الفصل الثاني والثلاثون : خيالات أحلام في حرب اليمن
كانت نرمين قد أفصحت لمراد عن مفاجأتها : ثمة مولود جديد في انتظاره، وأخذ مراد يقول لها :
- لدي حدس بأنها ستكون بنتاً بعد الولد، وسأسميها فردوس..
كان الشاب يتخير أيام الإجازة يقصد فيها إلى حلقات الأنفوشي، عادته القديمة التي لم يتخلف عنها منذ جرى المال في يديه، وخلعت عليه الدنيا لباس الكفاية، يشتري من هناك أصنافاً من الأسماك جمة، فوق حاجته، ويعود، يستقذر القراميط، ويستطيب أم الخلول، ويستمرئ السبيط والكافيار فيحبهما محبة أرستقراطية الأسباب، كان يجتاحه هذا الشعور الذي يجعله يرى في نعمة الأيام شيئاً مؤقتاً وعارضاً، كأنه أسير لحلم سار وقصير، يزحف إليه الخوف من الفقد، ومن الخسران،.. ولأجل ذلك فهو محب لوجوده في حلقة الأنفوشي لأنه يستطيع هناك أن يشتري وأن يختار، كأنما يقف هازئاً في وجه هذا الشعور الداخلي الذي يجرده في إزعاج مما هو فيه، وينزع عنه رضاءه،.. كأنه يقف مكابراً أمام نفسه التي تريد أن تزري به! لا تفتر ذاته وترضى إلا وقد أغدق عليها سفهاً واستكثاراً كأنما يروم أن ينسيها الشك والسؤال، وقالت نرمين له :
- لماذا لا تبقى؟ اليوم يوم راحة..
وقال وهو يقبل رأس رؤوف :
- لن أتأخر قط، إن النفس متى ألفت الكسل صعب عليها العمل، وتعذر عليها الكدح، لا أريد أن أركن إلى الراحة..
وألحت المرأة عليه أن يبقى في هذا اليوم لكنه مضى يتجهز، ويتمتم بدعاء :" اللهم إني أعوذ بك من كآبة المنظر، وسوء المنقلب في الأهل والمال.."، وقالت تشيعه لدى الباب :
- أريد بلح البحر..
وابتسم يقول ينظر لما في بطنها بعطف :
- لابد أنه الوحم.
- ...
وبلغ مقصده فاستقبلته رائحة الأسماك الطازجة، ووطأت قدماه هذا البلاط العتيق، مضى بين هاته الأعمدة الرخامية المخضبة بقشور الأسماك، كان يسمع من يقول :
- أين الرحمة من الأسعار ؟! كانت الحلقة (أي حلقة الأنفوشي) يديرها الإنجليز، أيام الحرب (يريد الحربين العالميين)، وقد كنا نسب فيهم ونلعن.. أنى للمصريين أن يكونوا أشد غلظة في تعاملهم مع ذويهم إذا هبطت إليهم ملكيتها، وانقشعت عنهم غمة المحتل واستغلاله؟!
وقال مشترٍ آخر :
- النفعية ما يحكم علاقات الأفراد، لا تقل لي هذا مصري وذاك إنجليزي، قل هنا مصلحتى وكفى !
وقال التاجر المصري للمشترين :
- رويداً رويداً، كفا عن اجترار الماضي، سأقبل بما تريدان.
وتقدم مراد بين طاولات الأخشاب المتراصة وفوقها الأسماك الصفراء والحمراء والسوداء، وداخل الممرات الضيقة، يترامى إلى أسماعه من يقول :"خش على البوري والسبيط والشراغيش.."، واستقبله التاجر الذي يعرفه، يقول في ود :
- أهلاً بالسيد عاشق الفوسفور، مراد باشا !
وقال مراد في حياد :
- أريد بلح البحر.
- غريب.. ولكنه موجود على أي حال.
ونادى التاجر على صبي له :"فلتصطفي أجمل البلح، للأستاذ، ولتضعه في كيس أسمر.."، فلبى حاجته، وسرح مراد فيما حوله،.. إلى متى تدوم الأشياء؟ عاد إلى بيته عجولاً وراضياً، ومعه بلح البحر، يحدث نفسه :"ستسعد به نرمين كثيراً.."، كانت نرمين قد هتف بها هاتف الوضع في أثناء غيبة الرجل، جاء لها الجيران بطبيب حين سمعوا صراخها، وقعد الشاب أمام باب الحجرة يقلب أوجه العواقب، كان يمشي ذهاباً وجيئة أمام هذا الكيس الذي أودعه بلح البحر، وتساءل : ما قيمته؟! وخرج مساعد الطبيب فخفق قلبه اضطراباً، الوجوه مرايا لما في أغوار النفوس، ووجه الرجل لا ينذر بالخير،.. واقترب مراد منه لا يريد أن يبادءه بالسؤال فيحمله على الجواب، بما في جعبة القدر، لا يريد التهرب أيضاً إذ هو صاحب الشأن،.. وقال الطبيب في اقتضاب :
- أنقذنا المولود، رزقت ببنت، ولكن حالة الأم تسوء..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
هل ستقتل المولودة أمها؟ ودلف إلى حجرة نرمين - رغماً عن الطبيب - يقول :
- جئت لكِ بما تريدين..
- فلتعتنِ بالولدين إذا لم..
وقاطعها يقول :
- ستعيشين..
وهمس الرجل في أذنها بما لم يُسمع، ثم خرج من الحجرة يبكي، لقد أحب بائعة الهوى، واليوم يئن في طرقات الريح ضارعاً.
يونيو 1964م..
عاد أباظة بعد فترة نقاهة إلى القتال الدائر في حرب اليمن، بمقدور الرجل أن ينسى شعوره الفياض تجاه الإنسانية، ولو إلى حين، حين يعود يمسك بالسلاح، وقال لجندي آخر واسمه منصور:
- وكأن الحرب تدور في كوكب آخر، أين المجتمع الدولي من هذا البؤس؟ الأمر - لتشابكه وتعقيده - أشبه بالمعكرونة، الجميع يدسون أنوفهم في مشهد عبثي !
وقال منصور :
- نقاتل لأجل قضية التقدم للإنسان العربي، لا تنسَ هذا.
وقال أباظة في شيء من انفعال ساخر :
- بالإنسان العربي نزوع إلى تمجيد الخرافة، لماذا نرغمه قصراً على التقدمية؟ ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار.
وقال منصور :
- لا تحدثني بالألغاز.
- إنها أبيات، أبو الحسن التهامي وعى الأمر مبكراً، في حين لا نزال نريد الحرث في الماء.
- إننا هنا محض جنود، لسنا فلاسفة ولا مفكرين،.. تذكر هذا، هل معك طعام فائض؟!
- ليس فائضاً ولكنني لا أريده.
- ستموت سبغاً وجوعاً، لن تنفعك الأفكار.
وكان صوت الضابطين قد علا فآنس القائد شيئاً ملفتاً وسط الجحافل المنتظمة، وعاد يسألهما الصمت والنظام في لهجة صارمة، وامتثل الضابطان امتثالاً تجلى في صمتهما المذعن، كان أباظة يذهب بالخيال إلى حياته القصيرة في زياراته غير المتواترة بالإسكندرية، كيف يستقبله الأهالي استقبال الأبطال الأمجاد الفاتحين، ثم كيف تحيط به الفلاحات واثقات بقدرته على تحقيق العدالة،.. وأما هنا، فالحال قلق، مقلوب على عقبيه، والرأس خفيض لا يملك إلا الامتثال، وحتى العدالة بلا دليل واضح.. أخذته نوبة من الإيمان والورع، حين صعد إلى هذا الجبل رأى السماء أقرب، الأنجم ممسوكة بخيوط العناية، وأحس البسيط ذرة معلقة في مدار إهليلجي، تكاد تتجسم الأيدي العلوية في حرصها على النظام الكوني الدقيق، هكذا تبدو، وهاجة، منيرة، ولكن.. لمَ تقصر العناية عن بلوغ هذا الأتون المشتعل على الأرض؟ وتذكر بيت ابن الشبل البغدادي حين أوفى بذروة مساره الصاعد فاستحضره صامتاً، موافقاً لمقتضى حال ما يعتريه من فكر :"بربك أيها الفلك المدار،.. أقصد ذا المسير أم اضطرار؟".
وجال بصره كأنما يبحث عن خضرة، تنبت الزهور فوق الجبال أيضاً، وتخايلت إليه شجرة البلسم، هذه التي انقرضت في يهودا، كانت اليمن مقراً لمملكة سبأ التوراتية، يوماً.. ما عاد يصدق الأساطير ولكن بمقدور عقله - ودون تأثير من مخدر يمني - أن يصور له الشجرة، إنه يحفظ الشعر، كثيراً منه، قال لمنصور متأثراً بكل ما جال في خاطره، مستغلّاً انصراف قائد الفرقة عن المشهد :
- يقول إيليا أبو ماضي : "ما الكون؟ ما في الكون لولا آدم إلا هباءً عالقاً بهباء"،.. لماذا يشقى الإنسان إذن؟!
وقال محدثه، في لهجة صعيدية :
- لأنه يفكر كثيراً، تماماً مثلما تفعل أنت..
- ستهدأ الأمور قريباً، ويهدأ عقلي عن التفكير بعدئذٍ.
- لا أظن، منذ حاصر الجمهوريون قصر الإمام البدر لم تهدأ الأمور قط.
كان الظلام قد هبط بحلكته حتى لقد تعذر على الرجال أن يميزوا ثوب الجندي إذا هو على بعد خطوات عشرة، واستسلم أباظة للنعاس فيه حاضناً كل تلك الفكر، وفي الحق فإن الرجل كان يود أن يجرفه تيار النوم، حتى إذا جرفه غفل عن واقعه المر، لم تكن أحلامه أكثر رأفة من واقعه إذ حفلت بملامح جحيمية، تنشق الجبال وتذبل الورود وتنصب المشانق،.. ثمة هذا الأمل، الوهم البعيد، طريق بين جبلين تحفه الفلاحات يهمسن همساً قروياً عن يمين وعن شمال يفضي إلى بحر ما أشبهه بالمتوسط، ثم يغنين غناءً حلواً وذا نغم، وقرر الولوج إلى هذا الفردوس، وعند اللحظة الحاسمة أيقظته حرارة الشمس وصخب الجنود،.. ما بال الأحلام تنتهي في ذروتها؟! والتفت عن يمينه فلم يجد منصوراً؟ أين ذهب؟ وأجابوه :
- اختير ليؤدي دوراً في مهمة خاصة، وارء خطوط العدو، وسيعود عند الليل !
ولكن منصوراً لم يعد عند الليل، بكاه أباظة واستسلم لحقيقة وفاته، كان أكثر الجنود وفاءً دون أن يشفع له إخلاصه في ميدان الحرب، وأضمر النقمة على الجميع من المشاركين في مسرحية الهلاك، وتبرم بهم وفاء لصاحبه : بريطانيا، السعودية، الأردن، وحتى عبد الناصر، أراد الأخير الزعامة بعد إخفاقه في سوريا، أراد الزعامة على حساب منصور ومن شابهه، تواترت الأيام، حاول أباظة العودة إلى الإسكندرية بشتى الطرق ولكنه عجز عن مراده، وحتى لقد عزم الشاب على إيذاء نفسه ولكنه ما لبث متردداً أمام اللحظة الأخيرة، وعندئذِ يحدث نفسه، فيرميها بالجبن :"رعديد أنت.. رعديد حقاً.."، وكان قائد فرقته يقول :
- أفضل الطرق للعودة هو الانتصار هنا، إنه ليس أفضل الطرق فحسب ولكنه الطريق الوحيد أيضاً !
وكان أباظة يقول للجنود :
- مات منصور، وسنموت غداً، يجب أن يكون لنا موقف.
وسأله من الجنود واحد :
- من أي بلد أنت؟ (يريد : من أي محافظة؟)
- الإسكندرية.
- لا عجب، دماؤكم حرة.
- جميع الدماء حرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق