روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

2024/09/19

أباظة ينتصر لفلاحات الورديان

   الفصل التاسع والعشرون : أباظة ينتصر لفلاحات الورديان




عاد أباظة يوماً من قتال حرب اليمن مربوط الرأس، وفي جسده كدمات وجروح، راقبته فلاحات الورديان حتى دلف إلى بيته فتطيرن من حالته، وهمسن همساً كالوجل، وسرعان ما شاع الخبر، وجاءته هدى وعبد الغني كيما يطمئنان عليه تقول :

- إلهي! أنت بمثابة ابن لي ويؤسفني رؤيتك على هذه الحالة.

وقال عبد الغني :

- إن هدى لا تذكرك إلا بالخير، ولكن.. أعذرني.. ماذا جرى؟

كان أباظة يفرد ساقيه على طاولة ذات سطح زجاجي، وقد اعتذر من محدثيه، وزفر يقول :

- أحتاج إلى فترة نقاهة، لم أعد صالحاً للقتال،.. إلهي ! نحارب أصنافاً كثيرة من البشر ومرتزقة، لا نعرف عدواً من صديق،..  جمهوري هذا أم ملكي، إننا نقاتل القبائل التي تعارض الجمهورية، أحياناً يرغمون على التجمهر وإعلان الولاء بقوة السلاح، أو ببريق الذهب، وأحياناً يكون ذهب الأمير الحسن أكثر لمعاناً فيقاومون، كنت واحداً من القوات التي توزعت في المناطق الجبلية الوعرة، والقتال رهيب هناك، وفي غيره !

وكانت هدى تنظر إلى فوضى البيت بنظرة نافرة، تشتكي المرأة قذارته، اعتدل يقول لها :

- إنني هنا وحيد، لا أجيد إلا إعداد البيض والشاي ! أخشى على الفلاحات، إنهن يعانين كثيراً في غيبتي، واليوم،.. اليوم صار حضوري كغيبتي.

وجاءته هدى بالشاي فحمد لها إحسانها عليه ورعايتها له، ثم أشفع حديثه بقوله :

- تتبخر الخيالات الرومانسية عن الحرب سريعاً حين تقف في الميدان، تسمع الهتاف الذي كان يشحذ همتك في السابق كأنما يصدر من جوف صندوق قديم محكم الإغلاق، حتى الأهازيج تبدو شاحبة بلون الرماد، في الحق لا رومانسية في الحروب، إنها كريهة،.. تدور في رأسك الأسئلة : لماذا عليَّ أن أنهض وحدي بهذا الواجب؟ هل حرب كهذه الحرب واجب بالأساس؟ ولماذا لا نكتفي بديارنا نحمي حدودها ومواردها؟ لست رعديداً ولكن امرأ لا يخشى الموت ولا تتسرب إليه رهبته لا يكون إنساناً.  

واجتذب حديثه اهتمام الجالسين، وكانا يستقيان الأخبار منقولة عبر الوسائط الإذاعية التي لم تكن لتصور الأمر قط على هذا المنوال،  قال وهو يشرب من الشاي رشفة فتتألم شفته المجروحة :

- إننا إذا حاصرنا هذه القبيلة أو تلك، رفع أهلوها الرايات البيضاء ومعهم العجول والخراف، يريدون إثبات الولاء لنا بعد الهزيمة،.. كنت أحدق إلى صغارهم، عيونهم المغلوبة، فلا أجد إلا معاناة ما أشبهها بمعاناة زملائي،.. قد تتصارع الفكر تصارعاً طاحناً ويخسر الإنسان جراء هذا، لا يقف أحد ليسأل : "ماذا عن البرآء والأطفال؟ أوقفوا هذا الجنون.."، لا أحد يقف ليقول هذا، ذلك أن الحرب تحركها الأطماع والعناد، إنها لا تشتعل إلا على نيران النرجسية والصلف، لا أريد أن أبدو إنشائياً، أو حالماً.

ونهض متحاملاً على ألم حتى وقف قرب النافذة يرقب غروباً، يقول :

- البشر أشبه بشراذم تائهة في فضاء، قد يقولون بأن صدفة أوجدتهم، وقد يقولون إنها العناية اصطفتهم عن قصد، ولكن الحمق، كل الحمق، أن يتقاتل التائهون، لقد عرفت هذا في اليمن، ولمست أمارته في تبيان.. ثمة مبرر وحيد للعنف : أن يستخدم في صد من يعمد إلى خرق هذه المبادئ، في وجه المستهين غير المبالي، كالنار تهذب الحديد إذا هو اعوّج. 

وهبط أباظة بعينيه من مشهد الغروب الذي كان يكسو سماء الحي الشعبي بحمرة قرمزية فأبصر جاسراً يهرول كالمتسلل بين الفلاحات،  قال لضيفيه :

- يتحتم عليَّ أن أهبط إلى الشارع !

وقالت هدى منفعلة :

- كيف و أنت على هذه الحالة؟!

ولم يجب الرجل المرأة إذ سرعان ما علت صيحات الاستغاثة من الفلاحات كالسفن تطلق نداء استصراخ في شكل مستمر ببوق الضباب، وكانت صيحاتهن جواباً على سؤال المرأة المعلق فلم يشأ أباظة أن يزيد، وهناك تطوع عبد الغني - لما ارتأى عزمه على المجازفة - بالقول:

- سنواجه الرجل معاً !

وكان أباظة يقول :

- لن تكون ثمة مواجهة، سيفرون لدى رؤية الزي المموه !

وتحقق حدس الرجل ففر المتسللون بمجرد رؤيته، كان أباظة يتخذ من عبد الغني سنداً له في خطوته المضطربة، فما أن وقف أمام جاسر حتى أطال الرجل إليه النظر، ثم حلت الرهبة المعتادة، فالانسحاب.. تبدو الشمس حامية الأشعة فوق الرؤوس رغم الغروب، وقال أباظة مبتسماً:

- ليت أن الحرب في اليمن كانت تجري على هذه الدرجة من اليسر.

وقال عبد الغني :

- من عجب حقاً ما حدث، (ثم وهو يتطلع إليه) لا تقلق يا بني، ستبرأ جروحك مثلما شفيت ساقي.. هل تؤلمك رأسك؟

-....

تضرب الشمس المنسحبة رأس الضابط المتضررة فتصيبه بدوار، تتهاوى الأشياء وتختل الرؤية، يهذي أباظة بما لا يُفهم، ثم يسقط على الأرض حين ينتهي جاسر من الأفق، ينقله عبد الغني إلى منطقة ظليلة، ويطمئن الفلاحات :"لا تقلقن، لقد أصيب بضربة شمس..". 

وفي عين الأثناء كان مراد يترقب لقاءه بضاحي في قلق، يقصد الشاب إلى اللبان فيرشده صديقه جمعة الذي يتقدمه في أزقة الحي العشوائي الفقير، كالدليل، يحس مراد غربة بين هاته البيوت المبنية بالحجارة والطوب اللبن، يفكر :"وكأن الزمان الذي مر على أحياء الإسكندرية كافة فبدلها وأصاغها - كالصانع يشكل فخاراً - أمام عينيه، كأن الزمان الذي فعل هذا كله، قد نسي الحي.."، ووقف الصديقان قرب الباب فاحتشدت في رأس مراد الفكر، وسأل جمعة حين طال الانتظار بعد الطرق : 

- لماذا لا ننصرف؟ إنني أحب حياتي، رضيت بسوءاتها رضاء المضطر، ثم سئمت المحاولة لما استقر في نفسي ما قد جرته عليَّ من ألم.

- إلهي ! يدفع الناس أعمارهم ثمناً كي يعرفوا حقيقتهم، وأنت.. أنت تتهرب منها في حين تقف على أعتابها؟

وقال مراد :

- أتهرب منها إذا هي شاحبة بلون الفقر الذي سئمته، شيخ ضرير، وحي فقير، كيف وإلى أين تؤول النتائج إذا كانت تلك هي المقدمات؟

وانفتح الباب بعد الجملة الأخيرة فحل الصمت، أبصر الابن أباه دون أن يبصر الأب ابنه، قال جمعة لضاحي :

- جئت لكَ بمن ألحيت عليّ أن تراه !

وتقدم ضاحي خطوة فمد يده إلى وجه مراد يريد أن يتفحص ملامحه، وكان جمعة قد ساعده على أن يجد الوجه فيما كان مراد جامداً بادئ الأمر، ولكنه ما لبث أن ضاق ذرعاً بيد الشيخ فقال وقد غضب بغتة:

- لست أبي..

وهبط الدرج يبكي وينتحب فلحق به جمعة حتى أدركه، وهناك أمسك بكتفه يستوقفه، فيقول :

- لماذا تهرب؟ إنها الحقيقة.

- حقيقة كالكذب، شنعاء بلا قيمة.. لماذا تصر على أن تلصق وجهاً قاتماً بدنياي؟
- لا يستحق الشيخ إلا رحمة، واجب الابن أن يسترضي أباه إذا جفاه، فلتنتحل له عذراً من سبعين.

وقال في استنكار :

- جفاء  بطول العمر؟ ورحمة بمن؟ بمن تركني نهباً لحياة استدعاني إليها دون مشورة.

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وكان ضاحي قد كرب يهبط الدرج - في أثناء جدال الاثنين - مستنداً إلى الدرابزين، إنه يتعكز على عصاه التي يجتهد أن يحفظ بها توازنه فوق المسار الهابط الحاد، و في خضم الظلام الذي يخيم على ناظريه،.. وقال لجمعة حين برز خياله على هذا الجزء العريض المستوي من الدرح حيث يتحول مساره إلى الاثنين :

- دعه وشأنه، في الحق أردت رؤية الحفيد، لماذا لم تأتوا به؟!

وقال مراد :

- بُعداً، لن يزور رؤوف شيخاً تنصل من المسؤولية أعواماً ثم استرد ضميره بعد غفلة.

ومد ضاحي عصاه فأصابت موضع بطن مراد يقول وسط دهشة الابن:

-  لا بأس، اللين والصفح صفتا الأب تجاه ابنه.

ومضى مراد بعيداً منه يقول :

- لست أبي..

ومنذ ذاك اليوم نبذ مراد صديقه جمعة فلا عاد يُرى على مقهى البورصة التجارية، ورضيت نرمين بزوجها الذي أمسى ملازماً لها في البيت لا يتركه إلا لضرورة العمل، وكانت تسأله :

- ألن تحضر ندوة أدباء الطليعة  التي تحبها؟

وكانت ندوة تقام بالبورصة التجارية، تقدم فيها الأقاصيص والأشعار والدراسات النقدية، وقال :

- إنني لم أحضرها يوماً، كنت أقف قريباً لأسمع ما يقال، إنها ندوة للأدباء، أدباء الطليعة كما يسمونها، المثقفون يثرثرون بطبعهم، ودون طائل، إنهم يجهلون الحقيقة التي تقول بأن المصائر تحركها الأفعال، وأن تنظيراً لا يكون له نفع إذا هو بغير سند يدعمه في الواقع !

- وماذا عن صديقك جمعة؟!

- لقد وقع الخلاف بيننا، الحياة قصيرة، ولا ضرورة من أن يقيم المرء صلات إلى كل البشر.

- إنه يسأل عليك..

وأجابها في افتعال يتوخى الاقناع :

- أن تكون غائباً عزيزاً خير لكَ من أن تكون حاضراً بلا قيمة،.. علاوة على أنه يفوز في البلاك جاك ويغش في الأوراق، لا أحب المزورين.

ولم تقنع المرأة بجوابات زوجها إذ هي لم تستجلِ العلة الرئيسة وراء تغير سلوكه، ولم تفهم السبب الكامن الذي تأنس له وراء نقمته على صاحبه، وإن غطت نعمة بقائه على قرب منها طوال الأيام الفائتة على كل الإشكالات التي كانت تعتريها، كانت نرمين تفهمه لمعرفتها به - قبل الزواج وبعده - حين يناور أو يكذب فيبدو مسلوب الروح، أو ينتحل العذر فيصير جامد الوجه، ثم يرمي بالحديث دون أداء مقنع أو إلقاء حار، كأنما يلقي بالحجر في بركة الماء الآسن، لا يبتغي من ذلك ضراً ولا نفعاً، ويوماً قالت له :

- من أسف أن أخوتي الخمسة بغير أب، أعذرني.. أعرف أنك تعتبرهم كابننا رؤوف، وتعنى بهم، ولكن مهما بلغ الغريب من مبالغ الود والحرص فلن يداني ود الأب أو حرصه على أنجاله.

وأجابها وكان يأكل صحناً من التوت، متأثراً بتجربة ضاحي :

- إنه مفهوم غير صحيح، قط، بعض الآباء غيابهم خير من حضورهم.

وأصابها العجب، فقالت وهي ترفع حاجباً :

- حقاً، ألم تكن تود أن يكون لكَ أبوان؟!

- كلا، الأمر عندي سواء، الآن،.. إذا لم يعتمد المرء على ساعديه فالأحرى أن يعتزل الحياة.

وقالت :

- تقول هذا لأن عبد الغني ينزلك منه منزلة الابن، لقد كفاك هذا الأمر مغبة الضياع والسؤال.

- ربما..

- نرى بعض الأبناء يتملصون من آبائهم، يكون جزاء الأب كجزاء سنمار، من المخجل حدوث مثل هذا. 

ونظر إليها بارتياب فقال في حدة :

- ولماذا تقولين مثل هذا الكلام؟

وكانت تتابع المذاع على شاشة التلفاز الجديد، وتمسك بصحن مماثل من التوت، فقالت كالعازف يحس خروجه عن نوتة موسيقية فيعدل عن نشازه :

- لم أقصد شيئاً،.. فلتنظر إلى هذا، يتحدثون عن الاشتراكية والاقتصاد الموجه، المخطط، بلا، بلا،.. ولا يكفون، أشبعوا الرؤوس بأدبيات لا قبل لنا بها، نريد شيئاً ملموساً ومنظوراً في أيدينا، فمن ذا يفهم هذا الحديث أو يفك طلاسمه خلا خبير أو متخصص؟! ما أشبه المتحدثون ببائعي الأمل الذين يستغلون حوج الجمهور، أستطيع أن أميز هذا،.. رغم أنني لم أتلقِ تعليماً جيداً، إنني أحسن الظن بالرئيس الذي ينذر طاقته لخدمتنا، ولكنه أوكل مشروعه إلى من لا ثقة للناس بهم.

وقال، يمضغ التوت :

- إنني أوافقكِ في النقطة الثانية، الخوف أيضاً مما يستهجنه العاقل في زمننا، الخوف شتاء الروح، إنه يحيل البشر إلى مسوخ من حيث يفرغهم من الإبداع الطليق والمبادرة، ويطفئ هذه الجذوة الإلهية، أعمق ما في النفس، مما لا يُفسر، التي تميزهم عن غيرهم من الموجودات.

ونهضت تغلق التلفاز تترك على مفرشه المطرز صحن التوت، واقتربت منه تقول له، وتبتسم :

- لدي مفاجأة سارة لكَ.. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق