الفصل الأربعون : مسيرة الحياة
كان فؤاد - الابن الأصغر لعبد الغني - وفي هذا الوقت، فتى في الخامسة عشر، وقد أرهق أبواه إهمالاً واستهتاراً، سماه عبد الغني بـ "فؤاد" تبركاً بالملك أحمد فؤاد الأول، وقد وقعت الثورة بعد عام من مولده، وبدا أن الابن سيِّئ الحظ مثلما هو سيِّئ السلوك، حارت هدى في تهذيبه، وقالت له يوماً :
- لماذا لا تشارك عبد الغني في وقفة الحانوتين؟!
وقال :
- أهملني أبي ومنذ أول يوم حتى صرت من سقط المتاع، فضل عليَّ مراد، ثم كُسير وعُوير وثالثٌ ما فيه خير.
وأنكرت عليه قولته، ثم قالت :
- هل يليق بك التسكع، ليل نهار؟! أين أنت من التعليم؟
- لماذا يكدح الناس في دنياهم إذ كانت السبل المعتادة لا تدر عليهم عائداً كبيراً؟ أخبريني عن شخص واحد أمكنه أن يحوز ثروة دون ميراث، السبل التقليدية فقيرة لأنها مجال تنافسية الجميع، ما العصامية إلا وهم يتخفى في ظرف ملائم وقدر استثنائي..
- ماذا تريد أن تكون إذاً؟
- سأشتغل بالتجارة، أحب الكسب والمال، وسأرضى بنتاج قراري هذا ولو قل.
- لا تجارة قبل التعليم، كان على أبيك أن يمنع عنك العمل في وقت الدراسة قبل أن يحببه إلى نفسك.
وانتفض ببغاء الكوكاتيل لشعوره من الخوف الذي جره عليه احتدام نقاشمها، قالت هدى :
- حتى الببغاء ما عدت تطعمه..
- ....
ودلف عبد الغني فقالت :
- إني أشهدك عليه..
وترك فؤاد الحانوت عند مجيء أبيه، كان يسمع الرجال بالحي ويراهم يقفون بالنواصي يقولون :
- سيندمون إذا وقعت الحرب..
وتأمل فؤاد هذا الغراب الذي يقف فوق الرؤوس، وعلى سلك من كهرباء، كان السبيل يرتفع حتى يبلغ غايته لدى الناصية التي تبدو كالتل من زاوية المراقب، قال ثانٍ :"قد يتفق أن يتهاوي ويتراجع كل شيء بعد يوليو.. ما خلا هذه.. أعني قدرتنا على الحرب.."، كان خليل بائع الفول يطوف الشوارع وقال في استبشار شبيه بالحمق :
- سنشرب الشاي في القدس، قريباً !
وبدا مستبشراً حتى أنه تخلى عن سيطرته على عربته التي سرعان ما هبطت من فوق الناصية المرتفعة دون صاحب، واجتاحت بسرعتها المشاة الصاعدين في عناء فجرفت منهم اثنين، استبق فؤاد حركتها في براعة واستشراف وأمكنه أن يجبح جماحها، وتجمهر حوله الناس يثنون على حسن تصرفه، ولأول مرة حاز الفتى الثناء، وتمخض هذا الجمع عن ظهور آدمي يقول لفؤاد، وكان رافلاً في بالطو من فرو، ومعتمراً قبعة من صوف :
- هل بمقدوري أن أفيد من قوتك؟
- ....
- ستعمل في نقل ثمار البطيخ لقاء أجر مجزٍ، في جبل نعسة.
وقبل فؤاد بعرض الرجل ذي البالطو، تحفظ عبد الغني وهدى بادئ ذي بدء حين علما بالأمر، ولكنهما لم يجدا بداً من موافقة الشاب المتحمس لوظيفته، وأمكن أن يمرر قصده تحت شرط العمل في الصيف وفي الإجازة التي تسبق الثانوية، حين قصد فؤاد إلى عمله ألفى نفراً من الشباب يعملون في الحمل والنقل، وساوره العجب من رؤية بعض أصحاب الشهادات يعملون كـ"عمال التراحيل"، يكسبون قوت يومهم في رضاء وجلد، بدأ الشاب في نقل ثمار البطيخ التي لم تكن لتعد شيئاً قياساً إلى أوزان أخرى في موقع العمل، وأظهر الرجل صاحب البالطو وجهاً آخر حين خلع قبعته الصوف وأفصح عن اسمه :
- اسمي عبد الشحات.. النظام والانضباط ديدن العمل هنا.
-.....
كان فجاً، غليظ القلب، وسرعان ما بات يسير العمل مستخدماً هذه العصا، أمسى فؤاد يرى نفسه في قلب محنة حقيقية، أظهرت له الحياة وجهها الكريه، ولكنه سرعان ما شرع يهمس في أذن الحمال، مستلهماً روحاً يسارية طغت على هذا العصر، كأنما تخايل له ظل تروتسكي في الأنحاء المترعة بقسوة وجفاء العمل :
- علينا أن نتخلص من الرجل صاحب البالطو..
وأبصر الجمع جاسراً، هذا الذي كان سوء عمله سبباً في ذيوع صيته، أبصروه يتقدم فيتحدث إلى عبد الشحات الذي قام إليه بدوره، وهمس من عرفه منهم :"ننقل بضائع مسروقة..".
في موقع آخر..
قبض الموت على ضاحي في ليلة عاد فيها مراد من دمياط ظافراً بصفقة تجارية كبيرة، فجع مراد - كرة أخرى - في أبيه بعد زوجه، وطوقته الأحزان كفارس تقدم وحده في معركة يلاقي الخصوم فتكاثروا عليه، وفي ذات يوم والحزن يملأه حتى عنقه والأكدار تعصف بسلامه إذ ارتأى أن يقصد إلى حدائق الشلالات يسري عن ذاته، كانت ذات هضاب خضراء عالية، وممرات ترابية، تتناثر بها أشجار النخيل، محتوية على ما يشبه القلاع المهجورة المنتمية إلى أحقاب من التاريخ مختلفة، البرج الغربي المنتمي إلى العصر الإسلامي، طابية النحاسين المنتسبة بدايات العصر الحديث إبان عهد محمد علي، وكذا بقايا السور الروماني،
وطفق يحدث نفسه :"الأطفال أيضاً أقل احتمالاً من أن يروا مشهد الموت.. ويعايشوا وقعه المقبض.. سأصحبهم إلى هناك.."، ووقف مراد تحت مظلات "البرجولا"/التعريشة، وجلس - ومن معه - على كراسيها الخضراء، وهناك قالت له تهاني :
- حملني ضاحي وصية قبيل رحيله.
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
والتفت إليها كأنما شغلته الفتاة الصغيرة عن حالته المستغرقة، وغرضه من زيارة الحدائق، يقول وجهه دون حديث "وماذا تكون؟!"، وقالت:
- قال : أخبريه بأن يتزوج..
ومكث مدة يتأمل صورة تهاني، إنها تجلس حاملة - على صغرها - فردوس النائمة على كفيها، كانت المظلات أشبه بالسقف المثقوب حيث تتقاطع الخطوط رأسية وأفقية، بعض أضواء النهار تنفذ، فيما تمنع البرجولا/التعريشة أخرى، وسألها (تهاني) :
- وأنتِ، ما رأيك؟
- هل تعتقد بأن رأياً يصح أن أدلي به في هذه الشؤون؟
وابتسم لها، نظر لفردوس يقول :
- أجل، أراكِ بمثابة نرمين حين تمسكين بالطفلة..
وتحركت تهاني خطوات، وقفت تنظر إلى مجرى مائي طويل موسوم بالجدب والنضوب، تحوطه أحجار صخرية مهشمة، يفضي عبر نفق صغير إلى بحيرة ساكنة ذات مياه آسنة، عادت تقول :
- لا تتزوج،.. إن امرأة جديدة ستقلل من اهتمامك بنا.
وأخذ يثني على رأيها في استبشار كأنما أسعده أن يوافق جوابها ما في نفسه، يقول :
- أحسنتِ، (ثم في حزن..) وليسامحني أبي إذ عصيت أمره..
ونهض ليرى هذا الحوض الإسمنتي الدائري الذي يتوسط الحديقة، وأغراه مسير البط والأوز فيها بالتماس الهدوء وتذكر أبيه، فجعل يقول متنهداً : "انتظرته أجلاً، ثم سئمت من لقياه فنسيته، وجدته صدفة فأنكرته، ثم اعترفت به، ثم انتهى ومات.. ما أعجب مسيرة الحياة ! وما أغرب حوادث الليالي !"، وجعل يناجي نفسه والأطفال في عجب منه :"نصحني جمعة بالاندماج في عمل كيما أنسى أحزاني، ولكن المشكل أنها (الأحزان) كامنة في الوجدان، وحين أعمل أعالج هذه القشرة الخارجية دون أن أسبر أغوار ما هو أعمق..", ولم يكد يتمها حتى بلغت الأوزة غاية مسيرها المحدود فاستدارت عن حائط الإسمنت المقوس.
كان الأطفال يندفعون إلى الضفة الأخرى، حيث توجد شلالات رحبة منبسطة، تواجه إستاد الإسكندرية، ومضى مراد من ورائهم في مشهد معكوس يتقدمه الأطفال، وانتهوا إلى عشب ذابل، وأشجار يابسة، وكذا بعض المقاعد الرخامية المنكسرة، وقال الشاب محذراً الأطفال من الأخيرة :
- لا تجلسوا على هذه فيمسكم سوء..
كان ثمة بعض أغصان الأشجار الكبيرة المترهلة، تكاد تلامس الأرض، وجعل الأطفال يلهون عليها كالأرجوحة، وقالوا له في سعادة انتقلت إليه:
- إنها أرجوحة طرزان.
في اليمن..
فقد أباظة حماسته للقتال منذ التقى بمنصور لقاء الصدفة قرب ربوة الجبل، ووقر في خاطره حقيقة أنه لن يعود يلتقي بمنصور مجدداً، فجز على أسنانه كأنما يتجشم ألماً معنوياً، فيعبر أشق المشاعر الإنسانية : الفراق.. وتذكر قول عمر بن معد يكرب، الذي يحفظ تذكرة كالتبصرة :
الحرب أول ما تكون فتية .. تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا استعرت وشب ضرامها.. عادت عجوزاً غير ذات خليل
أعقب اتفاقية جدة لون من الوفاق الجزئي بين الجمهورية العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وهبط - إثر ذاك - عدد الجنود المصريين، وتحقق لأباظة - في خضم ما أحدثته الاتفاقية من تغيير - مراده في العودة إلى الإسكندرية، لم يكن الاستقبال حافلاً - كالمعهود - من قبل الأهالي، استغل جاسر فترة غيبته الأخيرة شر استغلال، وتقلبت الأبصار نحوه (أباظة) في عتاب ورجاء.. واستقبلته هدى تقول:
- وَجَدَ فؤاد أين يخفي جاسر بضائعه المنهوبة، إننا إذا عزمنا أمرنا أعدنا الحقوق بضربة واحدة.
وقال أباظة وهو ينظر لفؤاد الصغير :
- لعل الأمر أشتبه عليه.
وقالت منفعلة :
- كلا، (ثم وهي تلتفت إلى الابن..) فلتظهره على أوصافه التي رأيتها؟ ألم تر إلى لونه الأسمر، وشعره الأكرت، معطفه الجلدي، وحتى أنسياله الفضي الضخم؟
وأومأ فؤاد برأسه مقراً بحديث الأم، تساءل أباظة وكان متأثراً بما وقع باليمن:
- لماذا لا تبلغا الشرطة؟
وأشاحت هدى وجهها عنه تقول :
- عجيب جداً ما تقوله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق