الفصل السادس والأربعون : حلم في سيسيل
استقبل أباظة أخبار حرب سيناء في اليمن بقلب واجف مرتقب، بلاد البن والعنب، كانت نسمة الصباح وسط الحرارة القائظة قد تزامن حضورها مع قدوم الجنديين : حسن ومحمود اللذان جعلا يوقظانه، ويظهرانه على الحقائق الغائبة، وتشعب الحديث بينهم، قال أباظة كأنما يستند إلى مرتكز صلب :
- حالة الجنود هنا (أي اليمن) خير من حالة الجنود الذين حاربوا في سيناء بأشواط، سنستغل هذا في إعادة البناء.
كان شعور قاتم قد خيم على الأنحاء في السرية، وحتى في الأفق، وبدا سبيل حالك طويل ينتهي بضوء خافت عجيب، لكن أباظة - ومن عجب - شرع يسترد حافزه القديم في القتال، وقال :
- قلت سابقاً بأن الجسارة تتولد من أنقى المعاني نبلاً، اليوم صرنا نصدر عن العدالة، العدالة في استرداد أرضنا، ولنكن بني كريهة وفحول حرب، أرباب مباسلة ومغاورة ومصاولة..
ومع ما كان يظهره من بث الحماسة ويصدره للجنود فقد كان في نفسه اعتقاد أعمق مفاده أن "كل حرب هي كارثة"، ولا وجود بحق لحرب جيدة أو خيرة،.. وجاء إلى الثلاثة متطوع يمني يطلب منهم تعليمه استخدام حربة البندقية، فقال أباظة له :
- لا حاجة إلى الأمر،.. لن تطول مدة بقائنا هنا..
عاد الضابط إلى الإسكندرية قبل أن يستعد لقتال الحرب القادمة فلم يحفل باستقبال جيد، كان من الأهالي من شنع به، ونحوا عليه بلائمة هزيمة حرب لم يشارك فيها، كانت هدى حفية بمقدمه - كدأبها - وقد انتشلته من جماعة كانوا يطوقونه فيسألونه ويثقلون عليه بالسؤال، وقالت له المرأة التي أوصلت به إلى حانوت عبد الغني ثم أغلقت الباب:
- بُني : أعلم كم يضنيك هذا الشعور ! إنهم يضيفون إلى محنتكِ ويضاعفون من نقمتك، ولولا متانة خلقك لانفجرت فيهم انفجار الغضب.
وقال أباظة :
- أثمن قولك هذا وأحفظه لكِ حفظ الشاكر الممتن، بعض الناس ذهبت الهزيمة بعقولهم.
كان عبد الغني حاضراً فقال :
- إنهم معذورون..
وتدخلت المرأة تقول :
- لا عذر لهم، لا يسأل جندي اليمن عن حرب سيناء.
وقال أباظة :
- أثمن لكِ هذا مرة أخرى، سيدتي..
كانت أميرة تجلس على مبعدة من الثلاثة تجهز مفرش كروشيه، وقالت:
- لقد اكتشفت أن في هذه الحرفة (الكروشيه) ما يخفف القلق، عشنا أياماً قلقة وجلة كأننا على حافة القيامة.
وساد صمت دون أن يخلو ذهن الثلاثة من الفكر، خصوصاً أباظة الذي جعل يهز قدمه في عصبية وتوتر، كانت أميرة قد انهت المفرش المطرز في خلال مدة الصمت ووضعته تحت صينية من الفضة بعد أن وزعت ما عليها من أكواب الشاي، وعادت بها خاوية قرب قفص ببغاء الكوكاتيل، وشرب أباظة من الشاي ما أزاد توتره فكأنما هو اللهيب، سينتقل الضابط سريعاً إلى موقع من مواقع القتال الخطرة، وود أن يشيع حلمه القديم، حسبه خطوات إلى فندقه الدافئ المنعم،.. قصد إلى سيسيل في ليلية مشبعة بالنسائم المنداة، يطل الفندق الذي شيده الثري الألماني "متزجر" على كورنيش الإسكندرية، وميدان سعد زغلول، ومحطة الرمل، ووقف أباظة أمامه مجللاً بشعور عميق بالغضب والحسرة، ولم يشعر بالراحة في خضم ما انتابه من أمل منعم، وأحس نفسه أسير بذلته، لقد هرع بعيداً وهو يقول :
- ليس هذا وقته.. ليس هذا وقته..
كان الناس يستوقفونه، يقصدون سؤاله عن القادم :
- ماذا بعد ؟!
وكان يتخفى من نفسه وسط الناس، ويتخفى ببعض الصامتين عن السائلين، وإنه لعلى هذا الحال من سعيه الحثيث حتى بلغ الكورنيش، وود أن يقفز في عباب البحر، أن يتلاشى في موقف الرجاء والإلحاح والتيه، أعاد البصر إلى الفندق الذي بدا - بآماله وأحلامه - صغيراً، وتبدت تحته مظاهرة من الآدميين صنعتها حركته بطول المسافة التي قطعها.
في موقع ثانٍ..
نجح فؤاد في كسر هذه العزلة التي ضربها عليه أبوه عبد الغني منذ فقه في تردده على السوق الخطرة بجبل نعسة، وتسلل في مساء هذا اليوم على مشهد الأنجم المتأرقة - كأنها العيون ترقبه - إلى أن بلغ ملتقى الكادحين والمجرمين، هناك، كان جاسر يقول :
- ألهبت الحرب الأعصاب على نحو استشرت معه الجريمة، بتنا نسمع عن جنايات تعطيل المواصلات، والسرقات، والعنف في كل مكان..، كان خليقاً بنا أن نشارك في حفلة اللاقانون هذه..
وقال عبد الشحات :
- ونخسر سمعتنا كمجرمين شرفاء ؟!
وكان أحد الحمال ينقل شوالاً من الدقيق، فتسرب منه شيء أضر ببنطال جاسر الجينز، فزجره الرجل وهو يعالج آثار ما انتشر في الهواء الرطب من الدقيق وتحسست له عيناه، وكان الرجل يلكز كل مستهتر في محيط العمل كما تُلكع الشاة فيضرب ضرعها لتدرّ، وقال لصديقه :
- ألا ترى هذا التناقض في عبارتك فاقدة المعنى؟!
وقال عبد الشحات وهو يحاول استرضاء الحامل الذي زجره جاسر بحركة يده على ظهره (أشبه إلى الطبطبة الثقيلة) :
- لماذا نتهالك على الجريمة وبلادنا تنزف في ميدان أشد؟
وارتفع صوت جاسر يقول :
- تحدثني وكأنك نادم على ما لم تكن لتجد لولاه ما يطعم فمك، لا تنسِ حقيقتك، تجيء بالصبية الأقوياء من كل ربع كي تجعل أيديهم الغضة تتعفر بأتربة العمل الصعب.
وحدثت جلبة في موقع العمل بين الحمّال سقطت لها أعواد الشيح/البعيثران المعلقة، وبدا كأن الفئران قد استأنفت - لأجل ذاك - نشاطها.. وهناك حاول أحد المتعلمين من ناقلي البضائع تحقيق الصلح والوفاق بين المتخاصمين فدفعه جاسر دفعة قوية استدعت أن يقول عبد الشحات له :
- تغار من المتعلمين لأنك أمي جهول، تجد سلواك ولذتك في الحط منهم، والإزراء بهم.
وكان فؤاد يتسمع لحديث الخصومة المستعرة في شيء من الترقب والاهتمام، كأنه المشاهد المهتم في صالة عرض يدقق في مشهد الذروة لفيلم بحركة عنقه المشرئب، واقترب منه فأر فحاول الشاب أن يكتم انفعاله من الحيوان الذي كان كثير التقزز منه، بينما سمع جاسر يقول كأن حديثه يصدر من اجتماع الضباع في غابة :
- لقد جاوزت حدود الصفح والغفران..
واشتبك الرجلان اشتباكاً ضارياً، كانت قلوب الحمال تقف إلى جانب عبد الشحات الذي كان أقرب إلى التعبير عن شعورهم العام، كانوا يحسبون أن فيه غلظة دون غلظة جاسر، غلظة تتناسب مع واجبات العمل الشاق غير القانوني ولا تصل إلى الحمق، ولكنهم - مع ذاك - لزموا الحياد، برز تفوق جاسر على عبد الشحات حين شروعه في استعمال انسياله الفضي، وأما البشر فمكثوا على حالهم من اللافعل كأن على رؤوسهم طيراً، وخشوا من مصير الغنم التي أُرسل فيها ذئبان جائعان،.. ولاح على الأرض ظل أقصر من المعتاد اجتاز زحامهم غير المفيد، المتشاجن في غير نفع، كان هذا الظل القصير لفؤاد الذي ترك بدوره موقع المشاهد، والتفت إلى الحُمّال يستوقد فيهم حمية الخلاص من جاسر، ولكنه لم يجد ما توقعه منهم من الاستجابة لصغره وهوانه في نظرهم، كان الشاب مولياً ظهره لجاسر الذي عدا نحوه تاركاً عبد الشحات في غضبة، وكاد يجهز عليه لولا أن سمع الجميع صوتاً ينادي :
- فؤاد.. فؤاد..
كان الصوت لعبد الغني الذي بدا كأنما قد أرهق من طول البحث عن نجله، وأبصر الحادث فتقدم في همة خارقة، وانفرط عقد الحمال متشجعين بمقدم الرجل القوي فتضافروا على الخلاص من جاسر، وذهب عنهم الروع.
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
في عشية هذا اليوم، ذاع نبأ الخلاص من جاسر في ربوع المدينة وأحيائها الشعبية، زغردت فلاحات الورديان كأنما جاءتهن البشرى، واستمع أباظة لفرحهن - كنغم من مقام العجم تعزفه قيثارة جُعلت أوتارها السبعة أو الثمانية من زمرد - وكان يستعد للحرب في حجرته استعدادها النهائي، إنه (أباظة) يقف فيبصر صورته النهائية ببذلته المموهة ينفض عنها بعض التراب أمام مرآة لا تخفي حيرته وقلقه، وسمع حبور الفلاحات فخلع قبعته العسكرية، وانبرى يرقب تجمهرهن من نافذة علوية، وارتاحت نفسه ارتياحاً منزهاً، ولكنه بعض ارتياح،.. كأنما انتصر في حربه الصغيرة، بعد هزيمته في حربه الكبيرة !
في موقع ثالث..
أصيب مراد بخيبة من جراء التباس الروايات حول نتيجة الحرب في الأيام الأولى من يونيو، كانت محبته لعبد الناصر تُختبر بشدة بين ما يُذاع في الإذاعات الوطنية، وبين ما ينقل شفاهة على الألسنة، ولكن الشاب - شأنه شأن المحب - كان يرفص التسليم، فيتشبث بأضعف الروايات التي تدعم انتصاراً كبيراً متوهماً ينتهي لدى أبواب القدس وقبة الصخرة، كقناعة الوالد بنجاح نجله وبنزاهته رغم كل الشواهد التي تدله على غير ذلك، إنها محبة المصير المشترك فوق أن تكون محبة التعقل أو التبصرة، ونزوع التأثر بالإلهام فوق سواه من المعاني، وهبط إلى الحانوت يتخفف مما دار في ذهنه، يومذاك، ولم يكن في السماء من جرم واحد والقمر في طور المحاق (New Moon)،.. وصادف أن كانت أميرة خارجة من هذا الحانوت وفي يديها صينية الفضة، وعليها أكواب الشاي الفارغة، وأخذت الفتاة برؤيته (مراد) فاهتزت الصينية من يديها، تراقصت لأجل ذاك انعكاسات الضوء على معدن الفضة، وانكسرت الأكواب، ما خلا واحدة تدحرجت بطول السبيل، وقال مراد يداري خيبة :
- آسف جداً لما وقع !
وقالت كأنما كانت تُحمِّل حديثها معانَ أكبر من موقف عابر :
- لا تأسف على حادث.. ما نفع الأسف؟ هل يعيد ما ضاع؟
ولم يجرؤ على النظر إليها فهام ببصره حيناً، ثم تساءل يخفي حرجه :
- وإلى أين تقصدين؟
وقالت وهي حاملة صينية الفضة بلا أكواب :
- وددت أن أعيدها (أي الصينية) إلى البيت، الأكواب أيضاً، أعني قبل أن تنكسر!
وقال في أسف جديد كأنما أودت الشدائد بمهجته :
- أعذريني، تلابست الهموم في خاطري، وفاة نرمين، وفاة أبي، ثم هذه الأنباء التي لم نعد نميز الصادق منها من الكذوب، تتراوح التقديرات تراوحاً متفاوتاً جداً على نحو يفقدها جميعاً المصداقية،.. بت أرغب عن الحياة.
وقالت تواسيه في مصائبه :
- كما يقولون : الموت نقاد على كفه جواهر يختار منها الحسان.
كان الكوب لا يزال يتدحرج وقد استقر لدى قدم أباظة الذي كان قد جاء لتوديع هدى وعبد الغني، وهبط يجيء لها به (الكوب) على مشهد من مراد، وقالت أميرة بعد أن أفسحت لحركة الضابط كي يلج إلى الحانوت في حين بقت تتحدث إلى الأول (مراد) :
- لقد انجلت الحقائق واضحة بينة، أظهرنا أباظة على ما وقع في الميدان، وسيطلع عليه الناس غداً أو بعد غد !
وانفعل مراد يقول كأنما يستكشف غامضاً في تؤدة :
- هل هُزمنا؟
- هزيمة كاملة..
وضغط مراد على شفتيه كأنما استمع لخبر وفاة ثالث، ولكنه تجشم وتجلد، ونظر إلى القمر وكان محاقاً فنطق عبارة موحية :
- ما أشد حلوك هذه الليلة !
وقالت في عبارة ذات دلالة عميقة، كأنما تشير إلى ميلاد عهد جديد بعد فترة من الظلمة العارضة :
- إنه الكسوف، كسوف الشمس لا يحدث أبدا إلا إذا كان القمر جديداً (محاق)..
خرج أباظة من الحانوت فأخذ مراد يرقبه حتى ابتلعته المسافة وسط التفاف الخلق حوله، كانت أميرة قد انصرفت عن مشهد الرجلين.
هذا وعلا في حيّنا صوت نداء هاتف :
- لقد انتصرنا في الحرب،.. لقد انتصرنا في الحرب !
كان الصوت لخليل الذي مضى يبثه في ربوع الإسكندرية تسبقه عربة الفول، بمشية قدمه المعتل، وبصوته الشائخ كأنما هو من جوف البئر يصدر، والناس في طرب منه وحبور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق