الفصل الثالث والثلاثون : هل يُنسى الحب في تنورة الدرويش؟
قصدت مريم إلى فيلا لوران بخطاب جديد إلى نعيم، ولكنها فوجئت بمن يعترضها لدى البوابة وكان حارساً نوبياً، له أسنان بيضاء ناصعة، تبرق أكثر فوق بشرته السمراء، يقول :
- إن الدخول ممنوع !
وقالت دهشة :
- أروم مقابلة الأستاذ، أنس.
- أهذه حيلة جديدة؟ لقد بيعت الفيلا منذ أيام !
-....
ورمقت تمثال الرخام الملائكي بنظرة ألم، ثم التفتت عنه خائبة الرجاء، ومضت تسير حتى جعلت تجلس على هذا الطوار وحيدة، وأخرجت من جيبها هذا الجواب الذي عجزت عن إيصاله إلى صاحبه، وغضبت منه (الجواب) حتى كادت تمزقه،.. لماذا تتضافر الأسباب على منعها من مرادها؟ ولكنها استدركت تقول :" مهلاً.. نعيم أيضاً مسؤول.. وسأنساه.. سأنساه عقاباً لاستسلامه.."، وكانت صابرين تقول لهشام في حين تجهز البطاطس المحمرة :
- مصائب قوم عند قوم فوائد، لا أستطيع أن أتغافل عن حقيقة أن حياتي صارت أفضل بعد حادثة القطار الطائر.
وقال هشام يأكل من البطاطس واحدة :
- لست نادماً إلا على أموال قررت أن أردها إلى الخواجة في لحظة ضعف، كيف كانت صورته حين قابلتِه؟ لابد أنه كان متلهفاً إلى المال تلهف الصائم إلى الطعام لحظة الإفطار..
وتطلعت إليه فهزت رأسها يمنة ويسرة كالمنددة، ثم طفقت تحجب عنه الطبق، ريثما ترش البطاطس بالملح والفلفل الأسود :
- كانت أيامك في المشفى خير نسخة عرفتها لك.
- أيام لا أتمنى أن تعود.
وتسللت مريم إلى مشهد الأبوين، تسأل الأم بنتها :
- هل تريدين المثلجات؟
- ليس الآن.
واستوقف الأم عزوف البنت عن طعامها المفضل فاقتفت أثرها إلى الحجرة، وولجت صابرين إلى الداخل وفي يدها المثلجات وكعك الفانيليا، وتدثرت في ثوب الأمومة المحبب،. وقالت :
- غريب جداً أن ترفضي المثلجات.. ماذا بكِ؟
- ليس أغرب مما وقع لي اليوم.
وروت لها مريم ما حدث في عبارات موجزة، انتهت بقولها : "أحببت الرجل النوبي لأنه كان طريفاً على عظم ما بثه في نفسي من الألم.."، فقالت صابرين :
- اكتفى الشاب بحياته الجديدة إذن !
- ليس الأمر على هذه الصورة.
- لماذا لا تراسليه رأساً؟ ألا تعرفين عنوانه في إيطاليا.
- هذا واجب الرجال قبل النساء، لقد فقدت حماستي للأمر.
وتنهدت مريم وكان قدوم الأم قد أزال عنها بعضاً من العبء النفساني كالوزن الثقيل يتوزع على اثنين فيخف، تقول :
- رأيت الأمومة في مقدمك إليَّ !
- هذا لأنك تحبين كعك الفانيليا ! (ثم في جدية..) الولادة تحرر من مسؤولية الوجود، شعرت بهذا حين جئت بك ثم بعز، تنقلين العناء إلى جيل آخر، ستشعرين بهذا حين تصيرين أماً، سيشفع هذا للأبناء دائماً، إنهم يسقطون جزءاً من المسؤولية الأخلاقية عن آبائهم، يقفون في وجه مدفع الحياة، هكذا، يحملون المشعل كرهاً وطوعاً في مارثون لا يكاد يُرى له نهاية،.. تستمر الإنسانية على أمل أن تجد النهاية الحالمة لواقعها القلق، الجواب على السؤال المعلق، المثير للحيرة والغضب : "لماذا كنا؟ ولماذا كان الشيء؟"، قد يقولون بأن الأمل كاذب بطبعه، ولو صح تجسيده لكان بينوكيو بأنف كبير، وأجدني أوفقهم الرأي في هذا المذهب بعض وفاق، وأرتضي وصفهم، ولكننا جميعاً مدينون للأمل، ولو كان كاذباً، مدينون لهذا البريق، إننا لنرى جذوة من العناية الآلهية في الأعمال المتقنة، إذا اتفق لنا أن ندبر الأمر كما يجب فإننا نقول - بالتبعية - إن الأمور لا تمضي عبثاً، بل هي ذات قصد وغاية، والضد بالضد.. أعود أقول لك : تنقل الأجيال المسؤولية ككرة النار إلى أجيال آتية، كل ولادة جديدة هي طفرة، إذا هي صالحة بمنظور طبيعي فيقدر لها أن تستمر وإلا فإنها تنتهي، من هنا يولد العناء، العناء الجميل، من هنا يتولد التحدي في نفوس الآباء..
وعرضت عليها الأم هاته المثلجات التي كانت قد طفقت تذوب في خضم الحرارة فقبلتها البنت هذه المرة، وقالت صابرين :
- هل تحبين المولد؟! ستنسين نعيماً في تنورة الرجل الدوارة.
- ....
وصحبت الأم ابنتها إلى المولد في هذا اليوم، كان ثمة من يوزع شربات "في حب النبي"، أحمر، وفيه قطع من فاكهة الموز، في أكواب بلاستيكية، وكان موزع الشربات يطوف على العابرين يقول :
- سيشرب الكل منه،.. لا فارق بين مسلم وقبطي !
وكان يشاغبه آخر بقوله :
- من المنطقي ألا تجد الأقباط في مولد النبي.
وكانت صابرين تقول لابنتها :
- أحبَّ جدك - رحمه الله - العبادة، كان ناسكاً، ولم يفوت مولداً للنبي لم يحضره في الإسكندرية، تشربت منه الدين دون جفاء أو مغالاة، مقترناً بالابتهاج والاحتفالية، أحاول أن أورثك بعضاً مما نقله إليَّ..
وهنا شرع المنادي يقول :
- نحيي اليوم ذكرى ميلاد النبي محمد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول.
وابتدأت المراسم، تطلعت مريم إلى التنورة الزاهرة وهي تدور، تحفظ حركة الرجل الدؤوبة في انفتاحها كالزهرة مدفوعة بقوة الطرد المركزية، وأخذ الرجل يزيد في سرعة دورانه، والمتابعون في إشفاق عليه وذهول منه وتصفيق، كانت صابرين تقول بين التصفيق مبتسمة :
- هل نسيت نعيماً ؟! أقسم أنك ستنسينه..
فلم تكد الأم تتم حديثها حتى انهار الرجل على الأرض، وانكمشت تنورته بالتبعية كذبول زهرة، هرع إليه الخلق من كل حدب يطمئنون إلى حالته، يقولون :
- لقد أسرفت كثيراً في السرعة ! (ثم بعد أن يجيبهم بأن لا شيء..) الله خير حافظ !
وكانت مريم تقول لأمها متأثرة بما رأت :
- أريد الرحيل عن هنا !
ولبت الأم مطلبها في أسف، وتبعت مسارها إلى البيت، فيما كان هاتف الأنشودة قد عاد ينشد بصوت حسن :" طلع البدر علينا من ثنيات الوداع.."!
بعد أسابيع ثلاثة..
كان هشام عزمي يجلس يقلب في الأوراق على هذا المكتب، فيهمس بين آن وآن : "معادٍ للثورة؟! يالك من محتال، لم يبقَ سوى الإقطاعيون وأصحاب رؤوس الأموال كيما يرمون الآخرين بالانتهازية.."، في حين جعلت صابرين تتقدم في حرص وفي يدها صينية صغيرة استوى فوقها كوبان من القهوة - تتقدم إلى حجرة زوجها، صاح الرجل بها بغتة يقول :
- صابرين ! إلهي ! لقد قطعت حبل أفكاري مجدداً..
واضطربت خطاها، هوى فنجان القهوة، قالت في غضب كانت تكتمه :
- اللعنة على هذا الحال مرتين ! تشرب ما لا يحصى من هذا المشروب الأسود كالذي يتجرع كؤوس السم، ثمان فناجين دفعة واحدة، هل جننت؟! تنغمس في العمل تاركاً نفسك نهباً للتوتر،.. إنها وصفة انتحار، لا عجب أن يشتعل جهازك العصبي، ولأهون سبب، إذا أنت تسير حياتك على هذا النحو، إننا نقيم في فندق، جناح فندقي.. تحتاج الأسرة إلى إجازة نخلو فيها عن البشر، بعيداً عن هذا الصخب اليومي !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
وقال وهو ينهض يلملم الكوب المنكسر نيابة عنها :
- ستعذرين توتري حين تعرفين سببه، يرميني منصف الدمرداش بالباطل، يقول بأنني معادٍ للثورة، ثمة هذه التصنيفات الثلاث التي تقيم الكون من منظور الثورة : معادٍ، محايد، أو مؤيد،.. إن عملي بالاتحاد الاشتراكي يظهرني على هذه الأمور كالرجل يستشرف السهل المنبسط من فوق تَلْعة، يستخدم الأحمق سلاحي الذي أخبره وأعرفه ضدي..
وقالت متحفزة :
- لا عجب أن تكون ابنته سوسن، الحية لن تلد إلا الأفاعي.
- لقد ماتت المرأة على أي حال.
- لماذا نسمي عدالة الأقدار بمسميات أخرى؟!
- لم تكن تستحق هذه النهاية.
- وكأنك لا تزال تحبها.
-....
وجلست على الكرسي المقابل للمكتب، كان ثمة دمية طائر تهبط لتشرب الماء، يرتفع رأسها، ليعود يهبط في تواتر، تقول له :
- عز يروم الالتحاق بكلية الشرطة.. ولا أفهم السبب..
وقال في سخرية :
- سيخفق في قفزة الثقة، سينكسر عنقه، إن تكوينه الجسدي دون المطلوب !
- إنني لا أمزح،.. سمعته يقول بأنه سيعيد عائلة أبي جريشة إلى الإسكندرية يوماً.
وضحك الرجل، قالت :
- لمَ تضحك ؟!
- تبدين مضحكة حين تدعين الجدية، انظري إلى هذا (يشير إلى دمية المكتب..) يهبط الطائر كيما يشرب الماء ثم يعود يصعد، ليهبط من جديد، إنه لا يكف البتة عن العطش، كأنما يشرب من الماء المالح، أحياناً أناقشه في قضايا وجودية حين تخلو الحجرة إلا منا، إنني أقضي معه من الوقت فوق ما أقضيه معك أو مريم أو عز،.. ما أشبهه بنا نحن الآدميين في سعينا المتواتر !
واصطبغ المجلس لحديثه بصبغة عدمية، وفلسفية، ومكث الاثنان يتأملان هبوط الدمية فصعودها في رضاء وصمت، وندت عنهما ابتسامتين توافقتا دون اتفاق، وبغتة طُرِق الباب في شدة وانضباط، كان ضابطاً قد جاء للتحقيق مع هشام عزمي، ومضت الأمور في عزم وعجلة، واصطحبه إلى النيابة يسأله :
- هل حصلت على قروض لم توفِ ثمنها؟!
- كلا..
- يتهمك مصنف الدمرداش بالاحتيال.
- المزورون يرمون الناس بالباطل لأنهم بلا ضمير.
- الكاذبون دائمو الإنكار أيضاً.
- لماذا تحقق معي إذا أنت تراني كاذباً؟!
- هل تعادي الثورة؟
- أهذه مزحة؟ إنني عضو في الاتحاد الاشتراكي، حقيق بهذه التهمة أن توجه إلى غيري، إلى منصف الدمرداش الذي كان ملكياً أكثر من الملك نفسه، لقد أممت مصانعه، ثم انقلب بلا حياء كالحرباء، مؤيداً للثورة.
- هل تعرف ابنته؟
- كانت زوجي، قبل أن ينقلب بنا القطار وتموت، ولا تقل لي بأنني دبرت هذا لأن عنقي كاد ينكسر بسبب الحادثة نفسها.
كان عز ومريم قد لحقا بوالديهما ينتظران نتائج التحقيق، وأحس عز شعوراً بالانقباض لدى دخوله هذا القسم، كأنما تشوه حلمه الوليد في الالتحاق بكلية الشرطة، إن مثله كمثل الممثل الذي يخفق في أدائه لدى صعوده على خشبة المسرح أول مرة فينكص عن الوفاء لشغفه، ويعزف عنه عزوف من اكتوى بالسخرية والفشل، ثم صدم بالواقع المخالف لما في مخيلته من تصورات مثالية،.. طال أجل انتظار التحقيق، كان الفتى يرمي برأسه على ساق أمه التي جعلت بدورها تمسح بيدها على شعره الناعم في هذا الاتجاه الأمامي، وقد كان هذا يزعجه دائماً، لولا أنه شعر هذا اليوم بما في هذا التصرف من العطف فلم يشأ أن يصدها، فيما كانت مريم تقول :
- أوقع أبي نفسه فيما لا يحصى من المشكلات، ودون مبرر، استعدى الصديق قبل العدو !
وقالت صابرين لها :
- ليس هذا وقته، المثل الصيني يقول : إذا كثر نباح الكلاب فاعلم أنك أوجعت الكلاب.
- تدافعين عنه دائماً.
ورفعت الأم رأس عز عن جسدها فارتدت قناته إلى استقامة، وجعل يحك شعره، التفتت إلى البنت تقول :
- وماذا أملك غير هذا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق