الفصل الخامس والثلاثون : شجون مجسدة في عصفور الكوكاتيل !
1965م..
فجُع مراد في رحيل زوجه نرمين لدى ولادة ابنته فردوس، حمله موتها المباغت على إعادة ترتيب أوراقه، وحتى لقد عاد يتشبث بالعبادة تارة، وتارة يستكين للصمت في إطراق.. وألفى الأشياء خلف غشاوة من القتامة أقرب إلى حقيقتها مجردة من الزهو والخيلاء، وكأنه - لتعلقه بمن رحل - بات ومن نقطة خارج هذا الكون يقيّم وقائعه ويرصد أحداثه،.. يقول وفي عينيه تتحرك دمعة :
- يقولون بأن عِشرة تقتل الحب، ولكنني خلصت إلى حقيقة أن زيجة قد تكون بداية لحب عظيم..
كان عبد الغني يقول له مواسياً :
- فلتنظر إلى ما وراء الحدث الظاهر،.. ثمة عبرة ما لم تلتفت إليها.
وأجابه في وجوم :
- أجل، أخوتها الخمسة، كنت دائم التأفف من حضورهم، واليوم أجدني في عطف عليهم.
- شيء آخر، غير الأخوة الخمسة.
واستدار نحوه، يسأله :
- ماذا تريد؟
واعتدل عبد الغني في جلسته، وكان لا يزال يجد الألم في الاتكاء على قدميه، يقول :
- جاءني صديقك جمعة وأخبرني بما قابلت به أبيك ضاحي يوماً من جفاء،.. لماذا لا تقصد إليه طالباً رضاه؟
- إن هذا مستحيل.
- أعدت ترتيب الأوراق جميعها ما خلا هذه الورقة.
- بعض الأوراق جدير بها أن تُترك حتى تندثر في أدراج النسيان.
- لولا أنني أعرفك لظننت بك سوء الطوية وغلظة النفس.
وساد الصمت فعلت زقزقة عصفور، كان عبد الغني قد اشترى هذا القفص الكبير الذي أصر على أن يحتويه الحانوت الصغير وفيه العصفوران، وقال لمراد :
- عصفور الكوكاتيل، أو ببغاء الكروان، ستحبه !
كان اليوم هو الأحد، الشوارع خلاء كأنما فرغت من نزال، وترنم العصفور بنغم صدح به على هذه الصفحة المستقرة الهادئة، وحدق مراد إلى صورة هذا العش، يرقد العصفور فوق بيضه كأنما لا يحسب للزمن حساباً، يخفيه عن العيون،.. قال عبد الغني :
- دعني أشرح لكَ : يرقد هذا الذكر على البيض في الجزء الأول من النهار، وتتولى الأنثى الرقاد في الدورية الليلية، المساء وقت يتولى فيه الذكر الحماية، هذا التناغم ضروري لاستمرار الحياة !
وتدانى مراد من العصفور ذي الألوان الخلابة، يقول :
- ما أجمل هذه الحمرة تزين وجنته ! الجمال والقبح يتجاوران في نسيج طبيعي واحد، لا أعرف كيف تحفل مسيرة الحياة بهذه المفارقات.
- ألا يذكرك هذا العصفور بأبيك؟ لماذا لا تحسن إليه فتزوه؟
ونظر إليه مراد في ألم ثم تولى عنه خائضاً في سبيل يبتعد به من محدثه، وتوقف بعد سعي يتأمل ما ورائه، كان عبد الغني يلوح للشاب بكلتا يديه، ولكن مراداً مضى غير مكترث بنداءات سيده، مضى إلى الورديان، وطرق الباب، فتأخر الجواب حتى انفتح، لاح ضاحي يقول في رزانة، وكان قد تعرف إليه رغم إعاقته :
- أهلاً، مراد، لم أتصور أن تجيء قط..
وقال الشاب متحفزاً :
- لقد فقدت نرمين، لا أزال غير مصدق لما وقع، ملأ الحزن نفسي بفراغ كالعدم، أخبروني أن أجيء إليك عسى أن يكون الحل بين يديك..
أحس ضاحي نفسه يبكي دون ان يسيطر على شعوره، غمرت الدموع لحيته، قال :
- فلتدخل أولاً، يا بني..
وأجلسه ضاحي على هذه الأريكة التي أحدثت لتهالكها صوتاً بمجرد جلوس الشاب عليها، قرب سرير نحاسي، يقول :
- تماماً مثلما وقع لي، فقدت أمك في يوم ولادتك أيضاً، كان يوماً تجاور فيه الموت والحياة.
وذهل مراد لحديث أبيه، قال :
- وكيف تجاوزت هذا؟
- الفضل للزمان..
ونهض مراد يركل هذا العمود النحاسي للسرير، يقول :
- كانت توصيني (نرمين)، وتوصيني، عجزت عن توديعها..
وقال ضاحي وكان قد فطن إلى ثورة الشاب من طريق الحس والصوت :
- صبراً صبراً، فلتأتِ لي بطفليك قبل أن تنكسر ساقك أمام صلابة العمود !
وعاد يجلس مراد في هدوء نسبي يقول :
- ليس قبل أن تفسر لي غيبتك !
- ما من تفسير سوى شحة اليد وإعاقة البصر.. الحياة قاسية..
ونظر إليه في جحود وغضب يقول :
- عذر أقبح من ذنب..
- الجميع عصاة مذنبون،.. أنت، أيضاً، تزوجت بائعة الهوى.
- فارق بين من يتورط في الخطأ وبين من يصنعه ثم يتنصل منه ويتنكر له، كيف طاوعتك نفسك على أن تتخلص من ابن لك؟ أراك كمن نزع مهجة فؤاده فألقى بها !
- بعض القرارات القبيحة صحيحة، أراك اليوم شاباً بالغاً مقتدراً.
- كيف تخليت عني بهذه السهولة؟
- لم أتخلَ عنك، كنت أراقبك..
- مراقبة - كالعدم - لا تسمن ولا تغني..
كان مراد يتذكر وفي هذه الأثناء عصفور الكوكاتيل الذي يرقد على بيضه أول النهار، ثم يحمي عشه في المساء، وطفق يتطلع إلى ضاحي في غبن، وتسرب من النافذة شعاع ضوء لامس جبين الشاب،.. سرعان ما أفضى به التطلع إلى لون من الإشفاق، عاد يتذكر نرمين وأمه، واستأثرت به نوبة عاطفة قوية فجعل يحضن أباه باكياً، مغمض العينين، وكاد الأب يخطؤه لكنه ما لبث أن اهتدى إليه، مسترشداً بحاسة اللمس، واطمأن إليه حين استشعر أنفاسه، فيده.
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
في مساء يوم هذا اللقاء الأسري جاء مراد بطفليه : فردوس، ورؤوف، صحبة الأخوة الخمسة لنرمين، جاءوا جميعاً إلى ضاحي، كانت فردوس محمولة على ذراعي تهاني، كبرى الأخوة الخمسة، التي باتت بدورها تُعنى بالبنت محل الأم، فيما كان رؤوف - ابن الأعوام الثلاثة - محمولاً على ذراعي مراد، تغص الحجرة بمن فيها ويملأ الضجيج الآذان، وطفق الأخوة الأربعة يعبثون بلحية ضاحي الكثيفة المتشعبة، يقولون :" لحية كشجون الشجر.."، فيبعدهم الرجل في انفعال يستدعي سرور البقية، كان مراد يحتفظ بطبشورة ورسم على الأرض بضع مربعات، فجعل الأخوة يلعبون لعبة "الأولى/الحجلى" التي شرح لهم الشاب قواعدها البسيطة، وكان يروم - في الحق - إشغالهم عن ضاحي كيما ينفرد معه بحديث، كان مراد يصيح في الأخوة : "ستكسرون البلاط.."، وقال ضاحي :
- دعهم يمرحون،.. اليوم أسعد أيامي..
ونظر مراد إلى الطفل يقفز على قدم واحدة ثم حين يأخذ يدور حين يصل إلى الرقم ثمانية، قال بعدئذٍ :
- وددت لو يشارك رؤوف وفرودوس في اللعب، ولكنهما صغيران..
وقال ضاحي في أسف :
- سيكبران يوماً، فلتلقنهما أحسن الخلال، المهم ألا تتركهما، أبداً، مثلما فعلت أنا !
كان البيت يرتج مع كل قفزة طفل يَحْجُلُ وحتى لقد بدا على وشك انهيار، وقال مراد لضاحي يجول ببصره في محيطه، ثمة بيت عنكبوت منسوج في زاوية بين حائطين :
- تقيم في بيت واهن كبيت هذا العنكبوت، المحيط أيضاً رث وذري،.. لماذا لا تأتي إلى كرموز فنقيم سوياً هناك؟!
وقال ضاحي يخفض رأسه حتى تمس لحيته أول عظمة القصّ :
- لا أريد أن أثقل عليك..
- بات البيت خالياً بعد وفاة نرمين..
- ستجد راحتك في خلوتك..
- بربك.. هل تحب العيش بالورديان؟
- أجل، الخدمات الرئيسة، كثرة العائلات، الجو الاجتماعي،.. بعض الناس هنا يلقبونني بالشيخ ويتبركون بي، قد يتفق أن أكون شيخاً ضريراً، ولكن الجميع هنا عيون لي..
واكتفى الابن من جواب أبيه الأخير وحتى لقد استطاب ما فيه من بلاغة، فابتسم وصمت، نظر مراد حوله يقول في رضا بينما يدير عنقه إلى أبيه :
- يتقافزون كالأقزام السبعة..
ولم يكد الشاب يتم حديثه أو استدارة عنقه حتى سمع نداء استصراخ، فبكاء،.. كان بلاطاً قد انكسر، وهبطت ساق أحد الأطفال موضع الفراغ، فلاح هذا الجزء العلوي منه دون البقية من جسده الصغير، كأنما أمسى الطفل معلقاً بين الطابقين، وأمكن لمراد أن يخلصه بسلام - لولا بعض هاته الخدوش التي سرعان ما انتبرت وتورمت على هذا الجسد الغض - وتساءل مراد وهو يحيط الطفل برعاية ثم يتركه فيمضي على مسار من الحجارة المهتزة :
- الواجب يقتضينا أن نطمئن على جارنا،.. ثم أن نسارع إلى الرحيل من هنا.
وأجابه ضاحي :
- لا أحد يقيم في هذا العقار سواي..
وانخرط هذا الطفل - الذي جرى للتو استنقاذه - في مزيد من الصراخ حتى اقتربت منه تهاني فلثمته وجعلت تهدهده، كان الأطفال في صمت - لأول مرة منذ حضورهم - بسبب ما جرته عليهم الواقعة الأخيرة من شعور فاجع ألبسهم لباس الحذر والسكون، وقال مراد لضاحي كأنما وعى أمراً بدهياً :
- ترك الجيران العقار مخافة يوم يهوي فيه، ستأتي لتقيم معي، اليوم !
- ماذا عن الأثاث؟
- لا شيء ذو قيمة هنا..
وصحب مراد أباه يتقدمه ممسكاً بيده في طريق من الورديان إلى كرموز، كان الأطفال يتقافزون حول الاثنين هنا وهناك، وحين بلغ مراد مبلغ حانوت عبد الغني فأبصر ذكر عصفور الكوكاتيل، كان شعوره القديم بالشزر من أبيه قد تغير تغيراً كبيراً، قال عبد الغني لضاحي في سرور :
- كنت أباً معنوياً لمراد، ولأعوام، والساعة ظهر أبوه الحقيقي، وإذا حضر الماء بطل التيمم، (ثم وهو يتحدث إلى مراد في شغب..) تخلصت اليوم من عبء ما أثقله ! كالأب حين يزوج ابنته..
وكان ضاحي يقول له بينما يتلمس سبيله بطرف عصاه :
- سنحتاج إلى جهدك دائماً.. ولن ننسى معروفك..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق