وكان عهد جديد في كرموز هذا الذي عاد يتسيد فيه سلامة الغلأ على رقاب الناس، فشاع إهدار الحقوق، ونبذ الفتوة الجديد أصول العدالة وآداب الاستقامة، وكان الناس يتوقون إلى النيجرو وزمانه فيقول قائل منهم :"لقد سلم نفسه دون مقاومة لضباط الشون الإنجليز، وسلم حي كرموز برمته لمن لا يرحم طفلاً ولا يوقر شيخاً.."، وبلغت مثل تلك الأصداء الفتوة الحبيس، قصها عليه نزلاء نقطة الطوبجية فاستولى عليه الحياد،.. وأي معنى يبقى له بعد أن فقد الفتاة التي بذل لها مهجته؟! لقد رأى طيوفها في شعاع ينسل من النافذة الصدأة، وفي مشهد الزرع الذي يتراءى من كوة الحائط، وفي كل حسن يطل برأسه خجولاً في جحيم محبسه، وقال له مسجون، يقصده تورية، ويحفزه دون مباشرة :
- إن ربعاً يتسيده العتاة يحتاج إلى القوي الأمين الذي يقيم ميزان العدالة ثم يرده إلى الاستواء ! لقد عدمت ساحة الغلأ من منافس، ومن أمن الجزاء أساء الأدب.
وكان النيجرو كثير الصمت لأساه، له أنين لا يُسمع كزمزمة الأسد الحبيس، ولكنه وجد جوابه على لسان مسجون آخر يقول كالذي يرمي بحجر في بركة آسنة :
- يبدو أن تاريخ المظالم في رَبعِنا بلا قرار !
وسمع صوت الشاويش الأجش يطلبه إلى لقاء زكي طبيلي، وسار به الأول إلى أن بلغا فناء السجن، وهناك ألفى الضابط الأسمر، كان ظله طويلاً في الجو الحار، وقال له حين وعى بمقدمه :
- طوبى لضباط شون الإنجليز ! جاءوا بك مكبلاً، ولابد للظالم من يوم!
وسأله النيجرو، غير مكترث :
- أين الحصان الضخم؟
وقال زكي طبيلي بعد أن أشار إلى الشاويش أن آت به :
- آه،.. ألازلت تسأل عنه (الحصان) بعد أن أوقع بك؟
ولاح الحصان رفقة الشاويش مكبلاً بالحبال فكظم النيجرو غيظه لدى رؤية صاحبه، وصهل الحيوان صهيلاً عالياً ارتجت له قضبان نوافذ السجن، وخرج لسببه نفر من المسجونين - برؤوسهم المتطلعة وراء القضبان – يستشرفون ما هنالك.. واستدر زكي طبيلي عن الحصان إلى محدثه فقال في ترفع يجل مثاله :
- ألا تدري أن أهل الحي قد نعموا بالسلام في غيبتك؟ ولا أفهم أي شهامة في أن يفرض المرء على غيره حماية لم يطلبها..
وكان النيجرو يحدث نفسه وهو العارف بالحقيقة، حقيقة حي كرموز بعد أن تسيده سلامة الغلأ :" أتعس بك من كذوب.."، وقال :
- ستكون المظالم هينة في حيّنا لو أن زوالها مرتبط بزوال بإنسان ومجيء آخر !
وشرع زكي طبيلي يتحدث فيما كان النيجرو غائباً عنه، وحتى لقد بدا له - لفرط انشغاله عنه - فماً يتحرك بلا صوت، لقد وهب له أذناً وشطراً من الانتباه، إن الضابط ليتحدث عن تاريخ من الدماء أورثته الفتوة للحي، وعن بؤس الأهالي تحت سحابة غياب القانون التي أظلتهم طوال العهود الفائتة، وعن الأمل المرتقب في أن يستبدل بأشباهه جهازاً أمنياً مصرياً محكماً فيزيح الفتوة إلى هوة النسيان،.. ولاحظ النيجرو صخرة في فناء السجن أكبر من المعتاد فخفق قلبه بأمر، وقال مقتحماً الحديث الذي لا يَستمِع له :
- أعرف أن ثأراً ما هو الذي يحركك، إنك لتختلق الأسباب التي تبرر بها عداوتك لي !
وقال زكي طبيلي وقد تذكر يوماً تسبب فيه شجار الفتوات في مقتل أبيه، وقد لاح قرص الشمس الأحمر في حدقتي عينيه :
- إن هذا حق،.. وسوف يدفع الفتوات لأجل هذا أبهظ الأثمان ! ولتكن أنت أولهم..
وكان النيجرو يحدث نفسه قاصداً طبيلي :" كناطح صخرة يوماً ليوهنها.." وقال وهو يلحظ حصانه الذي كان يسعى دون إثارة الانتباه لأن يفك وصاله وقد صهده حر الفناء المكشوف، بينما توارى الشاويش:
- وهل جئت بي إلى هنا كي تذل ناصيتي؟ أردت رؤيتي صاغراً وعاجزاً؟ وها قد تحقق لك مرادك فدعني وشأني..
وتحركت يد زكي طبيلي فأخرج طبنجته وكان يغمغم :"بل ثمة ما هو أكثر أيهذا الأحمق.."، وقال وهو يرفع سلاحه في وجه محدثه بينما تجلله أشعة الشمس وينساب على جبينه العرق فيتراءى (الجبين) في سمرة فاحمة :
- إنها العدالة،.. أن يفقد القاتل حياته، أن يواريه تراب الحياة التي استهان بحقوق أصحابها !
وساور النيجرو الوجل لدى رؤية السلاح، قال مرتبكاً :
- العدالة ألا تورث الذنب لمن لا ذنب له.
- إن جميع الفتوات جبلوا من عين الطينة الحمأة، سواء في الاستهانة بحرمات النفوس!
- إني لم أقتل إنساناً تجبراً أو افتئاتاً،.. وأين نظام العدالة المزعوم من أن يقتل المتهم بغير تحقيق؟
- إنها مؤجلات العدالة الزائفة،.. من التفريط أن يستهين الغزال بالليث إذا ما أظهر نيوبه بارزة، أو أن يتصور العاقل أن سلاماً سيقع - ولو في دنيا المثاليات - بين الأضداد !
وكاد زكي طبيلي يجهز على الفتوة لولا أن يد الآخر تحركت في سرعة وخفة، تحركت لتصدها وتمسك بها ثم توجه الطلقة إلى وجه السماء، وابتعد السلاح عن الاثنين ووقع المحذور، فأمسك النيجرو بالصخرة وضرب بها رأس خصيمه، واجتذبت الجلبة انتباه المساجين وهرع الضباط إلى موقع الحادثة كي يعالجوا أثر ما جرى، وكان الحصان قد تحرر من براثن الأسر، فركبه النيجرو وهمزه واجتاز به أقل أجزاء السور ارتفاعاً في قفزة موفقة، وعبر حاجزه واثباً طافراً، وتحرك الشاويش متأخراً فخاضت قدماه في الدماء المضرجة على صفحة الرمال المصفرة، وتعقب النيجرو بنظراته ثم ببندقيته، وانطلق الفتوة فاراً تشيعه طلقات من الرصاص منبثقة من كل نحو، ومن وراءه قرص الشمس الآخذ في المغيب،.. وطال هربه مجللاً باقتراف الإثم حتى أنهكه السعي، ولفظته الشوارع والأزقة والحارات مثلما يتفق أن تلفظ العصاة المذنبين، وجعل يسأل نفسه وهو يستعيد مشهد الدماء النافرة من هامة الضابط :"أحقاً قتلته؟! إن خيراً لي أن يورايني تراب الأرض، أو أن يبتلعني الندم،.. بل إن خيراً لي ألا أوهب الحياة إذا أنا دنستها برجس الخطيئة الكبرى.."، إلى أين تحط به قدماه؟ لقد خسر في ميدان الحب حين ألحت عليه صابرين بأن ابتعد، وهنالك خسر الأمل بريق روحه ولمعة دنياه، وها هو ذا يخسر في ساحة أخرى،.. وتساءل عن وجهته وهو يمسح على شعر حصانه بينما يجر عصاه، تساءل مكتفياً ومتشبعاً :"أإلى فواخرجية (صانعي الفخار) كوم الشقافة؟ أم إلى الحدادين حيث جامع أبي الدرداء؟ أم إلى العباد الناسكين في مسجد سلطان؟ أإلى فيلا الفتوة النونو؟ أم إلى إسماعيل سيد أحمد؟"، لقد بدا غريباً عن كل جماعة، منبوذاً من كل طائفة، لا يعضده من حلفاء إلا نفسه وحصانه، كأنما هو شر الناس طراً وأشقاهم قاطبة.. وانقضى اليوم والناس في حي كرموز لا حديث لهم إلا عن الفتوة الهارب الذي قتل زكي طبيلي، وبعث اختفاؤه في النفوس شغفاً من نوع ما، لا يخبو إلا ليعود يشتعل، ولا ينقطع إلا ليعود يتصل، إنهم يلوكون القصة حين يطمئنون إلى خلو الشوارع من عيون البوليس وشرطة الإنجليز، وقال قائل منهم:
- لقد أضاع بتصرفة الأمل الباقي في الخلاص من سلامة الغلأ !
ويقول ثانٍ :
- وكأن زكي طبيلي ترك له فرصة مناورة،..
وكانت صابرين - وهي على حال الحمل واقتراب ولادة مولودها الثاني - تتطلع من شرفة بيتها إلى مسير جنازة زكي طبيلي، هذه التي ضجت بألوان الوعيد من طرف الضباط الحاضرين تجاه القاتل والفتوات، فتتذكر يوماً أتاها فيه النيجرو لائذاً من ضباط الشون، ثم بات ليلته في خزانة حجرة مريم، إنه اليوم - عينه - الذي شهد تصريحها بطلب نبذه من حياتها، ومجاهرتها بالأمر.. لقد جعلت تتساءل وهي تتذكر عهدها معه :"هل يصح أن تكون طرفاً فيما انتهى إليه الرجل؟ وهل أن تداعي الأمور قد أوصل به (النيجرو) إلى حال صار معه قاتلاً وطريداً؟"، لقد كانت الفتاة أكثر شيء علماً بتلك النبتة الطيبة الكامنة في تكوين الرجل المخيف، إنها مواقف كثر تجلى فيها معدنه الذي ارتأت ولو من وجه ما أنه ليس نحاساً صدأً، وحدث أن تراهن زوجها مع أبيها حول مسألة عودته، فقال هشام عزمي :
- وسيعود يظهر في الحيّ الذي هجره يوماً.. بربكم.. وهل أقام الدنيا ولم يقعدها كي يختبئ بهذه السهولة - كالفأر - في ركن النسيان؟
ويقول بهاء الدين وهو يزفر دخان سجائر ملك مصر :
- لقد طوت قصته، وإلى غير رجعة ! وأي معيشة تبقى له هنا وضباط الحي يرصدون عن أمره كل شاردة وواردة، ثم يتوعدونه في الرائحة والغادية.
وكانت مريم تقول، مقتحمة حديث الكبار :
- أعتقد أنه سيظهر في الوقت الذي يأمن فيه جانب الحكومة !
وتقول لها صابرين :
- كفي عن السفسطة..
ومرت الأسابيع دون جديد فابتلعت الأيام الرجل وذكراه، وجعلت الحكومة لمن يعثر على أثر له مبلغاً هو جنيهات عشرة، ويوماً طرق باب صابرين ففتحت، وألفت سلامة الغلأ قبالتها يقول :
- أهلاً بابنة ممثل الدائرة (يريد بهاء الدين) !
وساورها الهلع - كدأبها لما ترى الفتوات - وقالت :
- وماذا تريد؟
- إني أبحث عن أثر للغائب (يريد النيجرو)، وقد علمت أنه بات بديارك في هذا اليوم الذي سبق القبض عليه ! إني باحث مع القانون عنه.
وتلوت الفتاة بالازدراء، وقالت وهي توصد الباب في شدة ثم تعود تقف وراءه :
- بل طامع حقير في الجنيهات العشرة..
1949م..
وذات نهار استيقظ أهل الحي على صهيل الحصان الضخم، كان الحصان النافر يذرع الشوارع نواحي جبل نعسة مدفوعاً بسرعة هائلة حتى لقد لفت انتباه تجار المكيفات هناك، واستقر سعيه في كوم الشقافة، لقد وقف أمام بيت بهاء الدين وجعل يصهل ويصهل، واقترب منه الخلائق والطُغام، واستشرفت صابرين ما يدور من النافذة فانقبضت لرؤية الحصان بغير راكبه، وعادت تتساءل وهي تغطي مريم بشرشف :"بحق السماء.. أي رسالة يحمل؟! ولأي سبب عاد؟!"، وسرت في جسدها قشعريرة الخوف والمجهول، وظهر سلامة الغلأ فقال وهو يأخذ يقترب منه مشدوهاً :
- إنه (الحصان) بلا راكب !
وقال آخر منقبضاً :
- أيعني هذا وفاة صاحبه ؟!
وقال ثالث :
- الواجب يقتضينا أن نتيقن..
وعاد سلامة الغلأ يقول :
- وسوف امتطيه !
وقفز الرجل على ظهره فما أن استقر حتى جمح به الحصان، وطفق يعدو ذهاباً وجيئة في الشارع حتى أوقع بالفتوة فضُربت رأسه بعجلات عربة الخضراوات، واقترب منه الأطفال يتاضحكون، ويتشاغبون :
- لقد أوقع الحصان بالفتوة..
وزالت هيبة الخوف التي له في النفوس، وصفق التجار وأصحاب الحوانيت ابتهاجاً بسقوطه بكأفهم التي أمجلها العمل، واختلسوا سعادة عابرة، ونهض الفتوة في غضبة فتفرق شمل المحتشدين حتى تكونت دائرة منهم غير مرسومة كان الغلأ مركزها، وقال وهو ينفض عن هندامه غبار السبيل :
- ألا بئس الطباع طباعكم ! إنكم ما تجرأتم عليَّ إلا حين أمنتم العقوبة،.. (ثم وهو يرفع عينيه لأول مرة تقدم ليركب الحصان..) ومن ذا يتحداني منكم رجلاً لرجل؟
وساد صمت مطبق فقال كالمعتبر :
- وما كثرتكم إلا ككثرة الضعاف، وتحالف الأصفار !
ثم ارتفع منكبيه مزهواً بالغلب والانتصار في نزال لم يحدث، وهنالك ظهر على الأرض ظل لآدمي، وسمع المحتشدون بعد ذاك صوتاً يتنادى للمبارزة :
- إنني إسماعيل الجعب وقد جئت لمبارزتك !
وكان الناس يهمسون :" إنه تلميذ النيجرو وأحق الناس بخلافته..".
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
**
كان بهاء الدين في حجرته يقلب أوجه العواقب بصدد مسألة الاستقالة من مجلس الأمة، لقد ارتأى الرجل زيف الحياة النيابية وصبت نكبة الحرب على رأسه مزيداً من الحنق فلا عاد يطيق الاشتراك في مسرحية الديمقراطية الصورية، هكذا استقر الأمر في قناعته،.. ولما رفع رأسه عن مكتبه ألفى نبت الفل على جدار النافذة وقد ذبل فأورثه مشهده دراية بما جرته عليه وظيفته من مخاصمة لماضيه الحافل بالأعمال البسيطة، تلك الأعمال التي كان يجد فيها عزاءه وسلواه،.. إنه يسمع الخطب الرنانة تحت القبة دون أن يجد لها أثراً، ويعيش واقع المبادارات الحماسية بغير أن تستحيل فعلاً، إن ضميره لينوء بمثل هذا، ففيم يتكبد العناء؟.. وزفر دخان السيجار الأخير من سجائر ملك مصر ثم رمى بالعلبة الفارغة في السلة فأصابت الهدف آية على أمر أنتواه، وتوجه إلى زوجه كيما يخبرها بالقرار الذي عزم عليه، فقال :
- لقد صدقت عزيمتي على الاستقالة !
وأطلقت فاطمة زغرودة سرور فعجب لها الرجل كل عجب، وقالت المرأة :
- وقد فرغتَ لتوك من حبال مصيدة نُصبت لك،.. فحمداً لله على رجوعك إلينا !
وابتسم الرجل ملء فيه شاعراً بالتحرر لولا أن سمع جلبة خارجية قتحول عن امرأته إليها، وكان الفتوة سلامة الغلأ ممسكاً بنابوت يكاد يجهز بها على إسماعيل الجعب، وقد بدا هذا الأخير متهالكاً على الأرض طريحاً من نزال صعب خاضه، وأهاب ببهاء الدين شعوره أن يهرع من فوره إلى موقع الحادث كي يحول دون وقوع الجريمة، وأسعفه زمانه أن يقبض على يد سلامة الغلأ قبيل أن يقترف إثمه، ثم أن يطوح بالنابوت فيتوارى بين الأرجل المتزاحمة، ودفعه الفتوة فهوى الرجل على الأرض، وقال في ازدراء :
- بئس الفتوة من يؤذي شيخاً !
وقال سلامة الغلأ :
- ومن ذا الذي أقحم شيخاً في نزال الفتوات؟
وتوقع الملاحظون أن يُستكمل المشهد اليائس بهجوم الفتوة على بهاء الدين، ولم يبرحوا - مع هذا - أماكنهم وإن جعلو يرددون : "يا لطيف.. يا لطيف.."، ونشدوا السلامة وقد عدمت أسبابها، فهذا الحصان الضخم بغير صاحبه، وذاك أشجع المتحدين معدومة حيلته على الأرض، وأما جسارة الجموع فتحتاج لمن يتجرأ أولاً، لمن يحطم جبل الثلج بلمسة معجزة، إنه عجز الجموع على كثرتها، هكذا يتراءى للناظر من عل.. واستغاثت صابرين من شرفتها في فزع لازمها حين رؤية أبيها الطريح - استغاثت بالحصان، وضاقت عينا الجواد فتحرك لندائها بغتة وحمل سلامة الغلأ حتى أسلمه لسور الحائط المقابل فوقع الاصطدام الرهيب، وساد صمت أعقب الارتطام ثم نهض إسماعيل العجب من حالته يقول في نشوة الانتصار أمام ذهول أهل الحي :
- ..لقد انتصرتُ !
وكررها مرتين كأنما الرجل في تكراره غير مصدق بما وقع، وكان الناس يقولون في تندر :
- بل انتصر الحصان !
وهبطت صابرين - حين انتهت المعركة وانقشع غبارها - إلى أبيها الذي كان يغالب بدوره آثار دفعة الغلأ له، ويتعكز على شابين متمتماً : "لقد قدر ولطف.."، واستدارت عنه إلى الحصان الذي كان طريحاً إلى جوار الغلأ، لا يحرك أي منهما ساكناً، واقتربت بضع خطوات من الحصان الذي خالته ميتاً وسط صمت عام (ما خلا وقع أقدامها على الأرض)، وحينذاك ذرفت دمعاً فقال لها أبوها وهو يشير إلى بطنها المتدلاة :
- فلتعودي إلى بيتك،.. لا يجب أن يُنهك الطفل أكثر !
وكادت تنصرف لولا أن لمحت عيني الحصان تومض بحياة، فتدانت إليه مغالبة آلام الحمل التي باتت تلازم حركتها، لقد أبصرت شيئاً كامناً في حدقته، وفي بياض عينه، لعلها رسالة النيجرو التي لم تفهمها، أو تفك طلسمها، لعله غير هذا مما يمكن أن تشتمل عليه عينا حيوان يعاني ألماً من شواهد الاستعطاف، لم تحدد يقيناً.. وجيء بضباط نقطة الطوبجية لمعاينة ما وقع وشق صوت السارينة صمت الأهالي، وتقدم من الضباط واحد صوب الحصان الضخم وفي يده الحبال، وآخر ناحية جثمان الغلأ ومعه غطاء، فقالت صابرين للضابط الأول، في عاطفة قوية :
- دعه وشأنه (تريد الحصان)،.. لقد أنقذ الحيوان أبي !
وتقدم الضابط دون اكتراث لحديثها، وقال :
- وقد قتل الفتوة،.. من الخطر أن يُترك - لجموحه - بلا صاحب !
وكان الضابط الآخر يسجي غطاءً فوق جثة الفتوة المائت، فوقف الخلق ينظرون ويعتبرون، أهذا الذي كان منذ ساع قلائل ملء السمع والبصر يقف فيقول :"آتوني بمن يقدر عليَّ.."؟ أهذا الذي كان يتوارى في حضرته أعتى الوحوش ثم يخشون ذكره كالكواكب تتوارى في حضرة الشموس؟ وحلت رهبة قوية في النفوس قبضت على الحواس، وتحرك بهاء الدين وهو يأخذ يستعيد بعض عافيته قرب ابنته حتى صار لصق جنبها يواسيها ويربط على ظهرها، على حين شرع يحمل الضباط الحصان سوياً في مشهد مهيب كلله نور الصبيحة، وحفظته دواخل من رآه كالحكاية الشعبية تحفر على سماء الأدهار، وانفض الجمع وسجى سكون الليل ولكن الحزن ظل يلازم صابرين فسألها بهاء الدين عما هنالك، وقالت تكاد تذوب في فمها الكلمات كأنما جللها أن تشير إلى حقيقة تعرفها ويجهلها البقية من الناس :
- كانت عينا الحصان تحمل رسالة ما..
وقال بهاء الدين في شيء من سمر متصنع :
- النساء في هذا العالم يفيض في قلوبهن العطف، ويرون من المحسوسات في الظواهر والأشياء فوق ما يرى الرجال ! إن هذا دأبكن فلا ألوم عليكي إذ تقولين ما تقولين..
وقالت في حزن لا يتفق وهذا الحال الذي يظهره بهاء الدين :
- لعل النيجرو أرسل به كي..
وقاطعها أبوها في حزم، في لحظة انقلب فيها حاله، فقال :
- إن النيجرو قد مات، لم تظهر جثته، ولم يُخبر بموقعه، ولكنني أميل إلى التصديق في هذا.. اختاره الله إلى جواره كي يحاسبه على بعض ذنوبه، (ثم وهو يأخذ ينصرف عنها..) اعتني بالطفل رحمة به ! فلتنسِ الحصان أيضاً.
وقالت في انفعال استوقفه :
- أنسيت أن الحصان قد أنقذ حياتك ؟!
وقال في شيء من أسف، لأول مرة كأنما لفتت الفتاة انتباهه إلى أمر من الأهمية بمكان، قد نسيه فشق عليه نسيانه :
- لقد نقله الضباط إلى حيث أظن أنهم سيتكفلون برعايته !
وقالت :
- بربك.. وهل تثق بهم؟ وهل من ربطوه بالحبال يحق أن يؤمل فيهم أن يتعهدوه بالرعاية؟ إنهم (الضباط) يبغضون صاحبه (النيجرو) بغضاً لا ريب أنه سُيورث للجواد.
وخفض بهاء الدين رأسه محركاً إياها يمنة ويسرة - كالمستنكر - ثم تفرق سعيهما فقصد إلى بيته، يقول لنفسه :"ولاجرم أن ممثلي القانون سيكونون أرحم بالحصان من فتوة !"، وقصدت الفتاة بدورها إلى بيتها فعملت بنصيحة أبيها - بالاهتمام برعاية الطفل أولاً - وإن لازمها حزن لم تسبر أغواره، أو تعرف كنهه، لقد تراءت لها عين الحصان في مناماتها حمراء قانية، تتواتر الأصوات حولها بالقول كأنها تمتمة : "يا لطيف.. يا لطيف.."، وتمد يدها إلى غرته فإذا بالعين تنقلب إلى حال فيه سلام وتسليم، وتكف الهمهمة، وتنهض الفتاة فزعة تارة، وطوراً راضية، فتبثق عن شمالها مرات ثلاثة، ولكن الحلم يعود يتجسد،.. وأفضت إلى فاطمة ببعض فصول محنتها فقالت لها :
- لقد كان حدثاً عصيباً فيه شقاء، وسوف تذيب الأيام أثره في نفسك.. والمهم ألا يضر بسلامة وليدك أو برضاء زوجك !
وكان بهاء الدين حاضراً فقال يصادقها :
- أجل.. إننا نريد فريقاً من الأطفال كاملاً..
وسألته فاطمة وهي تقطع البصل فتدمع عينا مريم المحمولة على يد صابرين :
- آه.. وأَيَّانَ تستقيل من مجلس الأمة؟
- غداً.
وجاء الغد فجلس الرجل يكتب :" النواب ورئيس المجلس محمد حامد جودة..
لعله لا يخفى عليكم تدهور أحوال البلاد الاقتصادية، وتسيد العلاقات شبه الإقطاعية والرأسمالية، وما يمكن أن ينذر به هذا الحال - لو ترك بلا ضابط - من احتمالات الانفجار، إن حقيقة أن أربعة من أصل خمسة من قاطني الريف من المعدمين جُعلت لتنبه ذوي الأمر،.. وأزيد أقول إن البروليتاريا المصرية (الطبقة العاملة) بشقيها : الريفي والحضري من أكثر الطبقات الاجتماعية معاناة من تلك الأزمة الاقتصادية التي تفجرت في العالم الرأسمالي في نهاية العشرينيات، وامتدت آثارها ولا تزال إلى باقي أنحاء المعمورة، وقد أزادت حرب فلسطين جذوة النار اشتعالاً، فلا عاد يبقى لنا إلا التندر حين نرى مواكب الانتصار الزائف تطوف شوارع العاصمة !
إنني أخشى ما أخشاه من أن يؤدي الوضع الموصوف إلى وصول اشتراكيين شيوعيين إلى مقاعد السلطة، وما أبعد حاجتنا من الخيار الاشتراكي أو الشيوعي خصوصاً حين يتبين لنا ما جرته الثورة البلشفية ووصول لينين وستالين إلى قصور القياصرة الروس من فظائع ناء ولا يزال ينوء بها الشعب الروسي، وويلات يتحمل وزرها بلدان الكتلة الشرقية، والعالم أجمع، إن خروج الاتحاد السوفيتي منتصراً من الحرب الأخيرة - على فداحة خسائره من المعدات والأرواح - وبزوغه قطباً عالمياً يزكي هذه المخاوف في نفسي.. خصوصاً وقد تخلى الوفد - ذو الاتجاه الليبرالي المعروف والمعبر الشرعي عن جماهير الشعب - عن قيادة الحركة الوطنية بعد حادثة فبراير فلا عاد لها (للحركة الوطنية) بعد أن خبا نجمه من رأس،.. وعليه فإن استقالتي - وأنا العضو المستقل - صرخة أرجو أن يكون لها من مستجيب.
إنني - وليسمح لي حضرات السادة النواب أن أنتقل من العام إلى الخاص - وحين أنظر إلى المعدمين بحي كرموز ينتابني أسى من نوع خاص، وقد يتفق أن يجئني بائع الماء فيعرض عليَّ من الشراب ما هو خليق بأن يحتفظ به لنفسه وهو النحيل الهزيل، وقد يساورني - في أفق المشهد عينه - الأمل حين أرى عمود السواري (عمود دقلديانوس) قائماً سامقاً كالطود، إنها بقايا تألقات الحضارة المعروفة التي استوعبتها المدينة،.. ولكن هذا الأمل لا يلبث أن يستحيل غموضاً وتحيراً بالنظر إلى أوضاع أخرى لا أحب أن أسهب في أوصافها، وهكذا تعود الشجون في نفسي إلى سابق سيرتها، وتبزغ المخاوف لتقوض الجديد من التطلعات،.. إن حاملي الماء يقولون :
- إن مصر غدت حكرًا على البشوات والبكوات والجاليات الأجنبية، إن هؤلاء من يدخلون الأوبرا والسينمات ويستمتعون بالحدائـق الغَـنَّاء !
وقد ومض في خاطري أن أسأل منهم واحداً :
- وهل تحب الملك (فاروق)؟
وأجابني :
- أجل،.. ولكنه لا يبادلني الحب ! ومن الأسى أن يعيش المرء في وطنه غريباً.
فانظروا كيف يولي شعبنا محبته للملك رغم كل شيء وأي شيء، وإذا كنا نعقد الآمال على الملك فاروق ومعاونيه في أن يغيروا من حقائق الأوضاع الجارية، فإنني أخاطبه وحده بلسان الضرورة والواجب أن يتدخل كيما يغير من حقيقة تدخل الإنجليز في القرار السياسي، ومن حقائق توزيع الثروة،.. ومن جسيم الخطأ أن ينظر الأمراء والملوك إلى البلدان كما ينظر مالك العقارات إلى غابته ومراعيه وحقوله، فاختزال الظاهرة الإنسانية في رقم هو آفة الولاية وكعب أخيلها،.. إن التغيير آت لا محالة، فإما أن يجيء من داخل القصر، وإما أن يأتي به من لا علم له ولا خبرة، ولا يختلف اثنان حول الحقيقة التي تقول : إن تغييراً يأتي به أصحاب الشأن بقصر عابدين هو خير من تغيير يجيء به آلاف من الدهماء الغاضبين في طرقات التجمعات المجهولة، وهو خير من تغيير يقدم عليه من سوف يدعي بعد ذاك التصدي للحديث بلسانهم.. وهنالك تقع الكارثة التي أرجو أن يجنب المولى البلاد عواقبها الوخيمة، إني حين أقول ما أقول لا أملي شروطاً، ولعلي أتساءل : ومن أنا كي أملي الشروط؟ ولكنها رسالة تنبيه ورجاء أتمنى أن توضع حيث ينبغي لها أن توضع على الخط المستقيم.. وقد رأيت تقديم الاستقالة أنجع الخيارات في الوقت الراهن لتوصيل رسالتي إلى جلالة الملك، معتلي عرش مصر السنية، والسائر وأسرته على خطى أجداده الأفذاذ..
وتفضلوا بقبول وافر الاحترام..
بهاء الدين طه المنشاوي..".