عضني الاكتئاب !
الفصل السابع والعشرون: عضني الاكتئاب !
تبدلت طباع هشام عزمي بعد وفاة زوجه سوسن تبدلاً عظيماً، كان قطار الموت أقسى معلم له كالدواء المر، ذابت نرجسيته وانسحب شعوره بالاستحقاق، وضُرب غروره في الصميم، كان يحدث أن يهذي في منامه على فراش حجرته ثم يصحو فينطلق في ثورة غضب تجتاحه، تتقي الممرضات غضبته فيبعدون من يديه الأجهزة الطبية، ويبتعدون، يعود ينقلب الرجل مسالماً كطفل بريء بلا إنذار فينخرط في نوم مسالم لا يهز استقراره إلا نوبة انفعال جديدة، وقالت صابرين :
- لقد تحسنت حالتك الجسمية كثيراً،.. ولكنكَ أحوج ما تكون إلى طبيب نفساني !
- هل تظنين أنني فقدت عقلي؟!
- من العصي أن يمر المرء بتجربة كهذه دون أن تترك في نفسه أثر.
وقنع الرجل بنصيحة زوجه، جلس على كرسي الطبيب النفساني ممدداً، بعد أن تحسنت حالته الجسدية، يقول فيما يتفادى بعينيه ضوء مصباح الحجرة العلوي :
- لقد نشط شعوري بالذنب وما عدت أرى الناس خدماً قط، كنت لا أعتذر لمخلوق ولا أبوء بأذى تسببت فيه لإنسان، أراني مستحقاً لكل شيء دون أن أقدم قليلاً أو كثيراً، إني أزيد أصارحك : زادت حالتي سوءًا بعد سرقة الخواجة، توثقت افتراضاتي الأولى بالتفوق، خلت نفسي عبثاً محور هذا الكون، شعرت بشيئية الآخرين، ولم أعد أبالي، كالشيطان يرتع في كل شقاوة ! كنت أشعر بأنّني مخوّل لأن أكذب، وإن كذبت، فهذا يعني أنني أكذب من أجل قضيّة خيّرة، وبذلك فكذبي مبرّر، الآن بت أرى العبث في الأشياء، الموت قمة العبثية، يضيق به من رآه في غيره، ولا يشعر به من جربه،.. تتخذ الأحزان أتفه الأسباب، كمسمار جحا، كيما تتسرب إلى نفسي، لقد عضني الكلب الأسود، عضني الاكتئاب..
وكان الطبيب ينصت له باهتمام، ويدون بين آن وآن ملاحظة بخط غير مفهوم، فقال حين فرغ الآخر من اعترافه :
- يسهل تشخيص حالتك، أزعم أنك كنت مصاباً باضطراب الشخصية النرجسية، واليوم أراك تبرء منه، رب ضارة نافعة !
وقال منفعلاً :
- إنها كارثة وليست ضارة،.. إنني لا أزال قوياً رغم كل شيء !
قال الطبيب في رزانة وهو يهبط برأسه فتظهر عيناه وراء النظارة الشفافة:
- حين تدعي القوة في موقف الضعف تزداد حالتك سوءاً.
- من العار أن يأنس الإنسان لضعفه أو أن يبرر له.
- تحتاج إلى رؤية ابنيك، كنت أباً مخلصاً رغم كل شيء، تتحسن حالتك حين تمنحهم شيئاً !
وأُطلعت صابرين على نتائج التشخيص الطبي، وتوقفت لدى العبارة التي توصي برؤية الأب لابنيه، ومنحهم شيئاً، بحثت الأم عن مريم في هذا اليوم فلم تجدها، كانت الفتاة تودع نعيماً وأباه اللذين اعتزما على السفر إلى "جنوة"، يروم الأب العمل بعيادة أسنان في الحاضرة البحرية الإيطالية، تودعهما في الميناء وسط جمهرة من الممسكين بهاته المناديل التي تجرفها الرياح، تقول :
- سأنتظرك حين يجيء الصيف !
يقول نعيم :
- ستمضي الأشهر سريعة إذا أنتِ لم تنتظري مرورها.
آخر صيف 1962م..
مرت الأشهر تترى، وجاء الصيف، على أن نعيماً وأباه لم يحضرا في لوران بالإسكندرية، انسحبت سعادة مريم بالإجازة الصيفية فلازمها الانتظار طوال الأشهر الأربعة، قالت لصابرين في شرفة المنزل، في حين تبسط الأم الملابس على هاته الحبال الخضراء :
- يجب أن نذهب إلى "جنوة"، أنا وأنت نجيد الإيطالية، فكري بالأمر، لن تقف اللغة عقبة في تواصلنا هناك خلال زيارة عارضة !
وقالت صابرين :
- اقتربت المدرسة ولم يعد بمقدورنا السفر، هل تريدين أن نقف قرب الساحل الإيطالي لننادي على الابن وأبيه : نعيم، نعيم،..؟
- تسخرين مني كأنني في موقف أحسد عليه، (وجعلت تهمس، تريد نفسها) سيئة الحظ حين يتعلق الأمر بالحب، إنه (الحب) يولد ميتاً في حياتي.
وسمعتها الأم بيما تتلقف من السبت مشبكاً، فقالت :
- لست سيئة الحظ ولكنك صغيرة، ربما يعود نعيم اليوم أو غداً.
- تحاولين أن تغطي عين الشمس بغربال، تطيبين خاطري بما لم يثبت عليه أقل دليل !
وكانت أميرة - لما انتهى الدوام الجامعي - تقف قرب عربة الحرنكش الخشبية وسط جمهرة الطلبة، تتذكر نعيماً حين يقول "ستمضي الأشهر سريعة إذا أنتِ لم تنتظري مرورها" فتهز رأسها تندراً هزة خفيفة، وجعلت تحدث نفسها في حين تضيق ذرعاً بزيها الجامعي تحت حرارة الخريف : "أجل، صدقت، الانتظار لعنة، اليأس حرية من وجه إذ هو أحد الراحتين.."، وتساءلت حول مصير الشاب الغائب، ماذا يمنعه من الحضور؟ وكيف ينكل عن وعده دون إشارة؟ أي جديد جلجلت به أيامه؟ وأي عظيم حجب عنه شغفه بالعودة؟ ثم أنى له أن يتورط في تحديد الموعد ثم يختفي كالجسد المصاب بمتلازمة دماغ منفصم؟ لقد ظهر نعيم دون إنذار هابطاً على درج فيلته البيضاء فأنقذها من تيه حياتها، أول مرة، واختفى بغير أثر مسافراً على سفينة تمخر العباب ترفرف مناديل المشيعين والباكين حولها، آخرة مرة، وبين المشهدين امتلأت حياتها بسرور منعم فوق أكف سحرية، أراد أبوه مزيداً في "جنوة" وتسبب في قهرها دون مسوغ معقول، لقد وأد تطلعه الحب في مهده، وودت لو لاح لها نعيم كاشفاً عن مبرر الغياب، ولتكن مزحة سخيفة ثقيلة بطول الشهور،.. كان "الدوم" و"النبق" يزاحم الحرنكش على العربة، وكان تيار الطلاب يتوافد أمام الرجل الذي جعل يسوق سلعته الرئيسة (الحرنكش) فيصفها في مرات بالست المستحية، وسألها البائع:
- فيم تفكرين؟ (ثم وهو يتلفت للطلبة فتظهر أسنانه الخربة المصفرة) لا جرم أنها تفكر في محبوب..
- يجب أن تزوري أباك، حالته النفسانية بلغت الحضيض، حتى يخيل لي أن لا مجال لتسوء أكثر !
- ومن ذا يُعنى بحالتي النفسية؟ لقد فقد أبي زوجه سوسن حين هوت من قطار الموت، وخسرت نعيماً حين هاجر رفقة أبيه إلى جنوة.
- إنها المرة الخامسة ترجئين فيها الزيارة، إن هشاماً يتحسن حين يراك فوق تحسنه حين يرى أخاك، يعتقد بأنه كان جائراً على حقك في الماضي لصالح عز، واليوم يريد أن يكفر عن خطيئته بتدليلك.
- ....
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
- إن لدي حلاً : سنقصد إلى فيلا الشاب في لوران، لابد أن نعثر هناك على طرف خيط.
وهنالك شرعت مريم تقبل أبيها راضية حتى كادت تثقل عليه من فرط انفعالها، قضت مريم ليلاً تكتب رسالتها إلى نعيم، وفي الغد نشط هشام إلى زياة الفيلا رفقة ابنته، تحامل الأب على شعوره ببعض الآلام الباقية من الحادثة المشؤومة، كانت الفيلا البيضاء وبعد سفر أصحابها قد انتقلت ملكيتها إلى مستأجر اسمه أنس، كان رجلاً طاعناً في العمر، وحيداً كمثل شجرة الصبار تقوم في صحراء خاوية، واستقبلت خادمته الزائرين بوجه بشوش، وقالت وهي تهدي الاثنين كوبين من الليمون :
- سيجيء السيد أنس، إنه يحسن الترحيب بالزوار ذلك أنه بلا أبناء أو زوج.
وتقدم أنس بعد غياب الخادمة فكان ضعيف البصر حتى أنه لم يميز الضيفين على الدقة، وطالت فترة الصمت، كانت مريم تشرب الليمون وتعيد تراجع رسالتها إلى نعيم، وأصدر هشام شيئاً أشبه بالسعال كأنما يمهد لرغبته في الحديث بعد الصمت، يقول :
- جئنا لنعرف أين انتهى مصير صاحب الفيلا الأسبق على التحديد، نعرف أنه سافر إلى جنوة، هل لازلت تتواصل معه،.. سيد أنس؟!
وقال أنس بعد صمت كأنما حملته كهولته على أن يستغرق من الزمن مهلة كيما يستوعب ما سمع، قال وهو يضحك :
- أتواصل معه حين يطالبني بدفع الأجرة..
وتدخلت مريم تقول :
- أيحدث هذا شهرياً؟!
- أجل..
وبعثت إجابته في نفس الفتاة شوقاً متلهفاً، أُوقد الأمل في نفسها فابتسمت، كانت الأشجار التي تحجب أسواراً تتحلق البناء تتمايل وتتغايد بتأثير رياح الخريف، يتوسط الحديقة تمثال من الرخام الأبيض، وقال هشام لأنس :
- نريد منك أن تكون رسولنا إليه، فضلاً، لقد كتبت ابنتي رسالة تود إيصالها إلى ابنه، نعيم.
وتساءل العجوز :
- وماذا سأحصل في مقابل هذا؟
وحل الارتباك حتى استقر على وجه الضيفين، حتى استدرك أنس يقول :
- إنني أمزح، سأقوم بالأمر لأنني استبشرت بمقدمكما، يتوق الإنسان إلى الناس في أرذل العمر، إنهم يأنسون مساره المشارف على النهاية بحيوية الحياة التي يفتقدها.
ومنحت الفتاة العجوز خطابها الذي دأبت على تنقيحه طوال مساء الأمس، وفي نهار اليوم، فقال وهو يلحظ ارتباكها :
- لا تقلقي، لن أقرأ ما فيه، في الحق أنني فقدت القدرة على القراءة لضعف بصري..
ولكن العجوز نكص عن وعده، وفي المساء عهد إلى خادمته بقراءة محتواه :" نعيم..
لقد انتظرت مقدمك في موسم الصيف مثلما كان الوعد ولكنني انتهيت إلى لا شيء، كانت هذه السنة أولى سنواتي الجامعية بعد التحاقي بكلية الهندسة، وقد عبرت من مخاض الثانوية ظافرة، أحب الحقوق ولكن أمي تقول بأن تأميم الشركات لم يترك للمحامين قضايا ذات شأن أو وزن، بددت الاشتراكية بريق المحاماة وهبطت بـ"كلية الوزراء" (كما كانت تسمى على عهد أزمان سبقت)، وما تزال، ومهما يكن،.. كان يومي الأول تعيساً انتهى بخيبة ترسبت في وجداني لدى عربة حرنكش، طاف بي طائف الكدر، ووجدتُني وحيدة بين طلاب أخذتهم نشوة التواجد في الحرم الجامعي، وقد كان أكثرهم من الذكور، مما أزاد وحشتي، وضاعف غربتي،.. لا أخفي عليك سراً أنني قلبت أمر غيبتك ظهراً لبطن، واختبرته من كل الوجوه، وخشيت من أن يكون سوءًا قد مسك خلال السفر البحري أو بعده،.. ثم خشيت من أن تكون قد انصرفت عن شأني إلى غيري من فتيات عرفن بالجمال في إيطاليا، ولكنني وطنت نفسي على استقبال الحقيقة راضية مهما كانت صورتها..
كانت رؤية أبي متحمساً بعد عهد جزع وقنوط أمراً ملفتاً، نهض مستمسكاً بأنقى ما فيه، وقد أمعن في نقد الذات حتى تطهر من ذنوبه، أو كاد، إنني أقول بأن محنة تعلم المرء الكثير لا تكون محنة، وقد عرف الإمام الشافعي عدوه من صديقه بالشدائد، ووافقتني أمي التي سُرت برجوع زوجها إلى رشده، بترديدها العبارة الإنجليزية الآتية :
- no pain no gain ! (لا مكسب أو مغنم يحوزه إنسان دون ألم)
فيما قال لي أبي حين أعادت أمي جزءاً من حقوق الخواجة رجب - وهو شخص لم تسعفني الفرصة كي أقص عليك حكايته - قال :
- كأنني عدت إلى لحظة الولادة بلا ذنوب.
مازلت أحتفظ بهذا المنديل الذي ودّعتك به في ميناء الإسكندرية، وقد ضم إلى دموع الفراق، أدمع الوحدة، وحتى لقد أمسى اهتراءه شاهد صدق على كل ما وقع !