الفصل الواحد والأربعون : آلهة الجمال
ابتاع طه فيلته القديمة بلوران من المالك المهووس كيما يستنقذ تمثاله الرخامي، أمسى الرجل منذ يومذاك متوزع الإقامة بين جنوة وبين الإسكندرية، وسرت مريم لهذا التحول الذي هيأ لها أن تلتقي بالأب فتقنعه بالاستجابة لإرادة ابنه وإرادتها، كانت تعرض منالها في غير إلحاح وقد فطن إليه الأب ثم استجاب له لما وجد هذا الهوى في نفس نعيم،.. وتحقق الرجاء فعدل الأب عما كان قد انتواه من تزويج نجله بالفتاة الأوروبية، وانصرف عن هذا القصد إلى الإقرار بوقوع خطبته بمريم في موقع غير مألوف، حدده، هو حديقة أنطونيادس، وتزينت الفتاة - ابنة الواحدة والعشرين - بفستان حسن الهيئة مزركش التصوير واسع الأدران، بدا بلونه العاجي الهادئ في بيئة الحديقة ذات الورود اليانعة المشذبة عنصراً متجانساً،.. فيما جنح نعيم لارتداء هذه البذلة التي أبرزت نحافة جسده وإن وسمته - مع هذا - بصورة الرجال، وحضرت صابرين المناسبة فيما عكف زوجها هشام عن الحضور،.. ودلف الأربعة إلى الحديقة مجتازين بوابتها الحديدية الهائلة، وبلغا الممر الضيق، فاجتاح الشابان لون من الخوف المشوب بالغبطة، فيما كان سرور الأبوين منزهاً من كل قلق، مقروناً بالرضاء، سروراً يصل بالنفس إلى أفق الخلاص والحرية وراحة الضمير، كمثل شعور العداء الذي يسلم شعلته لمن سيستكمل بعده مسيراً،.. كانت الحديقة ذات مساحات رحيبة أشبه بالمروج، وتهيأ المناخ لقراءة الفاتحة في حضرة التماثيل الإغريقية، وسألت صابرين طه :
- من عجب أن تختار حديقة كهذه موقعاً لخطبة.
وقال طه في جدية :
- أحب الثقافة الإغريقية، هنا تماثيل فينوس، آلهة الجمال، لقد حملني حبي لحضارة الأغريق على أن أزور بلادهم في اليونان وقبرص وجنوب ألبانيا، وحتى أن أقيم في إيطاليا ! وبين بلادنا وبين اليونان خيط موصول وآصرة تحضر..
وأورد عن أحمد شوقي قوله :
وَرَأَينا مِصراً تُعَلِّمُ يونا .. نَ وَيونانَ تَقبِسُ العِلمَ مِصرا
تِلكَ تَأتيكَ بِالبَيانِ نَبِيّاً .. عَبقَرِيّاً وَتِلكَ بِالفَنِّ سِحراً
وتابع بعد صمت :
- أحب التماثيل كثيراً، لعلكم قد فطنتم إلى هذا من واقع حرصي على التمثال الملائكي،.. هنا (يريد في حديقة أنطونيادس) تماثيل لفاسكو دي غاما وكريستوفر كولومبس وماجلان، والأدميرال نلسون..
كان ثمة هذه الصوبات الملكية ذات الأسقف المكسوة بالزجاج الملون، علاوة على درج رخامي، وصخري، وهضاب عالية، وتطلعت صابرين إلى بعض أولئك ثم نطقت بحديث أشبه بالمناجاة المسموعة :
- كان على هشام أن يحضر ليشهد على كل هذا البهاء.
وتدخلت مريم، تريد ألا تفسد المناسبة بذكر الأب :
- لعله أراد أن يخلو إلى نفسه كيما يتخلص من آثار السجن، بعض هذه المشاعر لا تعالج إلا بخلوة.
وقالت صابرين :
- لا شيء كان ليخلصه من آثار الحبس فوق وجوده في أعرق حدائق المدينة، ليشهد على خطبة ابنته.
مضى الأربعة في الحديقة التي يحتلها مسرح أنطونيادس ذو الأعمدة المرمرية، وتحوطه الأسوار المشيدة من جذوع الأشجار الضخمة، مضوا في زهوة سرور بإتمام الخطبة، كان ثمة بالحديقة تمثال طفل في هيئة ملاك يربض فوق طائر صغير، واقترب منه طه بوجهه المغضن بالتجاعيد يقول :
- لم أره من قبل، يشبه التمثال الملائكي..
وكانت مريم تهمس في نشوة ظافرة :" أحب التمثال الملائكي.."، كان هشام عزمي قد استقبل خبر خطبة ابنته في فتور، أثار استقباله المحايد للنبأ السعيد عجب الأسرة، وقالت له صابرين :
- افتقدتك المناسبة، بدا أن حديقة أنطونيادس يعوزها حضورك، لا أصدق أنك آثرت بعض الأشغال التافهة على مناسبة كتلك.. أين كنت؟
وبدا الحياد على وجهها فأردفت :
- عز أيضاً، لقد قُبل في كلية الشرطة..
بعد أيام..
وذات صباح والنهار يتجلى في صورة ذهبية وانية إذ خرج منصف الدمرداش من فيلته بشارع الحنفية، خرج يدندن مَقطعاً من أغنية صورة لعبد الحليم حافظ :
-" كلنا هنا في الصورة زمايل.. نوفي اللي ميثاقنا عليه قايل..".
كان الرجل في كهولته يحس لوناً من التناقض بين ولائه الباطني المتأصل للعصر الملكي وبين انغماسه الاضطراري العارض في زمان الثورة، فكأن إنشاده للأغنية الوطنية الجديدة وتغنيه بميثاقها ينطوي على لون من التندر الخفيف يفتتح به صباحه الملآن بالشواغل والأعمال، كالطرفة يرميها سمار المقاهي ترطب الافتتاحية في جلسة الليل، أو كأنما كان الرجل يلتمس التخفف من الجدية يداري بها هذا التناقض الجلي في مسار حياته، وحتى قناعات نفسه، واستدار إلى زقاق فاعترضه ملثم، يقول :
- كالحرباء بألف لون، تدعم الملكية وتغني للثورة، وغداً تبارك الجن الأزرق إذا هو في صالحك.. إنها نهايتك !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
وفطن منصف إلى صوت محدثه فقال :
- فلتلتمس العقل، يا هشام، لماذا تقتل كهلاً وتفوت حياة بمقدورك أن تعيشها؟!
- رميتني بالباطل، وبالعداء للثورة؟ ما معنى الثورة في نظر ملكي؟! الجميع يراهن على الحصان الرابح، أنا وأنت..
- سجنت عاماً واحداً.
- عام من النقمة يساوي ألف عام، الظلم شعور شبيه بالموت..
- ماذا تعني بالباطل؟ الحقيقة مفهوم له ألف وجه.
- لا تماري ولا تماطل..
- من حمأة العار أن تناقشني والسلاح مسلط على عنقي.
- لمَ ألتزم الإنصاف في تعاملي معك؟ النبالة لا تعني السفه، سرقت الخواجة، وتزوجت ابنتك طلباً للمال، أعرف هذا عن نفسي، واليوم أقتلك.
- ابنتي، أجل ابنتي، أنت لازلت تحبها، وقد كانت - لو أنها لا تزال عائشة - لا ترتضي قتلي..
وتعلق قلب هشام بخيال المرأة لثوانٍ فإذا بالعجوز يفر تحت وضح النهار، لم يتولَ هشام عن رغبته في اللحاق بالكهل، وكاد يظفر به لولا أن زحاماً نهارياً تسبب فيه صبية يلعبون كرة الشراب منعه من الظفر بخصيمه، وأفضى الكر والفر إلى فيلا الحنفية، بيت العجوز، وموطن حرسه، أولئك الحرس الذين التقطوا الإشارة منه فأمطروا القادم بوابل الرصاص، وأردوه صريعاً.
وانتهت سيرة الرجل قرب فيلا الحنفية على مشهد من الحرس والعجوز،.. تنبت الزهور وتذبل، تشرق الشموس وتغيب، أكبر المخلوقات تتشارك مع أصغرها في الخضوع لناموس الطبيعة، إذا كانت الأخلاق خضوع العقل للطبيعة، ففي التسليم بحقيقة الموت ذروة الفضيلة،.. زلزل الخبر الأسرة، فجُعت صابرين في وفاة زوجها ولكنها لم تعجب قط مما آل إليه، كانت أشبه في انكسارها إلى الأرملة في لوحة الرحلة الأخيرة لفاسيلى بيروف، واحتضنت الأَيِّم ابنيها فنامت على هذا الحال، مستقرة الفؤاد، رغم اضطرابها الكامن.
بعد أسابيع..
أبدى عز شغفاً كبيراً منذ التحاقه بكلية الشرطة، وحتى لقد عكف على تحسين بنيته الجسدية، وقال لنور مزهواً بحالته الجديدة، وكان يركب دراجة في منطقة المعمورة - عن قصد استكمال برنامجه في مضاهاة البنية المثالية - بينما تمضي الفتاة على قدميها :
- بعض الناس نصحوا لي بعدم المضي في هذا الطريق، إذ ارتأوا أن التفوق هناك، لمن هم مثلي، وبسبب طبيعتي التي تتناقض بطول الطريق مع الحياة المنظمة، سيماثل الأعمى الذي يبرجس في النخيل، ولكنني كنت أعد تحذيرهم تحدياً.
ولكن الفتاة لم تبادله بحديث مماثل من جهة التحدي أو الاستبشار، قالت :
- يجب أن أعود إلى الصعيد ! أهلي ينشدون مساعدتي.
- الصعيد مرة أخرى !
وقالت وهي ترقب طريقها الطويل الذي تبرز فيه الراحة البصرية لقلة السكان بالمعمورة :
- لماذا لا تقدم على خطوة جديدة؟ أعني أننا نسير ونسير وكأننا نمضي في طريق بلا نهاية..
وقال وهو يستدير بدراجته عن بالوعة :
- تقصدين الخطبة؟! مات أبي منذ أشهر، ومناخ البيت خانق حتى لقد يعد استحضار أسباب السرور فيه نوعاً من الهزل السخيف.. سنتزوج يوماً، سأرسل إلى أهلك في طلب هذا الأمر، وسيكون مصيفنا هنا، بالمعمورة، البلاد أيضاً على شفا حرب لا يناسب معها مقام الاحتفال، رأيت اجتماع الناس وانفعالهم واستعدادهم للبذل، يصل الأمر إلى حدود هزلية من تسفيه الخصم، وكأن أمراً على هذه الدرجة من الخطورة يصح مجالاً للتباري بدلاً من أن تكون الحقيقة موضوع النقاش، تختفي مقدرة الأفراد العقلية في روح الجماعة..
واستدارات إليه وكانت تناشده التريث نظراً لتفوق سرعته، فتقول وقد ساورها القلق :
- هل يعد هذا خيراً؟
- آمل ألا ينسحب هذا على حالتنا، ألاحظ هذا في حفلات الموسيقى أيضاً، كحفلات عبد الحليم التي سنحضر اليوم واحدة منها، وفي صفوف الكلية، وفي الاجتماعات على المجمل، لا يمكن أن يشترك جماعة في عمل إلا بالصفات العادية التي هي لكل الناس، أحسب أن التفوق صفة ذاتية، ولهذا أراهم وقد ابتلعت خواصهم المتشابهة خواصهم المتغيرة يصفقون كالنسخ المكررة، وحتى لقد ينددون بالمغني تنديداً فيه استنساخ، إنهم إذا رموه بثمار الطماطم وشنعوا به لا تعود تعرف أي قوة تحركهم : كراهية المغني أم تواطئهم على رغبة في الشعور بدفء الجماعة، كأنما اجتمعوا على ضلالة كالجنون، إنه الانغلاق العقلي للقبيلة في روح معاصرة، يقلقني هذا الأمر، أحاول جهدي أن احتفظ بتفردي داخل عملي الجديد، هذا الذي يفرض عليَّ لوناً من الانصياع الجماعي، سنحضر حفلة اليوم، على أي حال، لا تتأخري عن مسرح الهمبرا..
وكان يهدف إلى حفل عبد الحليم حافظ الذي ينتظر أن يغني فيه أغنية "حبيبها"، ومضى بدراجته - وكان حديث عهد بقيادتها - على قلق، كأن الريح تحته، يلعب الأطفال أمامه لعبة النحلة "السن التؤيبي" ، تدور النحلة الخشبية المخروطية بسنها الحديدي أمام دهشة الأطفال، يحاول عز أن يستوقف مساره كيما يتجنب الكارثة الوشيكة فينجح في تفادي الأطفال، ولكنه يفقد التوازن، يهوي إلى الأرض، تنكسر ساقه، وبعض أضلعه، تمسك نور بفمها متأثرة بحادث الاصطدام، تهمس :"لن يحضر الشاب حفلة المساء !".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق