الفصل التاسع والثلاثون : حمام كليوباترا
1966م..
عاد طه (والد نعيم) من جنوة Genova حين علم برغبة المالك الجديد لفيلته تدمير التمثال الرخامي، راسله الابن مستغلاً الحقيقة التي يعرفها : محبة الأب للتمثال، ووعده الأخير بالعودة على كثرة أشغاله، واجتمع الثلاثة : مراد، وطه، ومريم التي عدت رجوع الأب بشرى خير إذ هي تستطيع أن تقنعه بالامتثال لرغبة ابنه في الارتباط بها،.. بعض أتفه الأسباب أفضت إلى فشل علاقاتها السابقة، كيوم نزال العربي مع جاسر وتأخرها عنه، وبعض أتفه الأسباب - كتمثال مهمل - بمقدورها أن تعيد الأمل أيضاً، هكذا استقرت الأمور في قناعتها،.. ولو أن نعيماً قد قنع بالفتاة الإيطالية،.. فلأي سبب بحث عنها يوم وجدها تلعب بالزقاق قفاشة الملك؟ ولو أن عزمه قد استقر - دون إلحاح من أبيه - على نبذها.. فلمَ عاد إلى الإسكندرية يبثها نيته في الزواج بغيرها؟ لابد أن الشاب - إذن - قلق الرغبة، مبتسر الإرادة، منقوص الشغف، ولكم يسعدها هذا كله ويسري عنها، وأحست أن الأمور ستستقر - ولأول مرة - حيثما أرادت لها أن تستقر، وستتواضع الأسباب على نصرة منالها الشريف، ورفعت بعدئذٍ، ولأجل ذاك، رايات الرجاء والأمنية،.. وقال مراد لأبيه كالذي يقر بواقع :
- إنه (يريد مالك الفيلا) مهووس ديني، كما عرفت، لا جدوى للحوار معه، إذ هو يملك تشدداً في الرأي يجعل من الحوار معه عبثاً، تزحف بعض الفكر الحداثية هنا وهناك، في جنوة، وفي أوروبا، وحتى لقد يقاس التقدم في الحضارة بمقياس البراعة في النحت والتصوير، مصر أيضاً كانت رائدة في هذا المجال، ولولا طبول الدهر التي دقت على رأسها لاحتفظت بالصدارة فيه.. ولكن بعض الناس ضُرب على قلوبهم غشاوة !
وقال طه في رزانة طبيب :
- أخشى أن يكون التمثال قد دُمر فعلاً، يساورني هذا الخيال فاقعشر له،.. لدي ذكريات لا تنتهي هناك، لقد اشتريته بثمن باهظ، وعنيت به عناية المحب، وسيكون من المؤلم لو حدث مثل هذا.
وقالت مريم :
- اجتهد الحارس (ذهب) بالأيام الأخيرة في صد سيده عن تدمير التحفة، لازلت أتواصل معه.
واجتمع طه مع المالك الجديد فيما كان الشابان - نعيم ومريم - يقفان، على قرب من الرجلين في مسافة متوسطة بينهما وبين التمثال، وسمعا طه يقول للمالك واسمه عبد القدوس :
- سيدي، اتفقنا على أن تنتقل إليك ملكية الفيلا لا أن تدمرها.
وقال المالك :
- من حق مالك الشيء أن يدمره، فضلاً عن أن يدمر جزءاً منه.
- عرفنا الإله بالعقل،.. لقد عدت من جنوة تاركاً أشغالاً جمة حين علمت برغبتك في تحطيمه، فلتنظر إليه ! إلهي ! يبدو وديعاً كهرة مسالمة في ليلة شتوية تتوسل حاجتها من مارة قد شغلوا عنها.
وأبدى المالك استهزاءً يقول :
- بربك.. هل عدت من إيطاليا لأجل بعض الحجارة؟!
واقترب ذهب بمشروب كاكاو ساخن من المالك كأنما يريد أن يلين عزمه، فيما كان طه يقول له :
- نعيش زمناً تقدمياً، كيف تحمل في جعبتك هاته الفكر؟ أراك كمن يحتمي بقوقعة في قلب بحر يحسب الماء لا يبلغ ما فيها، أو كمن يقف في وجه قطار تحركه الإرادة العمياء يظن بنفسه النجاة،.. أعذرني.. هل سمعت عن محمد عبده؟ إنه شيخ إصلاحي التوجه، فلتنظر إلى ما يقول : وكانت الصور أيام الوثنية تتخذ في ذلك العهد لسببين : الأول اللهو، والثاني التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين..
وكانت مريم تقول لنعيم قرب شجرة الحديقة التي يعشعش فيها طائر مترنم يائس :
- من عجب كيف تمضي الأمور، الساعة، قلبي يحدثني بالخير رغم نذر القلق والخصام !
وقال نعيم :
- أجل، ماذا لو كان التمثال، ومن طريق ما، سبباً في زواجي بكِ، أو في إحياء هذا الأمل؟
-.....
وعلا صوت طه يقول، منهياً قول الإمام عبده : "والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات" !
وقال المالك محايداً، مبتسماً :
- لن يثنيني هذا قيد أنملة عن مرامي، لا أثق في محمد عبده أو غيره فوق ثقتي بالعقيدة الغراء، والفقه الحنيف، وإني في سبيل ذاك سائر على ما اتفقت عليه أكثر الآراء، مهاجر لغواشي الأهواء.
أضاف طه قول عبد المتعال الصعيدي بأن الجن كانت تنحت لسليمان تماثيل الأنبياء الصالحين من بنى إسرائيل - أضاف قوله هذا دون جدوى،.. وتقطعت بين الجالسين الأسباب فنهض طه إلى حيث الشابين اللذين جعلا يسلأنه عن نتيجة الجلسة، يقول :
- لا جدوى، سأعود أشتري الفيلا !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
بعد أيام..
كان عز يحدث نور (فتاة شاطئ العجمي) بصوت خشن ضيق المساحة، وكانا قد جعلا يلتقيان خلال السنوات الثلاث الماضية، على نحو متقطع :
- سألتحق بكلية الشرطة، لقد استقر عزمي على أن أعقد بنفسي الصلح مع عائلتك، يوماً، لدي هذا الهاجس دائماً.
- قلت بأنك كرهت حياة الأمن في يوم سيق فيه أبوك إلى القسم.
ونظر إليها يقول :
- واليوم سيخرج أبي من محبسه، الحياة بين قمم ووهاد، لابد لأحد أن يتجرع كأساً مرة كي يهنأ البقية بالسرور، إنها فلسفة أي عمل.
وساد الصمت ثم نظرت إليه تقول في أداء شكسبيري :
- لماذا ولدت في أسرة منبوذة؟! لماذا حدث ما حدث؟ لقد غُدر بأبي جريشة حقاً حين ساقته المرأة كالطُعم إلى بيت العطارين المترب، سمعت القصة من الأهل وأضنتني نهايتها الفاجعة،.. أرادت عائلتي انتقاماً أورثها لعنة أبدية، أشعر أنني أقف على حافة الجنون، لماذا لا تبدأ حياة الناس من نقطة عادلة؟ أنت ترث الصفات الشكلية، الثقافة، الإمكانيات، الأوزار، الذنوب، وحتى المصير من الأهل،.. أجل أنت ترث المصير قبل أن تولد، فلتظهرني على سبب واحد يدعوني إلى الاستبشار في مثل هذا الواقع، يلح عليَّ الأهل بأن ألحق بهم إلى الصعيد، هناك، يقيمون في أكواخ بعد أن ضُربت عليهم ذلة المهجر، يقولون بأن لا حياة لنا هنا، وفي الإسكندرية، تحدثني اليوم حديثاً آخر، ستفعل كذا وكذا، وأقول : إنني أنبذ العشم كي لا أتألم، كالفأر الذي يأس من المحاولة فاستلسم لمصيره بمتاهة كانت قد انفتحت بيبانها!
وكانا يعبران قرب بائع وثلاجة لبن، فقال في روح متخففة :
- هل تعرفين أنني كنت أتخيل نفسي أسبح في هذه، كحمّام الحليب على طريقة كليوباترا، بعض الناس يولدون ككيلوباترا وبعضهم قد يقطعون أشواطاً كي يبلغوا غاية الهرم.
وقالت :
- وفريق ثالث يتجشم عناءً كي يبدأ من نقطة يصح معها التطلع، والجميع في هذا مسيرون !
وندت عنها ابتسامة رائقة استقرت على وجه بريء، وكانت قد تولدت من قناعتها بما وصلت إليه، قال :
- لا أصدق هذا، الناس جميعاً مخيرون في استكشاف خارطة حياتهم، التي تحددت سلفاً، إنهم ليسوا مسيرون تماماً ولا هم مخيرون.
- إنها فلسفة جديرة بالنظر، حقاً.
- ليست فلسفة فوق ما هي قناعة.
اضطر عز إلى إنهاء اللقاء العابر - الذي كان يمضي كغيره من لقاءات دون علم أبويه - كيما يتسقبل خروج أبيه (هشام عزمي) من محبسه، وخرج هشام عزمي فكانت كلمة الانتقام لا تترك شفتاه المتيبستين، عاد الرجل إلى حجرته فاغتسل ودمدم بكلمات غير مفهومة، ضرب الطاولة ضربة عنيفة أطاحت بكل ما عليها إلا واحداً، كان ثمة لا تزال هذه الدمية، دمية الطائر في هبوطها وصعودها، ألقى بها الرجل المحموم في غضبة فانكسرت، وبدا أنها كفت أخيراً عن سعيها العابث، ولاحظت صابرين غضبه فجعلت تقول كأنما وعت ما يدور برأسه :
- فلتنبذ الانتقام والثأر، إنهما يستهلكان الروح، ويملآنها بما لا خير فيه.
- قضيت عاماً في حبس ضحية الافتراء.
وتقدمت نحوه خطوتين على بساط أحمر له حواف من الخيوط رأسية متوازية عند جانبيه تقول :
- لَم تُعد إلى منصف الدمرداش قروضه، عرفت هذا من واقع إدارتي للأمول في غيبتك.
- سُجنِت لأتفه سبب : التآمر ضد الثورة، رماني بالباطل، وأخرج لسانه في وجهي هزواً واستكباراً، ارتكبت أوزاراً أشد في حياتي ولكنني عُوقبت بسبب أتفهها.
وقالت :
- فلتذكر يوم هويت من أفعوانية الموت، ماذا كنت تفكر؟ هل كنت تفكر في ثأر أم في عفو؟ لو جاءك وقتذاك من وهبك حياة أخرى.. ألم تكن لترضى أن تكون أنقى الناس سريرة لقاء هذا.
وأشاح عنها وجهه يقول، كأنما لا يريد أن يستسلم لإغراء حديثها الوجيه:
- لا أذكر شيئاً، كان الهلع يملأ فؤادي.
كان تلفازاً في حجرة الاثنين يذيع خطاباً لعبد الناصر بالمحلة يقول فيه للعمال :" يسعدنى أن أكون معكم فى هاته القلعة العظيمة من قلاع الصناعة المصرية بالمحلة الكبرى.."، ولم يحتمل هشام سماع المزيد فأمسك بهذه المنفضة (الطفاية) وضرب بها الواجهة، يهتف الرجل :
- كاذب أنت بحق هذه المرارة في حلقي..
واقتربت منه صابرين فطوقته في أمومة تقول وهي ترقب أثر التدمير الذي أحدثه :
- فلتهدأ.. فلتهدأ.. سيكون كل شيء على خير ما يرام..
على أن نبتة الثأر الكامنة في الأعماق روتها الأيام أكثر بماء المحنة، أترعت المنفضة الجديدة بأعقاب السجائر، بددت المرارة خيرات النفس في خضم ظلمتها الموحشة !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق