الفصل السابع والثلاثون : وجه يتحدى الزمن
أصر لويس على أن يقيم لزهير معرضاً للرسم، جعل له اسماً : إبداعات شاب في الثالثة عشر، والتقطت العدسات صورة زهير فيما كانت عفاف تحثه على الابتسام، فيما يملأها شعور بالفخر والرضا، وقال لويس يرمقه في عطف مماثل :
- "ستكون خطوة على طريق من ألف ميل.. لماذا لم يحضر يوسف؟".
-" يقول بأن شواغلاً طرأت قد منعته..".
واجتمع لويس مع عفاف بعدئذٍ في مطعم Bouillon Chartier الفرنسي العتيق، يقول :
- "هل يمانع السيد يوسف حضورك هنا، مع غريب؟!".
- "لا أظن، إنه اجتماع عمل، أليس كذلك؟".
وأحاط عنقه بمنديل يقول :
- "من المقلق للغاية متابعة أخبار السياسة المصرية، لست متخصصاً في هذا الشأن، ولكني أخشى أن تفضي السياسات الحالية لعبد الناصر إلى الانفجار..
ووصف لويس عبد الناصر بعدئذٍ بـالمفردة الإنجليزية firebrand وهو شخص انفعالي يجيد شحذ شعور الآخرين وتهييجهم، وتحدث عن تسببه في قتل إلإمبراطورية الإنجليزية ثم جعل يقول :
- "لقد زرت الإسكندرية ولا أريد لمدينة على هذا القدر من الجمال أن تُدمر..".
وقالت وكانت عيناها تتحسسان من بيئة المطعم المبهرجة، المليئة بالأنوار :
- "يعرف عبد الناصر ما يفعله، يبدو مغامراً لكنه يحسب عاقبة الأمور، إنه يحظى بالتفاف الشعب العربي، دعني أفصح لك عن أمر: تمجد الثقافة العربية صورة الفارس، وهي في سبيل هذا قد تتسامح مع الأوزار والخطايا جميعها..".
وهم بتناول الطعام، يقول :
- "لا أعتقد أن هذا مما يثير الطمأنينة في نفسي أو في نفسك، حضارتكم قديمة راسخة تعود إلى أربعة آلاف عام..".
وتدخلت في حماسة :
- "سبعة آلاف..".
- "مهما يكن، لكن مشكلة شعوب الدول ذات الحضارات العريقة أنهم نزاعون إلى تنزيه أنفسهم، إنهم يعتقدون أن الوعي الجمعي لمجتمعاتهم لابد أن يتواطأ على السير في الاتجاه الصحيح..".
وقالت :
-"ملاحظة ذكية، وفي ومحلها،.. أن تمضي متخففاً خير من أن تمضي حاملاً تركة الماضي على كتفيك..".
وأردف يقول :
-"إنني أمريكي، بمقدورك أن تري كيف نمت بلادي بعد حرب الاستقلال (1783م) وفي أقل من مائتي عام لتتسيد الحضارة المعاصرة..".
وقالت، وكان قد شغلها حديثه عن الطعام :
- "أجل، الفائز من يكتب الفصل الأخير من القصة..".
وأردف يقول :
-"بدأت الأمور بعد الثورة الأمريكية برقعة محدودة : ثلاثة عشر ولاية، وقوة بشرية لا تزيد عن أربعة ملايين إنسان، من الفترة الكونفدرالية، لعصر جيفرسون، الحرب الأهلية، إعادة الأعمار،.. إلخ ! أثمرت سياسة الحياد في الحرب الأخيرة كثيراً..".
وقالت :
-"أجل سياسة الحياد، الأمر أشبه بأن تنتظر حتى يستهلك المتنازعون عتادهم وطاقاتهم، ثم تقفز إلى المشهد فتلملم الغنائم..".
وجعل يحاسب النادل مبالغاً في إكراميته بينما يقول لها :
-"ليس الأمر بهذه البساطة..".
وقالت :
-"قرأت عن المجتمع المصري اليوناني في الإسكندرية البطلمية، فالروماني، انتشار المسيحية، العصر العثماني، والحديث،.. أعتقد أن تاريخ الإسكندرية كان ليمضي في اتجاه أفضل إذا لم تتعرض للغزو العثماني..".
-"لا أحد يعرف الغيب..".
ولم تجد في إجابته ما يرضيها فواصلت :
-"لقد كنا في غيبوبة حقيقية إبان العصر العثماني، كأنما حيل بيننا وبين نتاج الثورة الصناعية،.. أَضرت هذه الفترة بالذهنية العربية، بات هناك من يحرم الموسيقى، الرسم، النحت.. هل تصدق أن ثمة من لايزال يحرم موسيقى الجاز التي تقدمها ويعدها مزموراً للشيطان؟".
-"إن هذا لا يصدق.. لا أريد أن أجعل من جلسة ودودة كهذه مجالاً لاستعراض التاريخ.. ما رأيك في الناس هنا (يريد سكان باريس)؟!".
وقالت :
- "يؤثرون الخصوصية وبهم نزعة إلى التهذيب، على المجمل، احتجت وقتاً كيما أتأقلم مع طبيعة العادات هنا، يتطير بعض الناس هنا مثلاً من الرقم 13، ويتشاءم بعض كبار السن الذين عرفتهم من ورود الأقحوان لأنها تستخدم في الجنازات، وتذكرهم بحقيقة الموت.. وهلم جرا..".
-"هل تخشين من الموت، سيدتي؟!".-" الجميع يخشون منه..".
ومضيا يأكلان في لون من الترفع والتحسب اللذين يفرضهما الوجود في المكان الراقي، والتفت إليها فبرقت عيناه في إعجاب يقول بعد أن يكشف عن صندوق أحمر صغير :
- "جئت بهذا العقد الذهبي هدية لكِ، سيدتي.. (وابتسم بينما يفتح الصندوق يقول..) وحيث أني أعتبرك مصرية فرنسية، فالفرنسيون يفتحون الهدايا فور استلامها..".
وتطلعت عفاف إليه في استغراق ثم أصابها صنف من الهلع الغريب، مد لويس يده يريد أن يلبسها هذا العقد، في حين نهضت تقول :
- "لابد أن أنصرف..".
حين غادرت الاجتماع كان شعوراً عميقاً بالذنب يؤرق ضمير المرأة، كأنما اقترفت بحضورها إثماً لا يغتفر، لماذا يعرض عليها الرجل بريق الذهب إلا لغرض؟! إنها محاولة للتقرب لا جلسة عمل أو صداقة، ويوسف ! أجل، يوسف، سيغضب كثيراً إذا هو علم بوقائع ما حدث بـ Bouillon Chartier، ولكن أنى له أن يعرف؟! كأنه كان يراقبها على الدوام، هناك، وتذكرت أيامها الوالية معه، تزوجها الشاب على غير رغبة أبيه، وتقبل الأثمان يدفعها في سبيل هذا راضياً قانعاً، وباتت تتخفى وسط المشاة العابرين مجللة بهذا الشعور، تمضي في الظلال كالتي توجس في ظلام، ستصرح له بما وقع دون خوف، وليكن ما يكن، ولتنتهِ الهدنة الأخيرة، أمانة الضمير خير من أمانة الأمير،.. عادت إلى البيت، كان يوسف يقول :
- الإنصاف يقتضي أن أحمد للويس ما فعله، كان معرضاً فنياً أقامه لزهير اليوم آية في السناء والبهاء، رأيت بعض المشاهد عن الحدث عبر الصحافة، كنت مغالياً بشأنه، يبدو لويس نزيه الغرض..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
وقالت في شيء من خوف :
- أجل، رب ظن بالناس يخيب، وحدس لا يصيب ! كان جديراً بكَ أن تحضر معرض ابنك زهير !
- انشغلت في مطعم المأكولات، أضفنا العدس وقد لاقى رواجاً !
وقالت في قلق :
- تضيف الجديد دائماً، عزيزي، تملك عقلاً خلاقاً.
وأضاف شيئاً عن الكسكسي المغربي الذي اقترح تقديمه في القصع الخشبية، ولكنها بدت شاردة عنه وعلى حال من الاضطراب، وهناك التفت إليها مدققاً يقول :
- لماذا تبدين خائفة؟
ووقفت تقول كأنما تنوب إلى حقيقة :
- أعتقد بأنك كنت محقاً بشأن لويس، والشهرة.
وكان يوسف يغطي زهير وحسين ثم يلثمهما في مواضع من وجهيهما الدافئين، فاستوقفه ما سمع، قال :
- من الجيد سماع هذا.
قصد يوسف إلى حمود الذي استقبله متوشحاً بالحزن يقول :
- لن تصدق ما جرى لمارسيل، قتله أحد متطرفي الرأي هنا من العرب، في أحد الحانات، لا يزال التحقيق جارياً.
وجلس يوسف في صدمة، يقول :
- إلهي.. جريمة كهذه لا أتصور أن تقع إلا في عالم مختل، كعالم اليوم.
وقال حمود :
- كنت دائم الخلاف معه ولكنني بكيته بصدق.
ومضت فترة من الصمت استعاد فيها يوسف بعض حلقات اجتماعه مع مارسيل، فتلوى ضميره بحرقة، عرض عليه حمود مسكراً لكن يوسف أبى قائلاً :
- لن أشرب اليوم لأنني سعيد..
- وكأن الشراب غاية الحزانى وحدهم، أعذرني، هذا ما يصورونه في دراما الأفلام جهلاً، بعض الشراب يكون طلباً للسعادة ذاتها،.. ولماذا أنت مبتهج؟
وقال يوسف وهو يعتدل في جلسته كأنما ينقلب حزنه الباقي على مارسيل سروراً :
- قطعت عفاف صلاتها إلى مغني الجاز الأمريكي، باتت تعاني الأرق في الأيام الأخيرة، ولعلها خسرت شهرة كانت تتشوف إلى عتباتها، وفي غير أمل، إنني ما عجبت من حزنها أقل العجب، لقد جُبلت عفاف على حب الأضواء، منذ كانت تصعد على خشبات مقهى الفنانين وحتى يوم كانت تتصدر فيه صحف الأزياء العالمية، ولكن شيئاً قد طرأ ولا أعرفه حملها على نبذ الرجل من حياتها، لا أخفيك سراً بسعادتي إزاء هذا الذي حدث !
وقال حمود :
- تملك هاجسين، أستطيع أن أخلص إلى هذا من طول معرفتي بك، تخلصت اليوم من عقبة كأداء، هاجسك الأول، وبقت عقبة أخرى : أن تعود مدينتك (الإسكندرية) عشرين سنة إلى الوراء.
- لم يعد الأمر رجاءً بل هو الإبقاء،.. أجل، أخشى أن تنتكس المدينة انتكاسة أخرى من جراء حرب تبدو وشيكة الوقوع، لائحة في الأفق.
- ستكون المناطق الحدودية، العاصمة، في مرمى النار إذا وقعت حرب، العالم الثالث برمته سيقف معكم، والجزائر.
وقال يوسف :
- أخشى أنهم فرقة وشتاتاً دون المطلوب، تتأثر البلاد كلها ومن جهة اقتصادية حين تقع حرب، ينسحب الأمر على أبعد النقاط الجغرافية، لست خائفاً على الإسكندرية إذ هي خسرت كثيراً على نحو أنني لا أتصور أن تخسر بعده مزيداً، إنه وئام الثقافات المختلفة الذي خسرته في مناخ تفرضه الشيفونية الحالية.
وقال حمود كأنما لم يستمع لمحدثه، يواصل من حيث انتهى :
- الاتحاد السوفيتي؟ الكتلة الشرقية؟ لا نعيش في عالم ثنائي القطب، ألم تسمع عن عدم الانحياز التي كان لكم دور بارز في تكوينها؟!
- خسرنا جميع حروبنا السابقة،.. ألا يدعوك هذا إلى بعض التأني حيال حرب قادمة؟ بعض العرب يضعون المقاومة سقفاً لطموحهم، لا وقفة الند بالند، فريق آخر لا يفهم للسياسة أو للتفاهم معنى كأنما يروم الفوز في لعبة شطرنج لدى أول نقلة، وكأن أخلاقية أو عدالة الموقف الذي تصدر عنه يضمن لك الانتصار الحتمي والفوري، أتمنى حلول السلام العادل على أي حال، السلام رجاء العقلاء.
- ...
وقال يوسف :
- قلت منذ قليل بأنني أملك هاجسين في حياتي، وفي هذا حسن ظن بنفسي النزاعة إلى استدعاء القلاقل، إني أخشى الموت والشيخوخة.
ونظر إليه حمود يقول :
- تملك وجهاً طفولياً، أولئك الذين يملكون وجهاً كوجهك لا يشيخون ولو امتلأت وجوههم بغضون الكبر.
وتطلع يوسف إلى حمود في رضا يقول في شيء من التندر البسام :
- أجل، أملك وجهاً يتحدى الزمن..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق