الفصل الثاني والعشرون : فتاة تخطو نحو المجهول
تعهد إسماعيل الجعب بالسير على خطى سلفه، رآه الناس يزور مثوى النيجرو ويعلي من قدره ويذيع سيرته، وسمعوه يقول :
- لقد أودت به الغراميات (يشير إلى علاقته بصابرين)، ولسوف أعكف عنها ما دمت حياً ! وإذا أحب الفراش النار احترق به.
وكان الناس يتهافتون عليه فيقولون بعد أن عاشروا عهد اضطراب :
- الأمن،.. نريد الأمن !
وراعاه أنهم لا يطلبون لأنفسهم العدالة وهي الخليقة بتوفير الأمن، وأوغر مذهب الفتوة الجديد صدر رجال البوليس فعدّوا تمسحه بسيرة من سبقه علامة على الاستهانة وعدم التوبة، ويوماً استيقظ الحي على صوت منادٍ يقول :
- أنا فتحي نجل عيسى العطار، ووريثه شيخاً للحارة ورباً لها، من أراد أن يرفع مظلمة أو يحوز منفعة فليأتِ إليَّ !
قالها الرجل في حماية نفر من الضباط الإنجليز كأنه إعلان مشهر يتحدى رافضاً، وكان طوافه في شوارع الحي تحدياً لسلطة إسماعيل الجعب المتزعزعة، وخرجت صابرين تستطلع ما يدور فرماها الرجل بنظرة إنكار بقت له من ذكرى الأمس واستأنف سيره، وكان رافلاً في بذلة وممسكاً بسبحة أبيه عيسى كأنما بات يتقلب في أعطاف ثراء محدث، وهبطت تسأل بائع الفول خليل عن أمره، وكان الرجل (خليل) رغم تظاهره الدائم بالعجز وقلة الحيلة صندوقاً أسود وأذناً تتسمع الجديد والمتناثر من الأخبار فتجمع بينها في وحدة واحدة شيقة، كانت خليل أصابع مبتورة ولحية بيضاء كثيفة تزينها الحناء.. وقال لها الرجل بعد أن غمغم، واطمأن إلى خلو الطريق من مشاته :
- إن الإنجليز تركوا لثلاثة من الموالين لهم بالحي أجولة من الدفاتر والأوراق، أحدهم متولي بائع الفلافل، وثانيهم عبد المتعال بائع الذرة المشوية، وثالثهم فتحي العطار،.. وحين اجتمع ثلاثتهم لتقسيم هذه الأوراق فوجئوا بوجود عشرات من الجنيهات فيها، وكان حرياً أن يرجعوا المال لأصحابه ولكنه طمع النفوس وتشدقها برزق يهبط دون عناء حال دون هذا.. لقد حاز فتحي وكالة للعطارة كاملة استبدلها بحانوته الصغير المعروف، لقد بيضت الثروة وجهه بعد كُلُوح واليوم صار يرنو إلى الزعامة.. (وهنا عاد إلى صورة البائع المتخاذلة بينما يخفض رأسه ويحني كتفيه يقول كمن خذلته شجاعته في معترك..) لا تخبري أحداً بالأمر !
وعادت الفتاة تندب حظها العاثر الذي أطاح بالرجل من طريقها بعد أن وقفت على السر الذي قفز به على السلم الاجتماعي درجات، وضغطت على سنتيها الأماميتين وهي تتذكر كيف كان استمساكها بهشام عزمي سبباً في ورطة اليوم، وإذا كان الحب مبررها وحاديها فقد أزالت عشرتها ببعلها وهمه (الحب) الأخاذ عن عينيها فانقلب الرجال جميعاً سواء، لا فرق بينهم إلا فيما يجلبونه من المنافع، وما ينهضون به من المهام.. ووقفت تتطلع إلى المسيرة المتحدية في وضح النهار حتى انعطفت (المسيرة) إلى اليمين، وهناك سرت جلبة فهرعت إلى مصدرها، وقال خليل :
- فلتأخذي حذرك، (ثم وهي تبتعد منه فيعلو صوته بصياح عارم..) آه.. ما أشقى التجربة وما أقسى النفوس! فتاة جميلة كالزهور تخطو نحو المجهول !
وكانت صابرين تستطلع ما يدور متخذة من المبنى - الذي انعطف عنده المسير - ستاراً يحجب عنها العيون، وكان إسماعيل الجعب يقول لفتحي العطار :
- إنكم حين تطوفون في ربعنا تصرحون بما تصرحون، وتذيعون ما تذيعون، تهدرون كرامة الفتوات !
وقال فتحي مؤزراً بالجنود الإنجليز في استهزاء :
- ومن أنت ؟!
- إني تلميذ النيجرو وخليفته..
والتفت فتحي إلى يمينه ويساره موغلاً في سخريته :
- إني أعرف عن النيجرو أنه كان يمتطي الحصان،.. فأين حصانك؟! أم تراك تؤثر عليه حماراً؟
وأمسك إسماعيل الجعب بحجارة رماها صوب محدثه فتحاشها الرجل بعد أن جازت سياجاً من الجنود الإنجليز ثم جعلت تتقافز حتى أصابت قدم صابرين التي كتمت تأوهها، وقد خشت أن يفتضح أمرها للسبب الهين، وقال فتحي :
- إن مصير الفتوات - مهما طال - فهو إلى النسيان ! صدقني ولا تنازعني، سيجيء اليوم الذي تخلو فيه المملكة من أمثالكم وتنعم فيه الأسبلة بالأمن المنزه!
وقال الجعب وهو يتطلع إلى العسكر الإنجليز الذين راحوا يرفعون السلاح ويوجهونه إليه، بعد أن استنفرهم إلقاء الحجارة :
- إن نهاية الإنجليز في مصر ستكون أسبق من هذا اليوم ولا ريب !
وقهقه فتحي يقول :
- وليكن صراع الزائلين إذاً ! ولكن.. بربك.. لمن تكون الغلبة.. للحجارة أم للرصاص ؟!
ودب الفزع والجزع في نفس الجعب من العبارة التي تحمل نذر الصراع غير المتكافئ، وقال :
- بربك.. وهل يعرف أولاء المحيطون بك من الجنود الإنجليز، المتحفزين لغير ما سبب، حقيقة الثروة التي هبطت إليك؟!
واضطرب فتحي العطار فقال وهو يتخذ سبيلاً آخر بعد أن يستدير عن محدثه بينما يأخذ يسبح على سبحته في تقوى عارضة مصطنعة :
- من العار أن أدنس الأرض بالدماء،.. ولن أبدأ عهدي بقتيل !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
وخفضت البنادق المرفوعة تباعاً واجتاح المشهد سلام فانسحبت صابرين في هداوة، ولكن الجعب لم ينسِ مهانة هذا اليوم، وتردد في أذنه صوت فتحي العطار وهو يقول :"أم تراك تؤثر عليه حماراً.."، فجعل يصيح وحيداً في قيظ النهار :
- أيها الرعديد،.. لن تسلم من العاقبة !
ثم كتم انفعاله ونازعته نفسه أن يقصد إلى فيلا الفتوة النونو يريد أن يتخذه خليلاً، واستقبله الرجل - وكان قد عاد من حرب فلسطين - يقول :
- فلتنظر إلى هذا، إنه خطاب شكر حزته من الحكومة المصرية لمشاركتي في الحرب وجهدي فيها !
وأمسك الجعب به في غير اهتمام ثم عاد يسلمه لصاحبه، وقال يفضي بما في نفسه :
- وكيف لي أن أتصرف في تركة النيجرو الثقيلة؟ إنني لم انتصر قط في نزال الغلأ وقد أنقذني الحصان فكأنما شاطرني - على نفوقه - شرعية المنتصر، ولقد يحسن أن يجيء الفتوة بعد أن يكون قد نازل وناضل، وكر وفر، وصمد وظفر، وجال وصال، إنها العادة حين تجري.. إنه أمر لا يخفى عن قاصٍ ولا دانٍ والحكاية أشهر من أن تُزوّر أو أن تُحرف، واليوم حاصرني نفر من الجنود الإنجليز، ثم استخف بي فتحي العطار، إنه يمسك بسبحة أبيه - على مثال الدجالين والأفاقين - يتخفى في ثوب الفضيلة المزيفة، وفي بلادنا فمن يفتقر لأسباب القوة في رحلة التطلع إلى السلطة يلجأ إلى مأوى التدين، وقد جمع الرجل بين الأداتين في مشهد عابث يقطر سخفاً،.. أيا "بعبع الاحتلال" فلتجبني!
وقال النونو في عبارة تتخذ صورة عبارة محدثه :
- وفي بلادنا - أيضاً - من يكتوي بنيران الإنجليز لا يلبث أن يستغيث بالوفد ! فلتنظر إلى هذا..
وأظهره النونو على نتائج الإنتخابات الأخيرة حيث أفضت إلى اكتساح الوفد في جل الدوائر النيابية، ثم هذا العدد من صحيفة "صوت الأمة" الوفدية الذي يقول:
- "قضينا خمس سنوات في التيه ولكننا كنا نملك البوصلة ونرى نجمة القطب..".
وأبدى الجعب جهله بالقراءة فتولى النونو المهمة التي يتفرد بإجادتها بين فتوات المدينة، وأعاد قراءة العبارة السابقة على مسمع منه بصوت له رنين لم يخلُ من بعض تلعثم، وقال أيضاً (النونو) :
- لقد فاز عبد المجيد حسنين مرشح الوفد في دائرتنا، إنه رجل مغمور لا يُعرف عنه الكثير، لقد دفع الوفد نبضاً ساخناً ودماً حاراً، وحري بك أن تلتقي بالمرشح الفائز تطلب منه التأييد.. إن بهاء الدين كان من قبله رجلاً فاضلاً، ومشكلة الفضيلة في أحيان أنها تصيّر المرء قاصراً عن تسيير الأمور المتنازعة أو الصعبة، ذلك أن صاحبها يحمل نفسه على أن يتخذ المثالي من التصرفات التي تطلب بدورها مناخ نزاهة واستقامة ! ولو قدر لي أن أجعل للفضيلة موضعاً سيكون بين القوة والتهاون، بين الفعل واللافعل، ولو انحرف المرء ذات اليمين لكان الإجحاف والعسف، ولو أنه أعوج إلى ذات الشمال لكان التفريط والخور، إنها نقطة واحدة على خط طويل تمثل الفضيلة الحقة، وما عداها فهو الوهم والسراب.. وما أشد عناء المستمسك بها في بحر من المغريات والصعائب ! إن الحكمة نقيض الغوغائية، ومن العسير أن يسوس الحكيم أمور نفر من الغوغائيين بغير أن يمس مذهبه شيئاً من طريقتهم،.. واليوم.. اليوم لا صوت فوق صوت الوفد..
وكان من الطبيعي أن يستميل الحزب ذو الحس الشعبي الطبقات الأفقر بالمملكة، من سائقي الحنطور مروراً بأصحاب الحرف وانتهاء بالفتوات، فقال الجعب وهو يجلس على حين أضاء حديث النونو الأخير نفسه بإشراق :
- لقصد صدقت،.. إن الحق، كل الحق، معك ! (ثم وهو يستعيد شيئاً من ذاكرته..) ولن تصدق ما أقول : لقد كانت صابرين تسترق النظر لخلافنا هذا النهار ! رأيت طرف فستانها، إن بمقدوري تمييزه بين مئة فستان !
وقال النونو :
- فليبتعد الحكيم من النساء إذا ابتغى السلامة ! وقد فقدنا أعز الفتوات لأنه ظن بنفسه ما ليس لها من خيالات الحنان فخلبته المظاهر، وتمادى مع تيار الحب الوردي الزائف حتى ابتلعته أمواجه الشاهقة كالجبال !
وألزم الجعب نفسه نصيحة النونو فعقد عليها الخناصر، وعادت للرجل مدعوماً بمرشح الوفد بالحي سلطة تنازع سلطة فتحي العطار مدعوماً بالإنجليز، ويوماً كانت تشتري صابرين أعشاباً من وكالة فتحي الجديدة، فسر الرجل لمقدمها، وقال لها كسابق عهده :
- أهلاً وسهلاً بمجيء شمس الشموس،.. وأجمل اليواقيت !
وقالت في ازدراء بينما تتوقف عن معاينة البضائع :
- احفظ لسانك.. إني امرأة متزوجة !
وقال وهو يحرك الهواء بمروحة من ورق من وراء المكتب :
- أعتقد أنكِ أسأت الاختيار !
ورمت بعشبة السنفيتون في غضب ثم تولت عنه منصرفة، وهنا لاح الجعب فقال بينما تنسحب :
- فلتترك المرأة وشأنها..
ونهض فتحي يقول :
- وما شأنك أنت بما يدور في الوكالة؟
- كانت الفتاة في رعاية النيجرو، واليوم أمست في رعايتي !
ولحق الجعب بالفتاة وكانت لدى منتصف السبيل، وجاء لها الرجل بالأعشاب في يديه، فقالت وهي تتفقد ما اشتملت عليه اليدين - وكان كفيه الكبيرتين قد أمجلتا - في رضا :
- من الخير أن يمتاز الفتوة بالمروءة في حيّنا !
وقال مغتبطاً، كمن يطيل الحديث بغير أن يأتي بجديد :
- أمام من يتصف بالصفاقة لا محيص عن الزجر كيما يرتدع ! ولكن.. ولتعذري تطفلي، لقد رأيتك تتابعين يوماً رفع فيه الإنجليز بنادقهم في وجهي، وقد يقتلني الشغف إذا أنا لم أسألك : إلى أي طرف انحزت؟!
وقالت وهي تستدير إليه لأول مرة بينما تواصل المسير :
- أنحزت إلى ممثل الحق !
وسألها الرجل - وقد قنع بأنه ممثل الحق - مبتسماً، وقد بدت عباراتها ذات أبعاد وأغوار حقيقة بالتأويل :
- وهلا أمكنني أن أوصلك إلى قصدك؟
ولم تجبه المرأة وإنما أسرعت الخطى فاتسع البون بينهما فوقف الجعب يقول :
- إنها جميلة.. واليوم بت ألتمس لصاحب الحصان الضخم عذراً !
ثم تذكر قول النونو :" فليبتعد الحكيم من النساء إذا ابتغى السلامة !"، فجلله خجل حدا به إلى ترك الانشغال بها ثم الانصراف عنها إلى أشغاله، ونبذ أحلاماً عارضة معتبراً بقصة سلفه فكأنما تبخرت صورتها الرائعة الهيفاء من مخيلته !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق