الغلأ متهيباً :

- إنها مهمة محفوفة بالمخاطر.

وأجابه النيجرو وهو يرتدي بونيته الحديدية :

- وسوف تعيد لنا هيبتنا بين الأهالي،.. إن الإنجليز كذلك لا يحترمون غير الأقوياء.

وأمتطى النيجرو حصانه الضخم قاصداً إلى المديرية، يؤزره ثلاثمائة نفر،.. وحتى هجم - ومن معه - على جميع الضباط الإنجليز في نقطة الطوبجية فطردهم، وأغلق النقطة صحبة رفيقيه، وجاء بكرسي خشبي بلا ظهر وجلس أمام الباب النحاسي، وشاع النبأ فتجمهر نفر من أهالي كرموز ورفع ثلاثتهم النابوت على مشهد منهم بينما تتردد صيحات التهليل،.. وتقدم النيجرو خطوتين حتى جعل يصيح والقلوب خوافق :

- وليكن اليوم نصراً مظفراً لأهالي كرموز على أعدائهم الذين أحرقوا ديارهم !

وحينذاك انطلق الرصاص كالهدير فتشتت الشمل وتفرق الحشد، وسمع النيجرو الناس يقولون :

- إنه الضابط زكي طبيلي.. هل يطلب الحوار؟!

لقد بدا المشهد ولو من وجه واحد إعادة لثورة أهل المدينة على الإمبراطور الروماني كاراكالا في نفس الموقع (كوم الشقافة)، هذه التي انخدع فيها شباب الإسكندرية بطلب الإمبراطور الحوار، وانتهوا في المقابر الجميلة نهباً للجوع والعطش! وهرع النيجرو إلى حيث حصانه الضخم فأمسك زمامه وانطلق بين الحشد الذي تفرق مفزوعاً في غير نظام،.. وألقى الرجل بعد أن اطمأن إلى سلامته نظرة على ما خلفه من دمار فسرت في جسده قشعريرة، وانتظر حيناً كيما يعود إليه رفيقاه، فلاح - بعد انتظار - إسماعيل الجعب دون سلامة الغلأ، فجاءه الناجي بينما يطرق حذاؤه الثقيل على الأرض محدثاً صوتاً كقرع الطبول، وسأله:

- وأين سلامة الغلأ؟

وأجابه بينما وجهه وجسده قد تضرر لهذا الذي حدث :

- لقد قبُض عليه !

وانصرف النيجرو عن صاحبه الذي سأله :

- إلى أين؟

وقال بينما تعلو هامة الحصان ويصهل استجابة لضربة من السوط :

- إلى الفتوة النونو !

ونزل النيجرو في منزل الفتوة النونو فاستقبله الآخر استقبالاً كريماً مشهوداً، كان منزله موسعاً وقد شملت مائدته على أطايب المأكولات والشراب، وسأله :

- هل من الحق أن مقتلة وقعت اليوم أمام نقطة الطوبجية؟

وسأله النيجرو دون أن يجيب :

- هل صحيح أن الإنجليز يرسلون إليك بالمؤن والزاد كالتفاح ونحوه؟ بربك.. هل نجحت في ترويضهم إلى هذا الحد؟

وأجاب :

- إنها المصلحة تحكم الجميع، عليك أن تجد حلاً معهم يفضي إلى توافق.

وقال النيجرو :

- أخشى أن الأوان قد فات !

وسأله النونو وهو يضع أحجار النارجيلة (الشيشة) :

- وماذا عن زكي طبيلي؟

وجلس النيجرو قبالة النونو بينما تغير وجهه يقول :

- إنه موتور،.. قتل الفتوات أحد أقربائه، واليوم يعاون الإنجليز على أبناء بلده.. ما أشبهه بعزرائيل !  (ثم كالمتراجع..) ليس ضباط الطوبجية - كلهم - مثله فمنهم من يعمل سراً لصالح الأهالي !

ووافقه النونو بقوله بينما ينفث الدخان :

- أجل،.. إن شأنهم كنفخة هواء وانية في مواجهة إعصار كاسح !

وتابع النيجرو :

- وأحدهم جرد ضابطاً إنجليزياً من هندامه كي يقضي على هيبتهم (الإنجليز) الباقية في النفوس !

وهنالك قهقه النونو فارتفعت حسنته، واستغل النيجرو انبساطه البادي في تألق جوارحه فعرض عليه الانضمام إليه، وقال كأنما يستميله إليه :

- وقد خلا المكان لك بعد القبض على سلامة الغلأ.

وأجاب النونو معتزاً :

- حسبي أني الوحيد بين فتوات الإسكندرية الذي يقرأ ويكتب،.. ولن أكون تابعاً ما حييت.

وسأله النيجرو وهو يشخص إلى جمرة النار تلتهم فحم النارجيلة :

- وهل تهتم بالسياسة؟

وضحك النونو الذي ارتأى السؤال كاشفاً عن أمر يتفرد به فتبدت نواجزه المصفرة :

- أهتم بها بالقدر الذي أفهمه منها ! وأحب مصطفى النحاس وسعد زغلول والوفد !

وأمعن النيجرو التأمل في الأسماء الثلاثة : مطصفى النحاس، سعد زغلول، الوفد، ثم قال في يقظة طارئة وسط شروده العام :

- ولماذا قبل النحاس بالحكومة محمولاً على أكتاف البريطانيين بعد حادثة قصر عابدين؟ أعني كيف به أن يكون جديراً بمحبتك بعد هذا؟

ولم يفكر النونو مرتين فقال في حكمة غريبة عنه :

- إنها تضحية بسمعته قام بها في سبيل الوطن وفي وقت ما أشد حرجه!

وانتزع النيجرو النارجيلة وقال وهو يهم بأكل التفاحة من صحن الفخار :

- هلا أمكنني أن أقيم هنا،.. ولو إلى حين ؟!

- على الرحب والسعة،.. (ثم وهو يتطلع إلى الحصان الضخم الرابض بالخارج) ما أبهاه ! هل تبيعه؟

- ...

وبعد أسبوعين - من واقعة الهجوم على نقطة الطوبجية - توسط شيخ الحارة عيسى العطار لدى الضباط المصريين والأجانب، وقُبل بمطلبه -  نظراً  لتوطد علاقته بالإنجليز - في الإفراج عن سلامة الغلأ شريطة التعهد اللازم باحترام القانون وقصد - أول خروجه - إلى إسماعيل الجعب يسأله عن النيجرو :

- وأين الجبان الذي سلمنا لرصاص زكي طبيلي؟

وحاول الجعب تهدئته فقال :

- لقد فعل ما فعل لأجل الأهالي وصورة الفتوات في الأذهان !

وقال الغلأ وشعلة الغضب لا تنفك تضوي في نفسه المنفعلة :

- واليوم يتهمنا الأهالي بالجبن - بعد الحياد - وها هي ذي جنائزهم تخرج من مسجد سلطان ناضحة بالبكائيات المرة.

واقتفى سلامة الغلأ مسيرة النيجرو في ضواحي كرموز حتى عثر عليه في بيت الفتوة النونو، ووقع بين الاثنين السجال، فقال الغلأ :

- أهكذا نسيت أمري؟ أحقاً أردت التحالف مع النونو بديلاً عن ذراعك الأيمن؟

وأجاب النيجرو وقد راعاه أن محدثه أغفل تحيته من مسك النابوت من منتصفه ووضعه أففياً إلى أسفل :

- من الجيد أن قسوة السجون ستعلمك ألا تسلم نفسك لأعدائك.

وتجرؤ الغلأ فهتف وهو يتقدم إلى محدثه بضع خطوات على البلاط الرخامي :

- بأي وجه تتحدث أيها الجبان؟ ومن أي بئر آسنة تشربت طباعك؟

وأمسك النيجرو بنابوت، حاول النونو التدخل ليقطع دابر الفتنة - وكذا مخافة التدمير ينزل بمسكنه من جراء الشجار - فدفعه النيجرو طالباً منه الابتعاد مشمراً عن ساعد الجد، كان الفتوة ذو الخمسين عاماً لم يختبر منذ أعوام قنع فيها المتطلعون إلى مكانته بأن لا منافس له وقد أرهقه النزال الطارئ من أمره عسراً،..  ولكنه سرعان ما امتلك النابوت حتى تسيده في خفة معجبة وشت بما بقى له من قوة الأيام الخوالي، وشحذ همته فاستوى - كالشباب - بأساً وبراعة، وتحركت النبابيت في سرعة وحلقت الأيدي وجمحت النفوس، وأحدث ضرب النبابيت وقعاً اهتزت له صحون الفخار وصورة الفتوة النونو بعبائته المعلقة على الحائط، ولم تمضِ إلا برهة من الزمن حتى أجهز النيجرو على خصيمه، وقال والآخر طريح أمامه بغير نابوت :

- ولك الحرية في الانصراف،.. لأجل الخبز والملح !

وانصرف الغلأ وهو يغمغم بينما جعل النيجرو يطرق النظر محزوناً يهمس في نفسه:" آه.. أعلمه الرماية كلَّ يومٍ، فلمَّا اشْتَدَّ ساعده رماني !"، وسأله النونو بعد أن حمد له سرعته في الإجهاز على خصمه :

- ماذا هنالك؟

- أخشى أني سوف ألزم  الاختفاء هنا طويلاً.

وسأله النونو وهو يقطم تفاحة :

- وماذا بقى لك في كرموز كيما تتألم لفراقه؟ أليس الحي هو الذي لفظك؟ ألم يتجاهلك العائشون فيه حيناً ثم طاردك ضباطه؟

ولم يصارحه النيجرو بما يعتمل - حقاً - في خاطره، صابرين.. أجل، إنها خسارته الجسيمة،.. ولكن منذ متى كانت الفتاة له؟ وبينه وبينها دقائق من اللقاء عابرة تبعثرت - كغيرها من الأشياء - في حياته المختلة، وبينه وبينها أشواط لا يقطعها إلا من تربى وتعلم في بيت موسر.. وهل يفهم الفتوة النونو معنى للحب؟ وشخص إلى صورة أسنانه الخربة وشفتيه الغليظتين وهو يلتهم التفاحة الخضراء فأضمر السلام وكتم النجوى، لا لن يفهمه الرجل أبداً، لا.. والرجل - كالفتوات - أسير عالم القوة والجموح والعنف ! واندفع إلى المرآة المعلقة ذات الحدود المذهبة بالصالة فرمق هيئته المتأثرة بالمبارزة بنظرة من رثاء،.. وجلس متنهداً، فقال له النونو في سمر ونهم حين استقر في قعوده :

- ألا تريد أن تأكل مزيداً من تفاح الإنجليز؟


  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات


**

وجد يوسف نفسه مجبراً على قبول عرض رشدي عبد العظيم بالعمل في مقهى الفنانين، كان الكساد الذي حل بسوق الأخشاب إبان الحرب الكبرى والخسارة التي نزلت بعمه عز الدين يوم إغارة الإنجليز فأفضت إلى هجرته - ومن ثم أضرت بتجارة أبيه - سببين كافيين ليعدل عن رأيه.. وأما أبوه بهاء الدين فسيقنع بعائد العمل وسيتعزى به على ما يضمره من احتقار تجاه المهنة،.. أليس بهاء الدين نفسه من يشتكي صباح مساء من شحة المال وقلة النعمة وعوز اليدين؟ وحين يرى الأب بريق النقود فسوف تحل الشفاعة ويسري القنوع وينقشع الخصام، هكذا أقنع الفتى نفسه.. وقال لرشدي :

- إني أروم العمل هنا !

وتهلل رشدي وقال :

- وهل غيرت رأيك؟

- أجل !

وأمسك رشدي بيده فتحركا حتى صارا من وراء الستارة الملونة يتطلعان إلى عرض كانت تؤديه عفاف، وقال :

- هناك تؤدي الفاصل التالي،.. وكن متفكهاً مرحاً لا كعزيز منصف (الفنان الشبيه بالريحاني) يوم أفسد ليلته وليلتنا !

وانتهى عرض عفاف قبل الأوان فنهض يوسف مستعداً للمهمة ومتهيباً لها، لقد عرف الإضحاك سميراً لا شغلاً، واشتغل بالسخرية قبل اليوم مدفوعاً برغبة في تسلية جبلت عليها حواسه اليقظة غير عابئ بالعواقب،.. وأما اليوم.. فياله من اختبار، ولشد ما جللته المنصة الخشبية ذات السحر العجيب ! وكم أسرته - كالمفتتن - دون تجرؤ منه على أن يقتحم عالمها الأخاذ ! وبين الهواية والاحتراف ذاك الجسر الذي يفقد ما للعمل في نفس الممارس من خصوصية محببة لا تحصي الهفوات، وأبصر عفاف وهي تهبط الدرج في رثاء فها قد صار منافساً لها، وصعد السلالم وسط الدهشات في خفة المهرجين، وقال :

- أتدرون لأي سبب أشعلت طائرات الإنجليز النيران في حيّكم؟ وفي مخازن الأخشاب؟.. لأنها أرادت تدفئتكم في ليلة المطر !

ووجد الشاب المتطلع أصداءً لضحكات هنا وهناك، فواصل متشجعاً :

- أتدرون لأي سبب شجع نفر منكم الألمان على حساب الإنجليز، وكلاهما يروم الغزو والاستغلال؟.. لأن ستين عاماً من الإنجليز تكفي.. وسُئل روميل : لمَ انكسرت في العالمين؟ فأجاب : هرباً من الملاريا في مصر !

وكانت لطائفه تجد استجابة في مرات بينما تنعم القاعة بالصمت المطبق في مرات، وأما عفاف فتتتابعه بعينين تضمران مشاعر الإجحاف وتظهران أمارات السرور، فبعث إليها الفتى - حين عدمت جعبته من الأمازيح - ومن فوق المنصة بقبلة  فلم تجد بداً من أن ترسل إليه بمثلها، والتقطها الشاب - كما يلتقط حارس بارع كرة - مرتمياً على الأرض الخشبية، وجعل يلهو بها (القبلة) فوق أكتافه وعلى فخذه ثم يركلها بقدمه في ارتجال طريف، وعلت في الصالة التصفيقات ثملة بالعرض ومستأنسة بصاحبه، وانتهى يوسف إلى أن قذف القبلة (الكرة) إلى الجمهور الذي بعث إليه بأمثالها، وهنالك خلع قبعته السوداء وهبط على ركبتيه، وجعل يلملم القبل المتناثرة ويضعها - جميعاً - في القبعة، علا الصخب في أرجاء الصالة بينما جعل رشدي عبد العظيم ينظر إلى ما يدور بعين الاستحسان، إنه الرواج الذي يعني في نظرته التجارية المحضة مالاً يُضاف إلى خزانته فيستزيد منه، والتقط يوسف طرفة لرؤيته صاحب المقهى وراء الستار يبتسم فقال للجمهور :

- وخلف الستائر يربض ظل إنسان.. فمن يكون صاحبه؟ أهو أبو منشة؟ أم الشاطر حسن؟ (حتى جاءه المنادي بالقاعة بالجواب الصحيح : مالك المقهى فقال يصادقه..) أصبت.. مالك المقهى.. الأستاذ رشدي.. فلأي سبب يربض؟ إنه يحصي الضحكات وعليها يتقرر أجري !

وضحك رشدي عبد العظيم - كما الجميع - فولت عن الشاب مخاوفه وتوثقت في نفسه دواعي الثقة، وطرب للهتاف الذي طالب فيه الحضور بالصالة على اختلاف مشاربهم - طالبوا فيه بالمزيد من عرضه،.. وطالت المدة فجعل الشاب يجول النظر في الحضور الذي أمامه، وأبصر في الزاوية حسين سليمان (كبير العربجية الذي دبر مكيدة الضابط الإنجليزي) فارتعد لرؤيته ارتعاد المرء في كابوسه المخيف، وابتسم ابتسامة صقلت من الخوف بينما يقول للجمهور فينسحب ظله :

- أراكم غداً !

وهرع إلى خارج المقهى مهرولاً فلم يكد يرتدي قبعته إلا بعد مسير دقائق، وجعل يزفر ويشهق مضطرب الشعور، وتناهى إلى أسماعه صوت يهتف :

- يوسف..  ماذا جرى؟!

وانتفض لسماع الصوت الذي لم يميز ماهية صاحبه أول الأمر،.. كان الظلام حالكاً وإذا كان المرء يخشى ما يجهله فالظلام مرتع للمخاوف والهواجس، واهتدى إلى أنه صوت عفاف فاطمأن بعض اطمئنان وذهب عنه فزعه، وتوقف بينما هبط ممسكاً بساقيه وقد أدركه التعب - كمثل من يركع في عبادة فيسترد أنفاسه، وقال :

- رأيت حسين سليمان !

وتساءلت عفاف عن ماهية الشخص الذي نسيته فأجابها الفتى مستفيض الشرح، وقالت وهي تمسك بطرف فستانها المزركش بينما تسير :

- ولم لا تبلِّغ عنه الأمن؟

وقال مرتجفاً :

- حاولت هذا مسبقاً،.. واليوم أخشى عداوته !

وقالت كالتي تخفي شيئاً وتظهر غيره :

- أنت لا تخشى شيئاً فلقد أضحكت صالة بأكملها ! (ثم وقمر الضوء الفضي يجلل هيئتها الحسناء..) لقد انتهى عرضي قبل الأوان وأخشى ألا يجد رشدي سبباً للإبقاء عليَّ !

وأجابها كالذي يسفه من حديثها :

- أنت ترددين هذا دائماً !

وقالت في مسحة من الحزن :

- واليوم وجدت سبباً أوثق لأصدق ما أردده !

وقال يوسف في مشاغبة لأول مرة بينما يَلمع زر بذلته المُذهب :

- وحينذاك يحق لي أن أتزوج بكِ ! أجل.. فسوف تكونين على حال من الحاجة تقبلين معه كل طارق على بابك !

وقالت - كالمباغَتة - بينما ترنو إلى ذقنه الأمرد :

- حقاً ؟! إني أكبرك بسنوات خمس !

وقال مستتبعاً في هزل :

- وسوف تكون زفة تبدأ من بوابة القمر ولا تنتهي لدى بوابة الشمس، (وهنا أبدت عفاف جم عجبها فواصل..) أجل.. هل تعرفين الإسكندر؟ كان شاباً وسيماً - مثلي- وقد وقف هنا أو هناك يقول في لكنة مترفعة (رفع يده بينما يشير بسبابته إلى هدف ليلي مبهم) : "وهنا سأبني مدينتي التي طالما حلمت بها !"، وقد عهد إلى مهندسه اليونانى دينو قراطيس (نطق الاسم متلعثماً) بالأمر الجلل، (ثم كالذي يعدد على أصابعه الرفيعة) وقد أنشأ لهذا الغرض أحياءً خمسة حملت حروف الأبجدية اليونانية الأولى، أذكر منها : الحي الملكي، والحي الوطني، وحي اليهود، وكان الشارع الطولي - حيث النبي دانيال حالياً - يحده من الشمال بوابة القمر ومن الجنوب بوابة الشمس!

وقالت :

- وهل أبدو لك امرأة يونانية عاشت في زمان الإسكندر؟

وقال وهو يتفحص هيئتها - وكانت إلى الصورة الفرعونية أقرب - في هذر :

- ربما..

وتمشيا طويلاً في صمت حتى قالت كالتي تستجيب للخاطر الطارئ :

- ولو أنك أبلغت شرطة الإنجليز عن حسين سليمان فسوف ينته خبره!

وأجابها في بداهة :

- وينتهي خبر مقهى الفنانين معه ! أما رأيت إلى يوم احترقت فيه المخازن آية على الصدمة والترويع اللذين ينتهجانه الإنجليز في تعاملهم معنا؟ لقد أورثتهم الحرب رعونةً وتهوراً، وسوف يقول قائل منهم : هناك أوذي ضباطنا فلا يعود لـ"هناك" حجر فوق حجر !

وفي الغد وقع تغير في التسلسل فكانت لفقرة يوسف الأولوية على فقرة عفاف، وسمعت المرأة الفتى يقول :

- أتدرون لأي سبب يمتطي الفتوة النيجرو حصانه على الدوام؟ لأنه عدم من قدرة مالية على أن يستقل الحنطور أو التاكسي !

وأبدت عفاف امتعاضها من المزحة الركيكة فأورثها الاستماع حنقاً، ولعلها تساءلت : "ألاجل هذا السفه يستأخر ميعاد فقرتها؟ ولكنه قانون العرض والطلب.. قاتله الله..!"، وصعدت إلى المسرح - حين انتهى يوسف من عرضه - تغني لأم كلثوم :

- "وأبات أصور فى حالي لما ألاقي الحبيب..

 ياللي القمر من بهاك نوّر فى قلبي سناه..

 تعالى جدد صفاه تروق وتحلى الحياة.."

وإنها لكذلك إذ أبصرت وسط الحضور الثمل ضابطاً إنجليزياً جديداً يتحلقه نفر من العربجية فتلعثمت، وحل في قلبها اضطراب لم تعد معه تميز ما تنشده فكأنما حل في روحها الخواء، وشحذت جوارحها فخلصلت إلى ضرورة التصرف العجول وفي مخيالها صفحات من الدمار المحتمل، وأشفقت لرؤية الضابط على حال من الثمول الذي يتفق ألا يعي معه كيف يحسن التصرف، وهبطت الدرج فعلا تصفيق فوضوي، واقتربت من الضابط الإنجليزي - واسمه تشارليCharlie  - فهمست بإنجليزية متعثرة في أذنه :

- "وحاذر من أن تذهب معهم إلى كوم النادورة.. إنهم محتالون..".

وتبادل العربجية حديثاً استحسنوا فيه صورتها المكتملة دون أن يعوا كنه ما همست به في أذن الرجل، وانتهى العرض فقصد إليها الضابط الإنجليزي يشكرها وقال في زيه العسكري المنمق حاملاً هذه الملامح الأوروبية :

- "من الخير أن يكون ثمة بين المصريين هذه الروح النقية والسمات الفاضلة..".

وتبادلا حديثاً عابراً حتى جاء يوسف إليها يقول :

- أحقاً كنتِ تهمسين في أذن ضابط إنجليزي أثناء العرض؟ (وهنا بوغت لرؤية الرجل معها..)

وقالت تنزه نفسها، بينما ينصرف عنهما الضابط الإنجليزي كالمنسحب :

- وقد أردت تحذيره من جماعة حسين سليمان لا أكثر،.. أيها المتطفل !

 وقال وفي نفسه أعظم ارتياب :

- هل تتوددين إلى ضابط إنجليزي؟ ياللعار.. ولماذا جاءك الساعة؟

وقالت في انفعال :

- وما شأنك بهذا؟ وحسبك أنك تلقي على الأسماع الغث من النكات فيكون لك على غيرك سبقاً لا تستحقه.

وقال وقد قطبت حاجباه :

- أنسيت ما فعله الإنجليز بحيّنا منذ أيام؟

وقالت :

- على المرء أن يُعنى بحالته الفردية، قبل أن يلتفت إلى النظر في أحوال من لا يكترثون له.

وقال وهو يشب على أصابعه فيبلغ مستواها :

- إنه (الضابط) مُحتل..

- حصلنا على الاستقلال قبل ست سنوات بعد معاهدة  1936م.

- هل تصدقين في هذا؟

- أجل..

وقال وهو يرميها بالمشط الخشبي فتتفادى ضربته :

- وإذا أنت آثرت الأجنبي عليَّ فلا أقل من الانتحار؟

وقالت ضاحكة :

- وسوف نرى عن قرب خبراً في مجلة الكواكب : انتحار مونولوجست في مقهى الفنانين ! 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق