استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/09/30

ورأيت رقصك كالجنون

                         الفصل الخامس: ورأيت رقصك كالجنون




1969م..

ذلك اليوم أسف مراد لوفاة ببغاء الكوكاتيل أسفاً عظيماً، أسف يناهز حزنه لرحيل ضاحي ونرمين.. وقد كانت قد ارتقت محبته للطائر فوق هذا الأفق المعتاد - الذي يكنه الإنسان لحيوانه الأليف - إلى حدود أعمق، فأثار الفقد كوامن عطفه، وألهج بواطن رأفته.. وقال لجمعة وكانا يتناقشان في أمور المعاش والتجارة في مقهى البورصة التجارية :

- الجميع من حولي يمضون، الإنسان والحيوان، فأل مشؤوم يصاحبني ولا يتركني !

وقال جمعة وهو ينفث دخان المعسل :

- لا تبتئس، لقد أكرمته (يريد الببغاء)، وطببته تطبيب الآدميين لذويهم، ولكن ساعته قد أزفت..

- وليفته تبكي رحيله في ذاك القفص..

وضحك جمعة من القول الأخير ضحكة اهتز له جسمه البدين، وما لبث أن اندثرت ضحكته تحت بساط اعتدال، فيما شاعت على وجهه ابتسامة بلهاء باقية، وقال بعد أن مسح على رأسه الأصلع،  وقد غفل عن وضع شعره المستعار :

- فلتسمعني، إن تجارتنا أولى من مآسي عالم الطيور،.. غني عن الذكر أن بعض الفرص كالأشباح لا تراها، تحتاج إلى الدقيق ترميه في محيطك كي تجسد صورتها الخفية، تعلمنا هذا في قصص الإيقاع بالعفاريت من عهد الطفولة، ولكنها معرفة تنسحب على غيرها..

وبدا تشبيهه غامضاً في وعي الشاب الذي كان منشغلاً مشدوهاً، فتابع جمعة يستجلي غموض تعبيره :

- صفقة عقارات تقفز بنا فوق أكف السحاب، سنقدم عليها الساعة، لا أخفيك سراً أنني كنت متردداً حيالها طويلاً، واليوم أقول قول الأجانب في شأنها : Make it or break it. !

جعل مراد يتأمل تشبيه العفريت والدقيق في حين طفق يوقع هاته الاتفاقيات في تسليم، كان الهواء الآتي من البحر القريب من المقهى عاتياً شديداً حتى أنه كاد يبعثر الأوراق، ولكن جمعة أمسكها إمساكاً من لدن الحواف كأنه المصمم على الأمر، المسارع إليه في حماسة، وأبدى رضاءً مبالغاً حين إتمام الإمضاء لم يبدُ أن مثله قد تجلى على صفحة وجهه قط، عاد مراد إلى عقاره الجديد فاستقبلته تهاني تقول بعد أن رحبت به في حفاوة :

- حزين الوجه كأنك تمضي حاملاً مشكلات العالم فوق رأسك !

وكانت ثمة هذه المرآة في الصالة الصغيرة فنظر إليها ملياً، يقول بعد ذاك:

- الحق معك.. أبدو عابساً هناك رغم أن باطني يضمر الحياد.

ونظرت تهاني إلى انعكاس صورته في المرآة ثم إليه تقول وقد أحست أنها لم تصطفِ أفضل ما يُستهل به لقاء عائد :

- تبدو أجمل في الحقيقة..

وقال متراجعاً، بعد أن نبذ النظر في المرآة :

- بل هي (أي صورته في المرآة) تشبهني مثلما تشبهين أنتِ نفسك !

وقلب اتجاه المرآة وهو يغمغم :"لا ينبغي أن توجد مرآة في صالة البيت.."، كأنما وعى العبرة ومن طريق ما من قصة نركسوس الذي افتتن بصورته في البحيرة فبقى يحدق فيها إلى أن مات، وقالت :

- وماذا يؤرق بالك؟

- وفاة الببغاء..

- صدقني إنه لأمر هين قياساً إلى ما قد تحفل به حياة بعض الناس من الأرزاء..

وقال :

- أجل.. أمر هين، ولكنه يؤرق البال، كالقذى في العين.

وقالت :

- إنني لا أصدق هذا، إن للنفس ألف حيلة وحيلة تخفي بها المنغصات، حتى إذا تكاثرت عليها خلصتْ إلى التركيز على أهونها، الإلهاء ما يجعل البشر يحتملون الصعاب في هذه الحياة، ليس اهتمامك بالعصفور إلا إلهاءً مهما تصنعت الجدية له.

وتطلع إليها يقول :

- تشبهين أختكِ الكبرى.. رحمها الله..

وأصابت كلمته منها وتراً، لكنها رضيت بها فحلت في نفسها محل الاعتزاز الذي يقترن بالاستماع لثناء، قالت :

- فليرحمنا الله جميعاً.

وتهافت الأخوة عليه فعانقوه وحاز كل منهم هديته من الشمعدان والشيكولاتة، وكانت له حركة محببة حين يرفع أصغرهم بين يديه - واسمه أدهم - فيطوف به أفق الصالة، ثم يصطنع صوت الدخان تنفثه الطائرة النفاثة في الأجواء، يضحك أدهم فتظهر أسنانه غير المكتمل نموها بعد، يوصيه مراد بشرب الحليب حين يعود يهبط به في رفق لكن الطفل لا يبالي،.. ودلف إلى حجرته فأوصد باب البيت وناشد من فيه الهدوء، ثم نام طويلاً، نوماً جاوز المعتاد من قيلولته القصيرة، غريباً عن حقيقته النشطة، كانت الأحلام تسوقه وتمسك بقياده، وقد رضي الشاب بالاستسلام لها، وإن له غطيطاً كغطيط البكر، واستيقظ على صوت تهاني تقول في كثير من الخوف :

- الأمن ! يقفون عند الباب، يقولون بأن جمعة قد هرب بالأموال،  ويرومون تحقيقاً معك !

وتبدّى لمراد أن حقيقة جمعة زائفة تماماً كشعره المستعار.

 

في موقع آخر، قريب..

مضى زفاف أميرة إلى أباظة في مساء منير، استضاء الحي بالمصابيح المعلقة، وأنس لصخب الطبول والمزمار، فأحيت ليلة رقص وطرب لم يُعهد مثلها في كرموز، أما شعور أميرة حيال الأمر فقد تأرجح من الرفض إلى القبول فالرضاء وحتى السعادة،.. وماذا يعوز أباظة من حسنات؟ وماذا ينقصه من مناقب أو مزايا؟ أي مثلبة تشينه؟ وأي نقيصة تزري به؟ أليس ضابطاً شهماً، مثالي الصورة، إنساني الشعور؟! وحين ينتصر في الحرب ويرتقي على سلم الرتب سيحوز مجداً متحفاً، وسيهجره الخزي كل هجرة، ولتذهب نبوءات العرافين وتنجيمات المخرفين إلى حيث تذهب،.. وشقت مسيرة العرس عربة الأمن حاملة مراد، نظر الشاب المساق إلى مصير لا يعرفه عبر فتحات النافذة الضيقة إلى أميرة فكانت ترقص وتتبختر، وأحس في لحظة مفارقة رضاه عن حالها، وتجسد الحب في لحظة إنكار للذات منزهاً من كل شائبة.

 

تألمت أميرة لما حدث لمراد حين علمت به، ولكن انتقالها إلى الحياة في البحر الأحمر رفقة زوجها الجديد أنساها هذا الحزن، قليلاً، طيف الشاب المكلوم لم يفارقها، وحدست بأن محنته الشخصية أثقل من كُرُوب سبقت كان قد مر بها وأصابته في الأقرباء منه فلم يسلُ خاطرها عنه،.. وكانت الفتاة ترقب - كشأن البقية من الناس - هبوط الإنسان على سطح القمر لأول مرة في يوليو، ومهمة أبولو 11، فتقول:

- ثمة أمور أولى بالنظر من استكشاف الفضاء..

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات 

يسألها أباظة :

- ما هي؟

- تحقيق العدالة على الأرض.

يسر الرجل بما تظهره الفتاة من حكمة الرأي، وسدادة الانحياز، ويقول منفعلاً :

- ويقولون عنكن (أي النساء) ناقصات عقل ! (ثم وهو يرقب هبوط المركب) تطلب الأمر جيلاً (33 سنة) منذ اختراع السيارة الديزل (1936م) وحتى الهبوط على القمر، تمضي الإنسانية في قفزات باهرة!

رغم ثنائه وإطرائه كانت لا تحس إلى جانبه الكفاية الحقة، كالظمآن يشرب من الماء المالح، أو كالمسترشد يسير خلف السراب،.. وبرزت نقائص في حياتها معه من واقع المعايشة،.. وفكرت فيما ينقصه فعدمت من جواب، لماذا تبدو حياتها معه آفة بلا حل ولو أحاطتها أسباب الكفاية والود؟ وجاءتها هدى في زيارة  إلى البحر الأحمر فصارحت الأم بما يعتمل في نفسها، وقالت توجز ما عجزت على صياغته :

- مشكلة أباظة أنه ليس مراد..

وقالت هدى لها :

- هل جننتِ؟ وكأنك تبحثين في مناقب الغراب، تؤثرينه على عنقاء.

- أنقذني مراد من الحمى والموت يوماً.

- أتدينين له ما حييت لأجل موقف؟

- ألم تؤثري عبد الغني الفقير على فضيل الثري يوماً؟!

- أريد لكِ حياة أفضل مما كانت لي..

وجرى التحقيق مع مراد الذي أنكر بدوره معرفته المسبقة بما تورط فيه صديقه جمعة من تلاعب، وكان يردد :"لا أعرف.. لا أعرف.."، وقال المحقق :

- هبط الإنسان على القمر ولا يزال بعض المتهمين ينكرون جرائمهم بهذه السذاجة.

- لست مجرماً.. متى أخرج من هنا؟!

- أين نجد صديقك؟

- سلوا عنه حوانيت الشعر المستعار.

وحُبس مراد احتياطياً، فجاءته تهاني رفقة الأخوة الأربعة في زيارة، جاءته ومعها كِسَرٌ الخبز والحلاوة، وقالت :

- أميرة، سمعها الخلق تبكيك، لقد تزوجت بأباظة لكن قلبها في مكان آخر..

وقال :

- خير لقلبها ألا يتطلع إلى سجين.

- لقد انتقلت المرأة إلى الحياة في البحر الأحمر، تزوجت وهي ابنة التاسعة عشر ربيعاً، صغيرة على الاختيار وحتى الاستقلال وتكوين الأسرة..

وحين انتهت الزيارة تشبث أدهم بساق مراد لا يريد أن يتركه، ولكن الشاب أخذ يحثه على تركه، فلما ألح عليه رفعه بعد أن أمسكه فطاف به أفق المكان الكئيب - كأنه صالة البيت - وسط ذهول الرائين، اصطنع مراد صوت الدخان تنفثه الطائرة على وجومه، ابتسم أدهم ابتسامة أقل من الضحك الذي كان يرتسم على وجهه في صالة البيت، حتى وجوه نزلاء السجن عليها غبرة الحزن لكنها تبتسم، يوصي مراد أدهماً بشرب اللبن وبالانصياع لأخته الكبرى، يسأله أدهم :

- هل تخرج من هنا إذ أنا شربت اللبن؟

وضحك يقول :

- سنضمن الأمر في ملف القضية.

واقتطع الضابط نشوة الجالسين يذكرهم بانتهاء الزيارة كالرجل يقتلع شجرة، رمقه البقية من الأطفال بنظرات شزر بريئة، واربكته صورتهم الرافضة، فولاهم ظهره وبصره، وهناك ساق مراداً إلى محبسه..

تأقلم مراد على حياة السجن، تغير هناك وإلى الأبد، وفاز بجائزة قصيدة النثر (نثيرة) بين المساجين التي استهلها يقول :

وحين افترقت بنا السبل..

أنتِ إلى الجنة..

وأنا إلى المجهول..

انتابني الرضا المنزه..

ورأيت رقصك كالجنون..

وسرت على الصراط العسير..

خلف القضبان..

في المركبة الكئيبة..

أشبه بالسجن الخانق..

العيون من حولي جمرات لاهبة..

والأمل يروادني على مسرح عابث..

يقتفي الأثر الجميل..

لأيام الصبى..

يعيدها كما بدأها..

ويصدق الوعد حين تصافح العرافة عجوزاً..

فتموه الأشياء بأصباغ الورد..

ويحل السلام..





 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

  

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا 

 

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم



 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق