الفصل الثاني والأربعون : مشكلات العرب
عاد يوسف إلى أداء فقرة المونولجست في مطعم حمود بباريس، كان زواره أكثرهم من العرب، يقف بقامته القصيرة على مرأى منهم يقول :"وهكذا قال الرجل المنكوب في وفاة زوجه للحانوتي : أريد لها تربة ترد الروح.."، ينخرط هذا الجمع في ضحك عارم ويجد الرجل نفسه وقد تاهت همومه في بسمات الحضور، فيما يطالعه الفرنسيون مطالعة الارتياب، يمترون في حديثه، ويستريبون من وقفته، ولكنهم ما يلبثون في لهو الجلوس ينصرفون عنه إلى طعامهم، كان الفرنسيون من حضور الجلسة جميعاً على هذه الحالة من عدم الاكتراث له ما خلا واحدة، طفقت الأخيرة تصفق بحرارة، وتضحك بشدة فتهتز هذه الكرة في نهاية قبعتها الكروشيه، ويصغر أنفها، وسأله حمود :
- ما رأيك؟!
- رائع حقاً..
ولم يجد في جوابه ما يرضيه فقال :
- العرب يثبتون جدارتهم في قلب عواصم الغرب.. من الجدير أن تعتد بثقافتك الفروعونية مثلما من المناسب أن أعتز بالثقافة الأمزيغية..
والتفت إليه يوسف يقول :
- أنت تبالغ كثيراً وكأننا حققنا نصراً، لم يضحك من الفرنسيين إلا واحدة.
- أين هي؟
- صاحبة القبعة الكروشيه..
- لابد أنها تجيد اللغتين : العربية والفرنسية..
- أعتقد أنها كانت تضحك مني، لا مما أقوله..
- تحاول التقليل دائماً من إمكاناتك..
وقال يوسف مبتسماً :
- أنت تعتبر كل طبق عربي الثقافة يقدم لفرنسي هنا نصراً للحضارة الإسلامية، وحتى الاشتراكية الناصرية.. أنى لي أن أوافقك؟
- لا تستقيم حياة العرب إلا بدين، سمِها الناصرية، أو الإسلاموية أو أياً ما تكون، قالها ابن خلدون يوماً : "لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين بسبب خلق التوحش الذي فيهم.".
والتفت يوسف إلى الطاهي الذي كان يجهز البيصارة فيغلي خليط الملح والكمون والشطة والنعاع الجاف، ثم قال :
- بعض أعتى وأعمق مشكلات العرب المعاصرة تعود إلى أسباب ثقافية ودينية، نؤسس رؤيتنا إلى العالم من موقع الأفضلية المزيفة، وكأن أمماً كاملة لها منجزاتها الحضارية والعلمية التي تفوقنا بأشواط تحتل دوراً ثانوياً في قصة من بطولتنا، نعاني الأمرين كيما نتخلص من تركة السلطات القديمة : رجل الدين، شيخ القبيلة، زعماء العصابات، كي نلتحق بعصر الدولة القومية الذي يفرض سلطة واحدة تهيمن دون شريك على باقي السلطات.
- هل أنت مع الحرب؟
- ما عدت أعرف،.. إنني مع الحقوق بغير صراع، تقدمت في العمر حتى نما بي نزوع إلى الهدوء والسلام، صرت أتواصل مع مهاتما غاندي روحياً.
- ستثبت حرب جديدة أقدامنا أكثر بعد أزمة السويس..
- لعلها تفجر فقاعة عشنا فيها لأعوام كالأمل الحالم..
- أسقطنا هيمنة التاج البريطاني.. حلقنا على جناحي معجزة الجلاء.. كف عن النظر إلى ما دون السماء، (ثم وهو يتطلع إلى الفتاة..) لماذا لا تتحدث إليها؟
- لو كان لي مثل ثقتك أو نصفها لتحدثت.. ثم هل نسيت أنني أب ومتزوج؟!
- لا أريد أن أفسد علاقتك بزوجك، ولكن بعض هذه المحادثات الشبابية العابرة ستعيد شغفك المفقود بالحياة..
- تتجلى أمامي كالشيطان في أوضح صوره..
-....
وشرعت الفتاة ذات القبعة تبكي فجأة، وانخرطت في نحيب عظيم جيّش العواطف، وأصمت الأفواه، وحول إليها النواظر، تقدم يوسف إليها بعد أشار إليه حمود بالأمر فهدأت الفتاة بعض هدوء، وسألها عما هناك، قالت :
- "ضربني صديقي هنا وهنا، (تشير إلى قروح لدى عنقها..) تذكرت للتو كم كان هذا فظيعاً ! فاضت عيناي بالدموع من واقع إشفاقي على الذات.. ".
- "من المؤسف وقوع مثل هذا.. سأكون مثل أبيك، أو أخيك الأكبر، أنصحك بأن تقطعي صلاتك إليه.. الحياة قصيرة على نحو لا يستقيم معه الإبقاء على أشخاص يسببون لكِ ألماً معنوياً، فضلاً عن ألم جسدي..".
وقالت :
- "غريب جداً.. كنت أحسب الثقافة العربية على غير هذا، ألا تقمعون المرأة في بلادكم؟".
وقال :
- "الثقافة السوية تقوم على احترام الجنسين،.. من يضرب امرأة فعليه دائرة السوء..".
وانسحب يوسف بغتة بعد أن طاف في خاطره طيف الطفلين، عاد الرجل إلى عفاف التي كانت في كمد خفوت الأضواء لولا هذه الأوقات التي تلاطف فيها حسيناً فتملأ فمها بكرة الهواء، ثم يعمد الطفل إلى تفجيرهما (الخدين) بإصبعه فيضحك - إثر ذاك - الطفل ملء فيه، لولا هذه الأوقات ما ابتسمت، وسألها يوسف :
- ولماذا قطعت صلاتك إلى لويس على هذا النحو المريب؟
وقالت :
- جمعني معه لقاء عمل، ولم أسترح لما أبداه لي يومذاك من شعور.
ولم يبدِ انفعالاً غاضباً، قال :
- إنني أثق بكِ،.. رأيت فتاة جميلة في مطعم حمود، اليوم، أحببت تجاوبها معي، ولكنني لم أنغمس في هذا الشعور،.. المشيب يفرض التزامه، والطفلان كذلك.. هل تثقين بي أيضاً؟
وكادت تبادله الجواب بمثله لولا أن حسيناً جعل يشد خديها، فجعلت تبعده وهي تخشى عليهما الترهل،.. وعدت الأمر إشارة إلى استئناف صلاتها إلى لويس، وهمست وقد تخايل لها أمل الشهرة مجدداً :
- إنني ممتنة لثقتك بي..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
ربيع 1967م..
استأنفت عفاف صلاتها إلى لويس مستبشرة بحديث زوجها، أودعها يوسف ثقته وصارت تصدر عن هذه القناعة، دعاها لويس إلى منتزه بوت شومو Buttes-Chaumont، الأقل شهرة، قال :
- "كنت أود أن أسير معك على ضفاف نهر السين، إنني آسف لتواجدنا في هذه الحديقة البائسة، سيدتي !".
وتطلعت إليه في عجب تقول :
- "ولمَ؟".
وتجسدت على محياه بعض أمارات البلاهة يقول :
- "جل الأعمال الأدبية، ولسبب لم أفمهمه بعد، تربط بينه (نهر السين) وبين الرومانسية، تصور المحبين يمشون على ضفافه.".
واحتدت ملامحها تقول :
- "لويس، هلا أمكنك أن تساعدني دون هذا الحديث؟ لماذا لا أظهر معك في حفلك الجديد؟ إنني - وكما تعرف - أجيد الغناء !".
ولم يجبها وإنما قطف لها الرجل بعض الزهور يقول :
- "لا ترفضي هذا أيضاً كيوم رفضك للعقد الذهبي..".
وقالت :
- "تظن أنك تخطب ودي ولكنك تفسد منظر الطبيعة، فلتصغِ لي، لقد شاط الأمر واحترق، لدي طفلان وزوج مخلص لا أطمح في إغضابه..".
حضرت المرأة حفلة هذه الأمسية الربيعية مع المغني الأمريكي الذي صدر حديثه بفرنسية بليغة، يقول :
-"سادتي،.. إن موسيقى الجاز نتاج اختلاط الموسيقى الأوروبية بموسيقى الزنوج التي توارثنها جيلاً بعد جيل، أو بمعنى آخر هى نتاج تفاعل الموسيقى الكنسية الكاثوليكية والبروتستانتية مع صرخات العبودية للزنوج بأمريكا،.. إننا هنا لا ننخرط في أجواء عربيدية، ولكننا نقترب من الحرية الحقيقية عبر الارتجال، (وتابع كأنما يريد نفسه..) نفعل هذا كله، شفاءً للقلوب الجريحة، ودواء للأرواح المعذبة، إلى من فقدوا نعمة الحب في عالمنا الموحش،.. ولترحبوا معي، فضلاً، بالسيدة عفاف..".
وارتقت عفاف درجاً شفافاً صعد بها إلى منصة العازفين، قالت مبتسمة، بعد أن صفقت لحديث لويس تصفيقاً متأخراً، تلتفت إلى موقعه :
- "لعلكم تعرفون - أو لا تعرفون - أن الحرب على الأبواب في الشرق الأوسط، ونؤكد للعالم أننا لن نكون البادئين بالعدوان، سننتصر للحمامة وغصن الزيتون..".
وسمعت من يهتف بالقاعة :
- "تهددون بالحرب..".
وقالت منفعلة :
-" هذا ليس صحيحاً،.. من حق الأمم أن تدافع عن نفسها، أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس؟".
وهناك علا صوت الساكسفون - بحركة من لويس انتفخ لها خديه - يريد أن يقطع دابر الجدال، عادت المرأة إلى البيت لما جن الليل قريرة العين وكادت تحمل في قلبها رغبة في الشكران، أرادت أن تبعث بها إلى يوسف الذي أثمرت ثقته بها، لولا أنها لم تجد زوجها حاضراً في هذا المشهد العائلي الليلي، كان يوسف قد انتابته نوبة من القلق المضني ما أن علم بأنباء الحرب، وجلس في ركن المطعم يبكي فائض الدمع والحسرات، واقتربت منه فتاة الأمس (صاحبة القبعة الكروشيه) :
- "لماذا تبكي؟".
ورفع رأسه، نظر إليها مالياً فتعرف عليها بعد فحص لكونها بغير قبعتها المألوفة، يقول :
- "لشد ما أخشى على بلادي ! لست وطنياً على هذا المنوال التقليدي السخيف والدعائي، لعلكِ سمعت لمن ينشدون الأغاني الوطنية التي تمجد قطراً، وتنزه شعبه عن كل نقيصة، لعلكِ تعرفين أيضاً هذه الأهازيج التي يرددها أهل جميع الأقطار فيدعون لأنفسهم التفوق على جميع الأقطار، وعلى نحو لا يستقيم معه تصديقهم جميعاً، لا.. لست من هذا النوع الذي تملأه العواطف الشيفونية فتعميه عن رؤية الآخر، ولكنني أشفق على بلادي إشفاقاً حقاً، تتعاظم هذه المشاعر حين يطول بي الاغتراب، وتتجسم في صورة لا يصح التنفيس عنها عبر أي متنفس سوى الإجهاش بالبكاء، كطفل، أعذريني إذا ألتبس عليك حديثي إذ لازلت لا أجيد الفرنسية بشكل جيد..".
ومسحت هذه الدمعة عن خده، قالت :
- "لقد تركت اليوم صديقي الفرنسي.. مثلما نصحت لي.. لا تقلق، بمقدوركم أن تتركوا هذه السياسات التي تسبب لكم الضرر، أن تعيدوا البناء من جديد..".
والتفت إليها يقول :
- "لا أعتقد أن هذا أصبح ممكناً، سرنا في طريق بلا عودة، لقد غرقت الإسكندرية في أعماق الشيفونية والتعصب مثلما غرقت "أطلانطس" البريطانية في أعماق بحر الشمال.".
وقالت :
- "تبدو حزيناً رغم أن وظيفتك الإضحاك، ترسم البسمات على وجوه جماعة، ثم تنزوي في ركن المطعم لتبكي؟".
وابتسم لأول مرة يقول :
-"أعتقد بأن أكثر المضحكين تحفل سيرهم بمثل هذا التناقض..".
طال بالاثنين الحديث هذا المساء، كان حديثاً أشبه بجلسة تجمع الخال مع أبناء الأخت، أفصحت الفتاة الفرنسية التي عرف يوسف أن اسمها آنجيلا (ويعني الفتاة الشبيهة بالملائكة أو الحاملة للبشائر والأخبار السعيدة) عن حبها للسينما وأوردت ممثلات مثل : صوفيا لورين، كلوديا كاردينالى، جين فوندا،.. وغيرهن من جميلات هذا العقد في سياقات حديثها المتواتر، تحدثت عن التنورة القصيرة صيحة العام 1964م الشهيرة، والمستمرة في هذا العقد الحافل، هذه التي لم تحبها قط، وعن القبعة الكروشيه التي ورثتْها من الأم فلم تزل تحتفظ بها احتفاظ الاعتزاز والذكرى، وحتى التشبه.. وأفصح لها يوسف بدوره عن "ناتالي" الفتاة اليهودية التي عرفها في زهوة شبابه بالإسكندرية قبل نحو عقدين من اليوم، وقال في استغراق نأى به عن شبح الحرب المحتملة :
-"عفواً، أنتِ تشبهينها كثيراً..".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق