استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/09/29

عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية

                       الفصل الثالث: عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية 



ارتقى عبد الستار - زوج العالمة التائبة فريدة - منبر مسجد سلطان متحفز الشعور مهتاج الخاطر، كان الرجل المتدين قد انتقل من مربع الصوفية إلى ما يشارف على السلفية، بتأثير هزيمة الحرب التي اقتلعت ثوابته القديمة اقتلاع الرياح العنيفة للأشجار الراسخة، كان الشعور العام متحفزاً إزاء نمط التدين القديم إذ ارتؤي فيه التساهل والتفريط، وقال :

- كنا نسمح بالمحرمات جهاراً، نهاراً، دعني أفصح لكم عن شيء : ما حدث لنا هو نقمة السماء علينا، كم سهرة حفلت بها مقاهي البلاد فاشتملت على الخمور والثمول؟! وكم من محرم تسهالنا معه تساهل الجاهلية فتركناه حتى ألفناه إلف الحلال؟

ورفع أحد الجلوس يده فتلوى عبد الستار سخطاً، كان يعد أي إشهار لرغبة في حوار معه معارضة تنال منه، ومن هيبته التي لا يجدر أن يٌستسهل المساس بها، سأله الجالس :

- أعذرني سيدي، هل تركت الصوفية ؟!

- الصوفية تُعنى بصلاح القلوب، ونقائها، السلفية تعني التمسك بما كان عليه السلف الأوائل، القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية، الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، جميع المسلمين سلفيون صوفيون بهذا المعنى!

وسأله الجالس نفسه سؤالاً آخر حمله (عبد الستار) على طرده من المسجد، ولم يجب عليه :

- وما شأن الخمور والثمول بتخلفنا في ميدان القتال؟

وطالت الخطبة فلما انتهت هبط الرجل من المنبر العالي، عاد إلى جلسته المستربعة، كان الناس كثر، رغم انتهاء الخطبة، وقال الرجل لهم:

- مقهى الفنانين، ألا تذكرون كم حفل من المآثم الوالية؟

وتطوع من العوام رجل فقال :

- أنهدمه فنعود أنقياء الروح سُلَمَاءُ العقيدة؟

وقال عبد الستار :

- إني لا آمر ولا أنهى، ولكن افعلوا ما يمليه عليكم فهمكم، أمركم بالمعروف، ونهيكم عن المنكر !

وهاج دهماء المسجد وماجوا في ثورة احتوتها ربوعه، وقال قائل منهم :

- لقد فاض الكيل ، وآخر العلاج الكي.

 وانطلقوا إلى المقهى الذي ألبسوه وزر ما نزل بالبلاد من هزيمة الحرب، وما أسرع ما انتهت خطاهم الغضوبة إلى بابه الموصد، لحق ميسرة والعوالم بالمسيرة يحمون المقهى بأجسادهم وسط الطوفان الجارف حمايتهم لباب الرزق القديم، وهناك سُمع صوت عالٍ يقول :

- فلتكفوا، فلتكفوا، لقد حضرت الأستاذة فريدة، زوج الشيخ عبد الستار !

وتقدمت المرأة في خمار أسود فلم يتعرف إليها أصدقاؤها القدامى من العوالم، أول الأمر، ثم ما لبثوا أن فقهوا حقيقتها، كان صوت نعلها يحدث ضربات واضحة على الأرض أضفى على حضورها إثارة متهيبة، إثارة لم تُعهد عنها قبل يومذاك أبداً، وقال ميسرة لها بعد أن تقدم نحوها خطوتين، وكانت حركتها قد أحدثت ما يشبه البرزخ في صورة المسيرة مضى فيه :

- سيدتي، إنهم وحوش كاسرة، لا تتركي نفوسهم تبتلع حقيقتك المحبة للحياة.

وكان العوالم يرجونها الرجاء نفسه فتتولى عنهم، كأنما تسير على صراط لا تحيد عنه ولا تزيغ، هذا حتى بلغت الباب، وكانت تحتفظ بالمفتاح - الذي أهدته إليها عفاف يوماً - فأداراته في هذا القفل، ثم انسحبت في هدوء، هدوء يسبق العاصفة، كان المقهى في داخله صورة آخر الليالي كأنه مشهد التقط بكاميرا الماضي، أو كمثل الكهرمان يحتفظ بصورة ما في داخله من أحياء،.. وإن هي إلا لحظات حتى هرع السوقة الغاضبون إلى داخله ينهبون ما تطاله أيديهم من طاولات الأبنوس والخيزران، والمقاعد والطاولات والكؤوس، يخربون هذه الصورة الغابرة التي احتفظت بها أيدي الدهر، جعل العوالم يرقبن ما يدور، يرقبونها هامسين :"لا حول ولا قوة إلا بالله.."، عادت عفاف إلى الإسكندرية إثر ما بلغها من الأنباء التي حزنت لها، أحست خيانة العهد والوعد، وانتابها الندم من ثقة أولتها للعالمة فريدة، وكتب لها يوسف في رؤيته للحدث رسالة  :

"عزيزتي..

يبدو أنني كنت أحسن الظن بالأقدار حين ظننت بأن اشتراكية قضت على عصر الإسكندرية الذهبي هو أسوأ ما يمكن أن تُمنى به المدينة، والمحقق أن واقعة اقتحام المقهى تؤشر إلى مزيد مما يمكن أن يضاف إلى هذا المضمار المؤسف من غياب كامل للعقلانية، واستسلام للغيبية، والفكر الضيق، بدأ منذ ظهور الرئيس عبد الناصر، ظهوره الأول بعد الهزيمة، لدى ضريح الحسين في التاسع عشر من يونيو من عامنا هذا، ولا يبدو أنه منته في القريب..

أكتب إليك رسالتي بيد أعسر كان ولا يزال - الكتابة بها لدى بعض الخرافيين يعد مساً شيطانياً، ومن نافلة القول كيف كشف العلم عن زيف هذا الادعاء الذي كان يتضرر بسببه العسر في عصور الجهالة، ثم كيف تغير الانطباع الأخلاقي السائد جراء هذا، ولا بد أن هذا سبب آخر يجعلنا ندين لمنهجه (العلم) المحكم المتواضع.. إن شيئاً واحداً يرتقي بخلق الناس هو أن يعرفوا الحقيقة، وأن يمتثلوا لها، وما رجاء المبحرين في بحور الوهم من جناية الخير إلا كمن يروم أن يجتني من الشوك العنب، إن أخلاقاً لا تستند إلى الحقيقة تكون لعنة على الإنسانية مهما كان لحملتها من الإخلاص أو ادعوا حسن الطوية، إن فكرة أو طريقة تدعي لنفسها الرفعة وتشيء الإنسان فارضة عليه قتامة موحشة تكون خائبة الزعم والقصد..

ليس الأمر اقتحاماً وسرقة، ونهباً وسلباً، لمكان شهد على ذكرياتنا سوياً، لا.. إذ سيكون من غير المنصف أن ننزع الحدث من سياقه العام، فمقهى الفنانين كان التقاء العالم في مكان، واليوم أتساءل : هل انتصر الأغبياء؟ نعيش عالماً مختلاً، لا عجب أن تميل الكفة فيه لأكثر الأفعال جنوناً، إنني كلما ازددت بحثاً في الأسباب، تبدت لي أكثر عدداً، وتشاجنت تشاجن الفروع والأفنان.

لقد طرأت على حياتي عادات جديدة كل الجدة، بلغت من غرابتها أنني صرت ارتاب من نفسي، إذ أنني وطوال عام كامل بت لا أتخلف عن الحضور في مطعم صديقي حمود لدى هذا الوقت الذي تشرق فيه الشمس، فتحدد معالم الأفق بأشعتها الوانية الخجولة، انتظر مقدم القط ذي العيون الزمردية، ولكنه لا يجيء، لقد قضيت عاماً أنتظره دون أن تفتر همتي.. كنت أترقب مقدم آنجيلا أيضاً، الفتاة اليهودية التي رأيتها البارحة أخيراً رفقة أمها، قلت لآنجيلا بعد أن تابعت عرضي الذي كانت تضحك منه دون أن تفهمه :

- "يجب أن تتعلمي العربية..".

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وابتسمت تقول :

- "كنت أظنك تنبذني حين تعرف حقيقتي، آسفة لما وقع لبلادكم في الحرب..".

وقلت كأنني أتحامل، وكنت أعد أي مواساة صغيرة الأثر قياساً لما يعتمل في نفسي :

- "أستطيع أن أفرق جيداً بين الديانة وبين السياسة..".

وجلسنا نتناقش رفقة امرأة ثالثة لم تترك لي آنجيلا فرصة الارتياب من هويتها :

- "سأظُهرك على حقيقة والدتي.. اسمها ناتالي، ومن المفارقات أنها قد عاشت جزءاً من شبابها في الإسكندرية، المدينة التي لا تكف عن الحديث عنها !".

ودهشت من رؤية امرأة جميلة تربو على الأربعين، كانت أوروبية الملامح، وعرفت بعد فحص ونظرة ذهول أنها ناتالي  فتاة مقهى الفنانين، هذه التي جمعتني معها صداقة قصيرة قبل عقدين، والتي أمست أماً، قلت :

- "إلهي ! كم صغيرة هذه الدنيا ! لقد انتزعت الحياة براءتك وأبقت على جمالك.".

تعرفت المرأة إليَّ تعرفاً مشوشاً، أحزنني أنها لم تكن تتذكرني على الدقة، وقالت في بشاشة : 

- "من الجيد أنها (أي الأيام) أبقت على حسن في شخصيتي، الإسكندرية مدينة أغريقية الهوى، لدي ذكريات قليلة باقية عنها في ذاكرتي الضعيفة..".

وقلت متحمساً :

-"أجل، عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية، كما كانوا يقولون.".

عزيزتي عفاف..

إن قلبينا متصلان برباط لا تُفصم عراه، يضنيني ما يضنيك، ويسعدني ما يسعدك، سينتصر الخير في هذا العالم لأن القوة الحقيقية يصنعها المدافعون عن الحياة، لا صناع الموت، إن مفهوم الحضارة ينبت في جوهره من الخيرية لا من البؤس، ومن الشراكة الهرمية المنظمة لا من العدوانية، إن البربرية المغولية قد تهدم الحضارة ولكنها لا تقيمها، سينتصر الخير في الأخير لأنه الأقوى والأبقى..".

حين عادت عفاف إلى باريس كان شيء قد تغير في باطن المرأة، وبقى بلا التئام، ظل مشهد المقهى مفرغاً من أغراضه - كأنه المقتبس من ديستوبيا مخيفة - يخيم على ذهنها المضطرب، الأسوأ أن أهل مدينتها، بل حيها، مقترفو هذا الإثم، وجعلت تقول :" لقد فرغت روحهم على نحو صاروا معه بلا ضمير.. ثقافة سامة سرت في عروقهم.."، استقبلها لويس في مطار العودة وعانقها عناقاً مسرحياً، وطلب إليها أن يدعوها إلى جلسة عمل في مطعم Bouillon Chartier  الذي دأبت على أن تجتمع مع الرجل فيه، وقال :

- "أعرف كم هو مزعج أن يتحكم في مصِيرك الأغبياء ! نعيش حياتنا ونحن نتقي شرورهم.".

وبدا حديثه استهلالاً موفقاً، تجاوبت له المرأة بحركة عينيها المنكسرتين، ورضيت به في لون من الكبر المكتوم، ولكن الرجل سرعان ما احتد يقول :

- "أعذريني سيدتي، ولا تعدي حديثي فضولاً متزيداً : إن يوسف دون المطلوب، إنه ليعجز عن أن يعوضكِ عن خسارتكِ الفادحة في مقهى الفنانين..".

وقالت :

- "لا تتحدث حديثك هذا وإلا نهضت عن اجتماعنا.".

وقال لويس وكان ثملاً بالغبن والشراب :

- "إلام تنكرين محبتي لكِ؟ هل تكرهين مني لوني أم طباعي؟ أعرف أنني أسود في لون الظلام، أنتِ أيضاً سمراء.. هل تدرين أن مثيلاتك بل خير منك يتسابقون إلى التقرب إليّ؟ أرى عشرات منهن تحت قدمي على مسرح الموسيقى ذي السلالم الصاعدة الشفافة..".

وقالت وهي تأخذ تنهض :

- "كف عن مثل هذا الحديث..".

وحاول الرجل الإمساك بيدها فدفعته في ازدراء حمله على مزيد من الغضب، وجعل يستأنف رطانته ويتلفظ بكلمات غير واضحة كأنما يهيم في ضلالة حتى جاءه من أمن المكان من طرده. 


 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا 

 

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق