الفصل التاسع والعشرون : من عصر الطرابيش إلى عصر التقارير
قصدت مريم إلى الفيلا البيضاء بلوران وحدها، ووقفت قرب هذا التمثال الرخامي تنتظر مقدم الرجل الطاعن أنس، بخطاب الجواب على رسالتها الأولى التي كانت قد بعثت بها إلى نعيم، كانت تفكر في أبيها الذي لم يحضر في شارع شعرواي باشا، كما جرى الاتفاق معه، منذ استرد الأب عافيته حتى عاد إليه غروره، لامبالاته،.. إنه لقائل بأنه يخطط إلى العودة إلى الزواج بصابرين التي لازمته في محنته الأخيرة كالظل، وأقامته بعد سقوط كالوتد.. ولكن ماذا عنها (مريم)؟ أيقدر حقاً ما قامت به زوجه أم لعلها الحاجة تسوقه وتحركه؟ إن فراغاً شاغراً نشأ من فقدانه لزوجه الثانية، ما أن يفقد الرجل أمه حتى يعود يبحث عن الرعاية في نساء أخريات، زوج أولى فثانية.. فعودة إلى الأولى، وهلم جرا،.. صحيح أن بعضاً منهم (الرجال) يكون صلباً مكتفياً، ولكن آخرين ينهارون كالأطفال، كانت تفكر في هذا كله أمام التمثال الرخامي الذي راحت تتفحص - في خضم استرسالها الذهني الشارد - صورته الإنسانية الملائكية المجسدة : جناحيه المنبسطين على الدوام، يديه المعتذرتين الملتقيتين عند المنتصف، عينيه المغمضتين، وهذا القماش الذي لا يستر منه إلا الوسط، وجاءتها الخادمة تقول :
- إنه (أنس) يعتذر منك، لن يستطيع الحضور،..
وقالت :
- لا أريد حضوره، أريد الجواب الذي وصله.
وحاولت الخادمة صدها على أن الفتاة المنفعلة لم تكف عن التشبث بما جاءت من أجله، وهناك أطل أنس برأسه من نافذة الفيلا، هذه التي لها إطار أبيض سميك وجزء علوي منحني، يقول :
- فلتتركي الفتاة تدخل..
وارتقت مريم درجاً ملتفاً أفضى إلى حجرة الرجل فقال لها :
- أردت أن أحجبه عنكِ لأنني تألمت مما فيه، وخشيت من أن يورثك شعوراً مماثلاً.
ونظرت إليه تقول متأثرة بما سمعت :
- وعدتني ألا تقرأ الرسائل.
- الفضول يا بنيتي، قاتله الله، أتوق إلى هذا العهد الشاب الفائت بلا عودة من حياتي، وأتلمس أماراته فيكَ وفي صاحبك.
- .....
وتحرك العجوز فجعل يفتش في الأدراج فيقول بين آن وآن :"ليس هذا، لا.. ولا ذاك.."، حتى جاء لها بالجواب المنشود، واقتربت منه مريم فانتزعت منه غرضها وانصرفت، أرجأت الفتاة قراءة الرسالة - على شغفها القلق بالأمر - حتى حين رجوعها إلى بيتها، حملها وصف العجوز على الترهب من مواجهة ما فيه كمثل طالب يخشى من الاطلاع على نتيجة اختبار يعرف سلفاً أنه لم يوفق فيه، وأخذت تستنهض همتها في حركتها المتسارعة، كانت تطمئن نفسها : هل يجيد العجوز فهماً أو تحليلاً؟ لا جرم أن عقله الخرف قد ذهب إلى خطأ في الاستيعاب أو الإدراك، وكأنما كانت لا تزال تقف عند مرحلة الرفض من مراحل الحزن الخمسة (في نموذج كيوبلر روس)، وبلغت الجناح الفندقي - دون أن تطلع على ما في الرسالة - فقالت لأمها في غضب، عالي الصوت :
- لا أفهم لمَ لم يحضر أبي، انتظرته في شارع شعراوي باشا، حتى إذا سئمت الانتظار قصدت إلى فيلا العجوز وحدي !
- اخفضي صوتكِ، يقول بأن أشغاله الجديدة بالاتحاد الاشتراكي منعته، أمسى كثير الأسفار إلى القاهرة، والساعة يجتمع إلى منصف الدمرداش، في حجرة المعيشة.
وتسللت مريم من فورها إلى حجرة المعيشة فسمعت سجالاً بين الرجلين، يقول منصف :
- القروض التي لم تعدها إليَّ لن تسقط قط بالتقادم.
وكان هشام يقول في لهجة تتصنع الدهشة، كالممثل :
- أي قروض تقصد، سيدي؟
- إلهي ! هل فقدت الذاكرة يوم سقطت من قطار الموت؟ لقد خسرت ابنتي بسببك، إن هذه حقيقة لا أراك تفكر فيها كثيراً، أعرف أنك تخطط للعودة إلى طليقتك،.. وإني أتساءل : من أي حجر قاسِ فطر عليه قلبك كيما تنسى سوسن بهذه السهولة؟ ولو كنت في مكانك لتدثرت بالحزن ما حييت.
وارتفع بينهما طوفان الجدل، حتى جعل هشام يهتف، في خضم تبادل التهديد :
- سأكتب عنك في الاتحاد الاشتراكي تقريراً،.. أنت معادي للثورة، أعرف هذا عنك منذ أول يوم !
ويقول آخر :
- عصر التقارير هو ما جعل للأصاغر سلطة الافتئات على الأكابر، انتقلنا من عصر الطرابيش إلى عصر التقارير.
- لقد انتهت الجلسة.
في يوم النزهة الأسبوعية تقصد الأسرة إلى شاطئ العجمي، إنها المناسبة الباقية على حوادث الأيام، رغم تغير الجميع، ثمة تجاعيد لدى جبهة الأب أشبه بخطوط متوازية تتجسد أكثر حين يرفع حاجبيه، وكذا مواضع الكسر من حادث السقوط، الأم أيضاً فقدت حدة الوجه فاستحال إلى هذا الوجه البيضاوي المعهود عن الأمهات، حتى عز قثد قفز إلى طور الصبا والمراهقة وزايلته الغرارة : الرابعة عشر ربيعاً عمره، يبدو صوته المخشوشن غريباً حين يخرج من جسمه الهزيل، وتللك جمجته وقد زادت عند الجانبين في الموضع الذي يتأثر بالضغط على الضرسين في "عملية تعظّم"، وحين تتذكر أسماع الأسرة أصداءه الرفيعة الباقية في الأذهان من عهد طفولته تتضاعف الدهشة، ولكن صابرين تحب تغيره - كشأن الأمهات - لدلالته التي تعني استقلاله وقرب تحررها من مسؤولية رعايته، إنها تحب تغيره ولكنها لا تحب محاولته الدؤوبة حين يقف عند مسافة من البحر يحفر حفرته الغائرة، هذه التي ما أن يتمها حتى يهبط فيها مستكشفاً صنيعة يديه، ثم يخرج منها، فيقف على حافتها، تسأله صابرين الكفاية كيما لا يجهد نفسه، فيجيب في عزم لا مبرر له :
- لا أبرح حتى أبلغ الماء..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
ووقف يردم الحفرة بالرمل وهناك سمع صافرة إنذار، ووعى من جاوز النطاق المسموح للسباحة فهرع مبادراً قبل المنقذ البحري، تبدو فتاة يافعة، يتذكر عز حقيقة أنه لا يجيد العوم في وسط الماء، ويستدعي نصائح الأب : "العوم على الظهر أيسر الطرق.."، يحرك يديه - كأنها الجدافات - وقدميه حركة بسيطة كأنها الزعانف، ويلحق به المنقذ البحري فيعاونه عل حمل الفتاة التي فقدت وعيها إلى الشاطئ، وسأل المنقذ الفتاة عن اسمها بعد استرداد وعيها :
- نور..
- كان يجب أن تأخذي حذرك..
والتفت المنقذ إلى عز يقول :
- وأنت، كنت تسبح على منوال مضحك حتى أنني أحسست نفسي مسؤولاً عن إنقاذ اثنين..
وقالت نور للمنقذ :
- الأولى أن تشكره..
وهناك سمع ثلاثتهم صوتاً عالياً يقول :
- أود أن أنتهز هاته الفرصة كي أعلن عن زيجتي بصابرين، في الحق، إنني أستردها بعد طلاق..
وهمس عز :"إنه أبي.."، وقالت نور :
- من الجيد أن تملك أهلاً طبيعيين، أسرتنا أمست منبوذة في الإسكندرية.
وكاد يقول بأن أسرته لم تكن طبيعية يوماً، لكنه استعاض عن جملته بأخرى حين أخذه هذا الشطر الثاني من حديثها، التفت إليها يقول :
- إلى أي أسرة تنتسبين؟
- عائلة أبي جريشة، هاجمنا القسم، ولم تعد الحياة كما كانت..
وقال :
- سمعت عن هذه الواقعة ولم أصدق.
وجعلت تبثق الماء المالح الذي شربته تقول :
- آسفة، لقد شربت كثيراً، كثيراً جداً، منه،.. (ثم وهي تسترد طبيعتها..) تحاول أسرتي حل الإشكال مع الحكومة، تعرض التبرع بالمال لأجل الحرب الدائرة باليمن، ولكن لا جدوى، فر أبواي إلى الصعيد، وبقيت هنا على أمل أن تتحسن الأوضاع حالما أكمل دراستي..
وجيء بالمأذون، اعتمد المتزوجان على شاهدين من رواد الشاطئ، وكان هشام يقول :
- إنها سابقة أن تتم زيجة على شاطئ، وفي حضور المأذون !
وكان عز يقترب من أمه فيقول :
- أهلاً.. بـ "عروس البحر" !
وخلع المأذون عمته البيضاء والحمراء فأسلمها إلى طاولة، وتأهب للثناء على الله والرسول - وغيره مما يُستهل به من عقد القران الشرعي - لولا أن مريم كانت غائبة عن المشهد، فأرجأت الأم جوابها حتى حين ظهورها، كانت الفتاة في موضع من الشاطئ بعيد، وحيدة، تحسب - مع هذا - أن عالماً كاملاً يرقبها وقد أخذ منها التوجس والترقب مأخذاً، وفتحت الرسالة التي ابتلت منها الحواشي بماء البحر المتوسط، قرب قارب مغروس في الرمال الصفراء :
- "في المستهل، أود الاعتذار منك، حاولت جهدي أن أعود إلى الإسكندرية في هذا التوقيت الذي حددته سلفاً : موسم الصيف، وقد تلقيت رسالتك بسرور بالغ في جنوة، المدينة العريقة ذات التقاليد، وحتى لقد شرعت أكتب رسالتي في أثناء زيارتي لبوابة سوبرانا، أشهر معالم المدينة الإيطالية، إن ما يفصل بيننا هو محض بحر، ولكن يؤسفني أن أظهرك على حقيقة أن المشكل أعمق من العائق الجغرافي أو المكاني..
يعتقد أبي اعتقاداً ترسخ أكثر منذ حضوره المثمر في جنوة، بأن لا مستقبل مشرق ينتظر مصر، والإسكندرية بالتبعية، ستنتقل البلاد - تحت وطأة الزيادة السكانية المطردة - إلى ما يشبه نيجيريا أو البرازيل، أجده يلحّ مصراً علي بالزواج والاستقرار هنا، على حداثتي، وإذ كنت أثق في بصيرته فإنني لا أرتضي قراره، يقول إن زواجاً بإيطالية سيضمن لأبناء لي جنسية البلاد الذي نحن فيها، ويقول لي - في حديث كالوعظ - بأن وسامة المظهر لن تدوم، وبأن فورة الشباب ستتراجع، وإن زيجة في هذا العمر الصغير هي خير قرار بمقدوري أن أقدم عليه،.. إن محاولتي للعودة إلى الإسكندرية تتبخر أمام عزمه ونجاحه في طب الأسنان، هنا، في جنوة،.. إنهم يقولون بأن "شبيه الشيء منجذب إليه.."، وإذا كان ذلك كذلك فلا جرم أن نلتقي جسدياً، وإلا فأن نلتقي روحياً.
ولست ممن يرددون بأن استشعار العدالة هو السبيل الوحيد لمجاوزة عسف الأقدار، إذ أن من حق الإنسان أن يغضب وأن يعترض، وقد حفل الصيف المنصرم بثورات غضب لم تسفر عن جديد.. أقول لأبي :
- لماذا نكصت عن الوعد بالعودة؟- هل نعود إلى أطلال مدينة.
- كنا في لوران ولم نكن في أطلال.
- يجب أن تعتاد على التواجد هنا، سنبيع الفيلا أيضاً.
- ماذا عن مريم؟
- في إيطاليا ألف مريم.
- أرني واحدة.
-..".
كانت مريم ساهمة الخاطر حين انتهت من القراءة، وقد وضعت رسالة نعيم في قارورة وألقت بها في الماء، تلقف الموج القارورة وسرح بها بعيداً، ورفعت طرفها فألفت الشمس تتوخى سبيلها إلى المغيب في خمرة متوردة وراء الأفق البعيد، إن حبها له شديد مضطرم لا تخمد له وقدة، وهناك ترامت إلى أسماعها نداءات الأم، واقتربت منها صابرين تقول في عتاب :
- أين كنت؟! لقد جهز أبوك الكابوريا والأستاكوزا، احتفالاً.
وكان عز يقول :
- فلتسرعي وإلا أجهزت على نصيبك من الاثنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق