روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

2024/09/02

خطاب من لندن عن ذكريات الحب

الفصل العشرون : خطاب من لندن عن ذكريات الحب



راجت تجارة عبد الغني رواجاً عظيماً بعد رحيل صديقه زكريا، كان يضع قبعته الإنجليزية - التي بقت معه من يوم توديعه في الميناء - على مكتبه، وإن تناسى الرجل عملياً، ويوماً جاءه بهاء الدين فقال بعد أن جلس وهو يلحظ مظاهر الازدهار التي بات ينعم بها المكان :

- مبارك لك،.. خير خلف لخير سلف ! إني أكاد أرى عز الدين مبتسماً في مثواه..

وقال عبد الغني في اعتزاز يواري خجلاً :

- لم يكن ليتم الأمر لولا مساعدتك الأولية..

وتساءل بهاء الدين وهو ينظر إلى القبعة :

- بربك.. ولمَ تضع هذه القبعة هنا؟!

وأجاب الشاب مرتبكاً بعض ارتباك :

- إنها لصديق كان قد رحل إلى بروكلين..

وقال بهاء الدين بعد أن مد ساقيه وأرخى كتفيه في مقعده :

- آه.. إنها قبعة الرجل اليهودي، لقد قصت عليَّ هدى قصته، ولا أفهم لمَ وكيف تتبرك بها؟!

وهنا ذكر بهاء الدين شيئاً عن فضل الشيخ محمد رفعت في حياته، وقال عبد الغني وهو يستحضر مشهد زكريا راحلاً فوق باخرة المسافرين :

- ليس التبرك، ولكنه وفاء الصداقة، كان زكريا مصرياً نقياً قبل كل شيء.. ثم ألم يحدث أن وقف النبي لجنازة رجل يهودي؟!

وساد صمت ارتفعت فيه صوت الأطفال يلعبون بكرة من غراء الكلة، وكان ذكر الأنبياء في الحي يقطع جهيزة قول كل خطيب لدى أهله الذين دأبوا على أن يستقوا آداب الحياة والسلوك من الموروث الديني، وإن عدمت ثقافتهم الشعبية من رافد آخر من روافد الثقافة، فقال بهاء الدين في سلام كالذي ينطق بأمر لا يثير عجباً :

- لقد استقلت من مجلس الأمة، كان الأمر برمته أشبه بمسرحية مملة وقد تملصت من دوري فيها في رمية واحدة، إنه ضجيج بلا طحين.. وسوف أعود إلى تجارة الأخشاب (وهنا بوغت عبد الغني بعض مباغتة..)، إنها (التجارة) قلقة غير أنها حقيقية ولا ذرة افتعال فيها، في السياسة يمسك الملك والإنجليز بأعنة الأمر، وأما التجارة فمتروكة لمنطق العرض والطلب، وقد يأسى المرء لخسارة المال ولكنه يقاسي عسفاً أمام قلة الحيلة.. أعني أني سأعود إلى ذاك الحانوت الذي كنت قد أوكلت بتجارته إليك !

وقال عبد الغني وهو يجفف عرقاً :

- كان الحانوت ملكاً لك دوماً، وقد عاد اليوم إلى صاحبه..

ومرت جنازة النيجرو فوقف بائعي الحوانيت على الجانبين يشيعون نعش الفتوة ذا المآثر الغابرة بقراءة الفاتحة، وكاد عبد الغني يقف مع الواقفين لولا أن بهاء الدين احتد عليه قائلاً :

- وهل يقف الحر كي يشيع جنازة قاتل؟!

وقال عبد الغني وهو يأخذ يجلس استجابة لعمه :

- أحبه الناس عدلاً أو ظلماً، (ثم وهو يعود يستقر في جلسته..) آه.. كم  أدمى قلبي وفاة الحصان !

وقال بهاء الدين وهو يتأمل قطعة أثاث :

- يعشق العوام الجبابرة، حتى إذا فقدو ظلهم أحسواً فراغاً واختلالاً أورثهم حزناً عجيباً ! إنهم يرومون نظاماً، أي نظام، حتى لو كان النيجرو رأساً له !

وقال عبد الغني :

-  إن في طلبهم للنظام منطقاً أستطيع أن أستسيغه، من الخطر أن تبقى الأمور بغير ضابط، ماذا لو أن النيجرو هو خير رأس في عينة تعاني كلها من النقائص والعلل؟ لعل المثالية تفسد تصورنا عن كيف تسير الأمور في حيّنا، إن قوانين الطبيعة - من حيث هي ممنطقة وممنهجة - ميالة إلى خلق النظام في الأشياء نزاعة نحو خلق الهرمية، وحين ينهار واحد (نظام) في غير الظروف الطبيعية يعود يأتي من هو شر منه.

وقال بهاء الدين مفتعلاً انبهاراً :

- إنها عقلية مهندس مؤسس لا تاجر بارع هذه التي بت تنطق بها !

وسدد الأطفال الكرة فأصابت قدم بهاء الدين، ونهض الرجل يزجرهم، وهنالك جاءه عبد الغني يحدثه من وراءه كالذي وجد فرصة سانحة لا يكون فيها يحدثه وجهاً لوجه، كأنما يتقى رفضاً :

- إني أروم الزواج بهدى..

وحدث الزفاف - أخيراً - في ليلة تزين فيها الحي الشعبي بالمصابيح والزينات، وأمعن فيها عبد الغني في الرقص بالعصا، إنها هبة جديدة - إلى جانب تطويع الجريد - اكتشفها الرجل يومذاك فبهر بها جمهور العرس، وبكت فاطمة ففاض دمعها في منديلها ذي المربعات الزرقاء، وغطت عينيها به حزناً وحبوراً، وكانت هدى ثالث المتزوجات من أبناء بهاء الدين بعد أن لحقت بصابرين ويوسف، وأشعت حياتها سروراً خالصاً احتوته جدران البيت الجديد الذي جعل له عبد الغني موقعاً في مواجهة حانوت الأثاث، قريباً من عقار بهاء الدين، وأظل الزوجين ود ورحمة في غمرة اللقيا بعد الاشتياق،.. وكان بهاء الدين يقول :

- لقد فرغ البيت من شغبه المحبب برحيل الأبناء الثلاثة.. 

وشرعت فاطمة تعزيه بقولها :

- إنها سنة الخلق في إدامة التغير،.. وسبحان من له الدوام !

وطالت المدة دون مجيء الطفل الأول، واحتدم الحال بعقد المقارنة بين الأختين، وكانت صابرين تنصح أختها بالعسل والتمر وأوراق البرقوق كمنشطات طبيعية للحمل، واشتدت محنة الفتاة بطول المدة دون ظهور الأعراض الأولية كأنما أمست أياماها جزءاً من كابوس ليلة أرق، ويوماً قصدت إلى مدرستها بالإبراهيمية، وكادت تعرج إلى حجرة المدير فضيل لولا أنها تذكرت ما جره عليه ارتباطها بعبد الغني من أسى حل بالرجل ولمسته طوال الأيام الفائتة، ولكنها غالبت رغبتها في الامتناع عن تحيته شفقة عليه من أن يفقد الرجل تحيتها العابرة له بعد أن فقدها، وقالت بغير أن تنظر للجالس :

- نهارك سعيد !

وكادت تمضي إلى حال سبيلها لولا أن افتقدت الجواب المألوف"نهارك أسعد"  فعادت تنظر عما هنالك كالمترددة، وألفت كرسي المدير شاغراً، وشخصت إلى الكرسي طويلاً في أسى حتى أسلمها طول التفكر إلى شرود قطعه قول الناظر لها :

- لقد هجر فضيل مصر إلى لندن..

وابتلعت الفتاة الخبر - بعد فترة صمت - بقولها :

- كانت هذه إرادته دوماً.!

وكادت تنصرف مرة أخرى لولا أن نادها الناظر يقول :

- لقد ترك المدير رسالة إليك.. كيف لي أن أنسى مثل هذا الأمر؟ سأصاب بالخرف يوماً !

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وحثها الناظر على الجلوس في موضع المدير الشاغر حالما تنتهي من قراءة الرسالة فقبلت مُجلَلة بتداعي الحوادث :"لقد كان من الشائق دوماً أن يتعرف المرء على من يضفون المعنى على حياته الخاوية، هنالك يساوره الامتنان وتستبدل نفسه بالوحشة تغمره أنساً من نوع محبب، ولا ريب أن مثل هذه الأوصاف لتنسحب على هذه المواقف التي أنعمت بها الظروف عليَّ حين جمعت بي إليك في شارع شريف، وفي عزاء عز الدين، وفي مرات ترددي على الفصل الذي كنت تتولين مهمة التدريس فيه، بتفان يجل نظيره، وحب يغمر تلاميذك، ويتجلى في خطاك.. وقد قصدت منذ ما يربو على اليومين إلى مدينة لندن تاركاً تجربتي الثرية هنا، إنني هنا أتابع بطولة ويمبلدون، أقدم بطولات كرة المضرب، وتثور حماستي، وتنشط رغبتي في الحمية حين أرى اللاعبين من ذوي الأجسام المفتولة، يقذفون بالكرة الصفراء فوق ملاعب العشب الأخضر، وأزيد أقول إنني كنت في مصر - كالكرة - مُشتت بين ألق التطلع وبين محدودية القدرة، وأزعم أن سفري قد قطع هذا التردد ورده إلى قناعة مغلفة بحكمة التسليم.. لقد كان من المثير أن أتابع تجربة إعمار مدينة الضباب بعد خراب الحرب، إنها جذوة الآلهة تتجلى في نفوس أولئك الذين تصدوا للأمر، فأحالوا الخرائب المنتهية واحات حضارية يُغبطون عليها ويُحسدون.. وقد تسنى لي أن أعقد المقارنة في جولتي بأراضيها الباردة بين شارع بوند وبين شارع شريف فأكاد أميل إلى الأول مأخوذاً بتجربة السفر الطارئة وآمالها المتدفقة، وأوشك أن انحاز إلى الثاني حين يغمرني حنين ذكريات الماضي ودفء الوطن،.. إنني في انحيازي إلى منجزات حضارة الغرب لم أفقد اتصالي بعد إلى الانتماء القومي، وقد أكبر في الإنجليز براعتهم إكباراً أزال عن منفاي وحشته، بغير قطيعة مع مصريتي،.. وعلى المجمل فإنني إنجليزي الهوى مصري المنشأ والمنبت، قنوع اليوم بأن أشواطاً تفصل البلاد عن الحكم الذاتي، وغاية ما في الأمر أني أريد الخير للجميع.. يسألني الإنجليز عن مصر الساعة فأجيب :

- "إنها تخوض مخاض الحداثة، أسيرة ماضيها الأثيل، وتتألق فيها معاني الأشياء كما لا تتألق في ربع آخر من ربوع العالم المتحضر، ولكنها مقدمة على تحول ما مقلق غاية القلق !".

وسألني الرجل :

- "وهل يعني هذا أنك قفزت من مركب غارق؟!".

- "ربما !".

وقد أمكنتي ظروفي المادية من وضع لبنة أولى لجمعية للمشردين في لندن، وقد اتفقت إرادة كثير من الإنجليز على مشاركتي الغرض عينه وقد ألهمتهم تجربة Father Henri-Antoine Groues  في باريس حين أسس جمعيته الخيرية المعروفة بـ Emmaus في مدينة الجن والملائكة، إنني في ذلك أحذو حذو الرجل الفرنسي المعروف بـ Abbé Pierre آملاً أن يصل بي سبيلي إلى بعض مما انتهى إليه.

إن هذه رسالة أولى وأخيرة، وقد أعرف أن من دواعي الأدب أن يضرب المرء صفحاً عما ليس له، وألا يلح على ما قد كتب لغيره أن يحوزه !".

كانت هدى مأخوذة الحواس ساهمة الفكر حين انتهت من قراءة الرسالة، وقالت للناظر وهي تغالب انفعالها :

- كان ينبغي أن أودع الرجل بنفسي، ولكنني، وللعجب، لم ألحظ رغبته أو أستشفها إلا حين اختفائه ! كنت أعبر وأعبر ولم يخطر ببالي أن أسأل عن حال الرجل..

وقال الناظر وهو يحك مقلة عينه بتأثير هواء البحر المالح الذي يجيء إلى المدرسة من طريق البحر :

- إن المنظر المتكرر لا يلفت النظر ولا يشغل الذهن، حتى إنَّ بعض من ينام على دورة الرحى يستيقظ عند سكونها، وكان خليق به أنْ يوقظه دورانها،.. قرأت هذا يوماً في أدب المنفلوطي! (ثم وهو يخرج شيئاً من أسفل مكتبه..) لقد ترك فضيل عصاه تذكاراً لكِ !

وانصرفت المرأة وقد نازعتها رغبتين متضاربتين، فمن جهة فقد تخلصت من عبء نفساني كانت تنوء به متركز في مرات عبورها من جانب مكتب الرجل، وفي أحيان لقائها به، وفي أوقات كانت تجده فائضاً بعاطفة لم تثر في نفسها قط مثلها فيركبها الخجل من جوابه،.. ومن جهة فقد تضاعف شعور الرثاء الذي تكنه نحوه، وقد تصورته في بلاد الشمال حيث تموت الطبيعة في صقيع لندن مهزوم الفؤاد،.. وعادت تتذكر كم كان فضيل كثير الذكر للمدينة التي انتهى إليها "لندن" بقلب لا يُصدّق، ومرقت من الباب صاعدة الدرج إلى الفصل بخطى مرهقة لسبب لم تحدده،.. وتنهدت تحدث نفسها وهي تنعطف :"رباَّه.. أيكون الحمل أخيراً؟"، ولكنها ما لبثت أن استبعدت الأمر من فورها حين تذكرت كم كان مجيئها اليوم إلى المدرسة بالحنطور سبباً في إنهاكها العام، ولعلها خشيت من مزيد من التعلق والرجاء فصرفت الاحتمال اتقاءً لتمني يخيب نفاذه ولا تعود تدعمه الشواهد.. ثمة خاطر آخر إذن يساور المرأة ويحملها على الاضطراب ونسيان الدرس، إنه خاطر الإنجاب الذي بات يقفز على صفحة عقلها كأنه الأرنب النفور،.. لم يكن عبد الغني ملحاحاً قط بشأن الأمر الذي عده منحة السماء تصطفي الأقدار ميقاتها لمن تؤشر عليهم العناية، وقد سمعته بالأمس يقول على مائدة العشاء :

- أحياناً أشعر بالأسى من أن أورث المجهولين معاناة حاضرنا، يبدو الإنجاب فطرة قوية، غير أنه ولو فكر فيه المقدمون عليه بعين العقل ساعة لأحجموا عنه، واكتفوا بما في هذا الكون من أسباب الزهد والألم، ثم أعفوا القادمين مغبة الوجود !

لقد ذكر لها شيئاً عن فلسفة آثر شوبنهور اللإنجابية، ثم عرج على أبي العلاء المعري مثالاً عربياً في سبيل توطيد المعنى عينه، وذكر مما ورد على لسان الأخير وأراد أن يكتبه على قبره : "هذا ما جناهُ عليّ أبي وما جنيت على أحد"، ولكنها ألفت نظرات الحزن تغمره في الأيام الأخيرة، تكتسي صورته (عبد الغني) برداء الشهامة والتجرد غير أنه - كشأن العادي من الرجال - يطمح - رغماً عن مرات يجنح فيها لفلسفته وتنظيره - في الذرية، وإنما فلسفته ليست إلا انعكاساً لقلة حيلته، إلى هذا خلصت المرأة بعد طول تحقيق،.. إنها - أيضاً - مثله، بل لعل رغبتها في الأمر تفوق رغبته بأشواط، إنها أجمل من صابرين وأوفى منها أنوثة وخليق بها أن تكون أعجل منها في الإتيان بالذرية، ما بال الأقدار تستأخر الحقيقة عن النشوء؟! ما بال الطبيعة تجور على حقها ورجائها ! وهل جمعت بينهما الأيام في بيت واحد بعد عناء الهجرة والارتحال والمرض إلا لتحجب عنهما ما يخلد اسمهما بعض خلود أو يضيف إلى القصة الشاقة المتعذرة فصلاً جديداً منعماً؟ ولتمضِ الأمور إلى العبث إذن.. وبدت مرتبكة كل الارتباك وهي تمسك بالطبشورة التي تكسرت في يدها دون أن تدري بما جره عليها الاسترسال من جم الانفعال، وجاءت بأخرى عوضاً لها دون أن تفارق هذا النطاق الحائر المشحون.. إنها تحدق إلى تلامذة في عمر الطفولة فتنشد منهم واحد، أي واحد، تنشده أن يكون لها،.. يسارع أبواها إلى الدعاء لها دون جهر بشيء أو تبرم أو قلة صبر، ولكن الدعاء - في جوهره - إلحاح من نوع ما، ولو نعم الخلق بالكفاية لما ارتفعت الأيادي بالطلب، أو جاشت النفوس بالدموع، ألا كم يضنيها الأمر ويقض مضعجها،.. ونظرت إلى الأطفال تسألهم في غير موضوع الدرس، تخاطبهم كالكبار وهم الصغار :

- وما معنى الحرية في أنظاركم؟

وأجاب الأول :

- إنها الفسحة..

وأجاب الثاني :

- الحرية تكمن في أوقات غير الدراسة..

وكادت تقول إن الحرية هي "الغنى عن التعلق.." متأثرة بحالتها المتعلقة بالرجاءات، لولا أن دواراً انتابها فهوت على الأرض وسط ذهول منتظري الجواب من الأطفال..

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق