الفصل السادس والثلاثون : لعنة كحذاء الطنبوري !
قضت المحكمة بحبس هشام عزمي مدة عام بتهمة "التآمر ضد الثورة"، أوكل الرجل إدارة ثروته إلى زوجه صابرين التي ما لبثت أن نهضت بالمسؤولية على خير مثال،.. والتقى وجههما، الرجل من وراء سياج قفص السجن - كالأمشاط النحاسية الكبيرة - متظاهراً بالصلابة، وصابرين من الجهة الأخرى، قال :
- لا أفهم كيف أُتهم بمثل هذا الاتهام ولا كيف يصدر ذاك الحكم.. يزعمون أن الحكم عنوان الحقيقة، إن هذا عبث خالص..
- ستخرج من هنا وأنت أشد قوة وخير صقالاً..
- أشعر بأن لعنة الخواجة رجب تطاردني كمثل"حذاء الطنبوري" ! إن نظاماً مغلقاً - كرجل أعمى - لا يميز بين عدو وبين صديق.
- ....
وانتهت زيارتها، فقال كأنما أوعز إليه ضيق الوقت بأن يذكرها بأهم ما يشغله :
- فلتعتني بمريم، إنها مرهفة الحس على نحو يثير فيَّ العطف والإشفاق.
كانت مريم تجلس إلى مكتب حجرتها تطلع إلى هذا المنديل الذي بدا متيبساً ومهترئاً، ودلفت صابرين إليها تريد أن تلقي به في السلة، لولا أن مريم قالت :
- لا تفعلي،.. ودعت به نعيماً قبل سفره الأخير في ميناء الإسكندرية !
وأعادته الأم إلى حيث كان، كأنما وعت دلالته التي جرتها إلى صنف من الاهتمام به، قالت :
- لقد تيبس فعلاً.. تماماً كعلاقتك بالشاب..
وقالت :
- لازلت أنتظر رجوعه في هذا الصيف..
وأجابتها الأم في نبرة وعظية خليقة بمن تراكمت عليه التجارب ودقت على رأسه الطبول :
- العاقل من تخلص من رجاء لا يفيد..
- لماذا تسامحين أبي رغم كل ما فعله إذن، وتنتحلين له ألف عذر؟
- سُجن أبوك ضحية الافتراء..
- غاب نعيم بسبب أبيه أيضاً..
- أوصاني أبوك بالمزيد من الاهتمام بك والحرص عليكِ.
- جدير به أن ينصح نفسه ! لقد أوقع نفسه بنفسه..
- وكأنك لا تكنين له ذرة حب !
كان المنديل يأخذ يطير بسبب الهواء الآتي من النافذة، وجلست الأم إلى جوار البنت بعد أن أغلقتها، تقول :
- لازلت في مقتبل العمر، العشرين ربيعاً هو عمرك،.. ما أجملك ! تضيعين ألف فرصة حين تتشبثين بواحدة دون غيرها.
- أعرف هذا..
- تسهين عن الاستذكار، وتتخلفين عن محاضرات الهندسة..
- أكره الهندسة من الأعماق، إنها سجن من خمس سنوات..
ولاحظت الأم نبرتها السلبية فنهضت عنها لولا أنها سمعت من ينادي باسم البنت، وفتحت النافذة فألفت رجلاً نوبياً يبتسم، كان أفق الشارع مملوءاً بالطائرات الورقية، هاته التي لها ذيول ذات رقائق من الورق الملون الشفاف، يطيرها الأطفال والمراهقون، وتمتلأ بها الشوارع تزامناً مع حلول إجازة الصيف، وأظلت بأجسامها المحلقة على نحو متغايد أخاذ أجزاءً من سبيل الأم وابنتها إلى الرجل النوبي، وفطنت مريم إلى حقيقة المنادي الأسمر فهمست :"حارس الفيلا.."، وقال :
- صاحبكِ (يريد نعيماً) يحملني رسالة، يقول بأنه سيعود وأبوه في هذا الصيف !
وهرعت مريم إلى الرجل النوبي تشكره، وكذلك فعلت الأم، وهبت هبة قوية فحلقت هذه الطائرة البيضاء بعيداً، وأفلتت من يد صاحبها، وسألته صابرين :
- ألم يحدد موعداً؟!
- لم يخبرني، لعله أراد أن تكون مفاجأة.
وكاد يمضي فسألته الأم :
- ما اسمك؟
- اسمي ذهب..
وقالت صابرين فيما كانت الطائرة المنفلتة تحجب قرص الشمس :
- لكل امرئ من اسمه نصيب !
والتفت إليها فيما كان يخلص قدمه من حبل الطائرة الذي علق بحذائه :
- العفو..
والتقى الشابان في هذا الصيف، وتحدد الموضع أمام الفيلا القديمة، كانت مريم تتفقد ملامحه (نعيم) فتقول :
- لقد نبت شاربك، تبدو كالرجال الكبار..
وتحسسه نعيم ثم أخذ يتطلع إلى ثقب دائري في سور الفيلا يكشف حديقتها، يقول :
- أجل،.. أشياء كثيرة قد تغيرت !
وصمت طويلاً، فقالت وهي تأخذ موضعه في استكشاف الحديقة عبر هذا الثقب :
- تبدو واجماً، كالتمثال الرخامي..
- أجل، التمثال الرخامي، كأنه الثابت الوحيد وسط محيط من المتغيرات التي نزلت بنا، يحبه أبي كثيراً حتى أنه ود لو يصحبه معه في سفره.. (ووضع يده على كتفها يريد أن ينبهها..) سأكون مباشراً ومحدداً، سأتزوج بفتاة إيطالية حين عودتي إلى جنوة..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
واستدارت عن التمثال - أو ما كان ينكشف منه عبر الثقب - إليه، تقول في لهفة وعجب :
- ولماذا حضرت إلى الإسكندرية إذن؟
- أردت أن أبين لكِ الحقيقة فلا أتركك نهباً لانتظار متوهم.
وأسلمت ظهرها للحائط ذي الحجارة الحمراء، تقول :
- شر خبر تزفه لي.
- ستكونين خير صديقة لي على الدوام.
- أفضل الانسحاب على هذا.
-....
وتراجعت بضع خطوات إلى الوراء ثم استدارت عنه عادية كالتي مسها مس، وفاضت عيناها بحزن، وطال بها المسير لا تلوي على وجهة، واستدارت إلى زقاق يعلب فيه الأطفال قفاشة الملك، وقالوا لها أول ظهورها :
- هل تلعبين معنا؟!
- لا، يكفيني أن أتابعكم.
- ستكونين الملكة، وستختارين القفاش !
وفكرت ملياً فيما يمكن أن يفضي إليه انخراطها في اللعب من انشغال عما يعتريها من ألوان الحزن، فقبلت بعرضهم واختارت منهم واحداً، وبدأ اللعب فكانت تفر منهم فراراً معجباً حدا بها إلى أن تكون الملكة للمرة الثانية، كان نعيم قد اهتدى إليها ووقف يراقبها، وتقدم - حين انتهى اللعب - فاعترضه الأطفال، يقول :
- أريد الحديث معها..
وأجابه من الأطفال واحد :
- لا حديث مع الملكة !
وقال آخر :
- لماذا لا تلعب فتثبت جدارة؟!
ووجد الشاب نفسه مضطراً إلى الخوض في مخاضة طفولية، وانتهى بهما الأمر - نعيم ومريم - إلى حال صارا معه يهربان من جمهرة الأطفال، وإنهما كذلك إذ أمسك هذا الطفل بمريم التي انتهى بها مسارها المتعرج - أشبه بالزجزاج - إلى الخسارة، بات نعيم ملكاً، وانفرد بها يحدثها وكانت تأخذ شهيقاً وزفيراً طويلين لجهد بذلته في الهرب، وقال وهما يمضيان إلى سبيل ينتهي بهما إلى الفيلا مجدداً :
- الأبرع من بين هاربين يتقلد هذه الملوكية، ويتسنم هذه المثابة المعنوية، عليكِ أن تفكري بالأمر، لا يأتي الفوز من طريق النوال دائماً، بل عبر سلسلة من الكر والفر، الفوز والخسارة، قد تخسرينني اليوم وتربحين من هو خير مني، غداً.
وقالت وهي تعود تستشرف ما يدور داخل الفيلا عبر الثقب :
- ياله من التفاف ناجح ! تحاول استرضاء ضميرك، لا تقلق، سأكون على ما يرام.. أهي جميلة؟
- من تقصدين؟
- الإيطالية.
- إنها جميلة مثل دمية، أبي يقول بأنها مناسبة. أظن أنني يجب أن أستمع لمشورته. ما رأيك؟
وفزعت لرؤية المالك الجديد يمسك بهذه المطرقة يروم تحطيم التمثال بها، وجزعت إلى نعيم تقول :
- لا أظن، باع أبوك الفيلا لمن سيحطم التمثال الملائكي !
وتسلل الشابان من فورهما إلى داخل الفيلا البيضاء فاجتازا هذه الحديقة، كان الحارس النوبي ذهب يحاول أن يصد المالك عن تحطيم التمثال لولا أن الآخر دفعه فأسلمه إلى الأرض الخضراء، وهم المالك بتحطيم التمثال الملائكي الذي بدا بدوره كأنما يستجدي السلامة بصورته البريئة، هم المالك بهذا رافعاً يده والمطرقة لولا أن نعيماً قبض عليها في الأوان المناسب، فيما كانت مريم شاخصة البصر في ذهول، وقال نعيم :
- هل جننت؟!
والتفت المالك إليه يقول :
- من أنت؟!
- جئت كي أردك عما تروم أن تقدم عليه ! لماذا تريد تحطيمه؟
- إنه تمثال عارٍ، يجب تحطيمه، من الحرام الإبقاء عليه !
- النحت تجلي الفن، لماذا تزدريه؟
- تجسيد ذوي الأرواح إثم لا يدركه الجهال... لماذا أناقش لصاً؟!
كان ذهب قد جعل ينهض واقفاً، وأشار إليه المالك أن يطرد المتطفلان، واستجاب الحارس لمطلب سيده وإن كان قد ترك للشابين الفرصة في الاستيلاء على المطرقة، وسألت مريم ذهب لدى وصولهما إلى هذا السور :
- ماذا به؟
- هذا أمر يطول شرحه، فلتهربا.
وهرع الشابان بعيداً حتى غابا عن الغاية من الأفق، فيما كان المالك يصرخ :
- أين المطرقة ؟!
وهرع ذهب إليه في توتر تجلى في مشيته المضطربة، يقول :
- لابد أنها هنا أو هناك !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق