الفصل الثلاثون : لويس يشتري لوحة البرج والفنار !
1964م..
اشتدت بالعوالم من فرقة عفاف بالإسكندرية محنة المال بعد إغلاق مقهى الفنانين، وعدمن من مورد رزق فتشتتن سعيهن بالأرض في سبل العمل، وعدن يوماً إلى اجتماع، كانت النسوة يناشدن فريدة - صاحبة المفتاح وصديقة عفاف - أن تعيد افتتاح المقهى المغلق، فتجيبهن في إصرار :
- لا أفتحه حتى تعود صاحبته !
وتقول العالمة الأولى لها :
- إن صاحبته في باريس، لقد حازت مجداً عالمياً، بينما لا نزال ماكثات في حمأة الأرض.
وقالت فريدة :
- إنني أنتظر زيارتها السنوية، حين تعود من باريس.
وتقول العالمة الثانية :
- لقد طال أجل الانتظار لزيارتها السنوية المزعومة، حتى لقد يخيل لي أنها نكصت عنها بلا عودة، لماذا يجدر بنا أن نهتم لأمرها؟ يجري المال بين يديها الساعة كالنهر بلا حساب.
ويقول ميسرة :
- إن رأيي من رأي سيدتي فريدة : أن ننتظر حالما تعود ربة الشأن فتدبره بنفسها !
وكانت عفاف قد استقر عزمها على العودة إلى الإسكندرية صحبة لويس، ويوسف، وأقامت للعازف الأمريكي سهرة في المقهى الذي أعيد افتتاحه بعد أعوام متربة من النسيان، فغنى لويس لحناً من موسيقى الجاز شهيراً هو Take Five لـ Dave Brubeck، كانت عفاف تروم استرضاءه عن قصد أن يعينها الرجل ذو الشهرة على تحسين سمعتها في باريس، والتفت يوسف في جلسته عن يمين وعن شمال يرقب الاستقبال الخافت من الجمهور المحلي للحن العالمي، وحضرت العوالم - ما خلا فريدة - فأسرفن في إبداء إعجابهن بالعزف الغريب يردن التودد إلى سيدتهن، منفعلات بين محايدين، وفاتحت العوالم عفاف حول رغبتهن في إعادة افتتاح المقهى أوقات وجودها في باريس، فقبلت طلبهن، واشترطت - في هذا - أن تحصل على نصيب من العوائد، وتساءلت في خضم النقاش معهن :
- وأين فريدة؟!
كانت العالمة فريدة يعتريها هذا الشعور بالإثم بسبب وظيفتها، إن هذا الإحساس ما دعاها حقاً إلى المماطلة حول إعادة افتتاح المقهى، ثم ساقها إلى نبذ حضور سهرة الجاز، وقد عنَّ لها في هذا اليوم خاطر ديني استجابت له، فقصدت إلى مسجد سلطان لأجل الصلاة، كان حضور النسوة في مساجد المدينة حدثاً غير شائع، ولكنها لم تلقِ للأمر بالاً،.. كان إمام المسجد رحب الصدر، بليغ اللسان، وقد استولى على الأسماع من سبيل إمساكه بأبواب الخطابة، يعلو مجاهراً، ثم يخفت متراجعاً، وبين حين وآخر يجلس جلسة الدعاء فيشرب الماء كأنما يكتم المزيد الذي يتجلى في ملامحه المتحفزة، ثم يعود إلى ما كان عليه من صورة الخطيب المفوه في انفعاله العاطفي، وإنه لمحسن استخدام الجناس الناقص فيسرف في بعض الألفاظ التي يكون لها معنى متقارب إذ هو ينادي في الحضور : أيها الأخيار، الأطهار، الأبرار..، كأسجاع الكهان التي تضع السامع في نغم وإيماء دون أن تشير إلى حقائق جلية محددة،.. وقد أعقب الصلاة بدرس ديني لامس شغاف قلب فريدة وحملها على الطمأنينة، يقول :
- إن أبواب التوبة مفتوحة على الدوام، وأمام أعتى العصاة !
ورفعت فريدة يدها، تنشد السؤال :
- وماذا عن الراقصات ؟!
وضحك الجلوس، قال الإمام مبتسماً :
- وأمام الراقصات، أيضاً !
وأزاد في خطبته الحماسية يقول :
- نعيش زمناً مادياً بحتاً، لقد نزعوا من حياتنا الروحانيات باسم المادة يقولون بأن منبراً للدين لا يحتمل الحديث عن غيره من موضوعات الدنيا، ولكنني أجهر بالآتي : في العالم شرور ودول، ودول تحمل الشرور، إن الاتحاد السوفيتي، على سبيل المثال، من هذا الصنف الأخير، يقف وراء هذا الفساد الذي أصوره، والخواء الذي نلمس أمارته، ومن أسف أننا نقف في خندقه وحزبه، سينهار كما أنهار هُبل الأعظم، وسينهزم دعاة المادية الجدلية، آجلاً أم عاجلاً..
واجتمع الإمام مع فريدة بعد انتهاء الدرس الديني فاستوقفها قبل انصراف، مدت المرأة يدها إليه فتورع عن أن يبادلها، يكتفي بقوله :
- اسمي عبد الستار !
وقالت فريدة في لهفة، وغير مواربة :
- طاقتي تقصر عن التوبة !
وقال لها خافض العينين، في لغة جسد تتوخى التعفف :
- يتطلب الأمر إرادة صلبة، تجدين الإيمان على القُنَن، ولو أن الأمر من السهولة بمكان لنعم به الجميع، إننا أبناء طريقة الإمام أحمد سلطان، تعقد حلقاتنا في سيدي بشر، ويسرني حضورك.
كانت طريقة الإمام أحمد سلطان تنتمي إلى القادرية النيازية، وأحست فريدة انجذاباً نحو الصوفية، فباتت تتشوف إلى العتبات الطاهرات، وتستأنس بدعاوي الكرامات والعرفانيات، تلج الأبواب المطرزة بالنقوش النحاسية، وتجلس بين الجالسين فتستكين سورات روحها المرهق، وحتى لقد تهز رأسها يمنة ويسرة إذا تهيأت لها فرصة الطرب والاستحسان، كان عبد الستار يهتف بما هتف به عبد القادر الجيلاني، الفقيه الحنبلي :"يا زُهَّاد الأرض: تقدَّموا، خرِّبوا صوامعكم واقربوا منى، قد قعدتم فى خلواتكم من غير أصل، فما وقعتم بشىء تقدَّموا، رحمكم الله، والتقطوا ثمار الحِكَم،.. ما أريدُ مجيئكم لى بل أريده لكم.."، فتخفض المرأة رأسها خشوعاً للإلقاء الهادر المتفجر، أحبت فريدة عبد الستار وتزوجا زواجاً اشترط لإتمامه الرجل توبة المرأة عن حياة الملاهي والطبول.
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
وجعلت عفاف تودع الإسكندرية صحبة لويس، ويوسف عائدة إلى باريس، قصيرة زيارتها حافلة بالمشاعر والعواطف، لقد غسلت المرأة وجهها بماء البحر المالح، أحست نفسها أصغر عمراً، وأكثر رضاءً،.. ماذا يكمن في الإسكندرية إلا سحر مطمور؟ إنها جميلة لو كانت عابسة شاحبة بطبيعة الزحام وقسوة المنافسة،.. وتمثل الماضي، والحاضر، والمستقبل، في مخيلتها حين طافت شواطئ المدينة،.. كان ثلاثتهم في الطائرة التي حلقت فوق الإسكندرية، ما لبث أن صغرت المعالم، وتآخت السحب، كان لويس يقول :
- "من أسف أنني لم أجد ما توقعته من الاهتمام هنا، أمام موسيقى الجاز أشواط كثر كيما تنتشر في هذه الأصقاع، غير أنني أحببت المدينة..".
وقالت عفاف :
- "لقد بهر العوالم بما قدمت.. لا تبتئس.. لاتزال نجماً عالمياً..".
-"أجل.. إنهن أجمل ما في المدينة..".
وقالت عفاف وهي تبصر صورة المدينة من هاته النافذة العلوية، تحدث زوجها :
- لا تزال جميلة، أنت تبالغ كثيراً حين تزعم أن المدينة تحتضر، لقد تخففتُ من عبء الشهرة هنا، ولأيام، ولم يزعجني من الأمور شيء إلا أنني لم ألتقي بفريدة.
وفي ساعة أعقبت رحيل عفاف عن الإسكندرية جاءت العوالم إلى فريدة يقلن لها :
- نريد المفتاح، مفتاح باب مقهى الفنانين..
وأعرضت عنهم المرأة، قالت :
- فلتبحثن عن عمل آخر، وأنت (تشير إلى ميسرة)، خليق بالرجال أن يشتغلوا بأعمال الرجال، اسمعوني : لقد تبت عما كنت فيه، توبة متأخرة في عمر الخمسين.
واعترضت العالمة الأولى :
- تقطعين أرزاقنا باسم التوبة؟ المفتاح، نريد المفتاح، وقد يتفق لنا أن نستهجي الكلمة من الطريق المعكوس إذا أنت غير واعية لما نريد !
وقالت :
- ألقيت به في البحر، اذهبوا إلى عباب الموج فاسألوه حاجتكم.
وقالت ثانية :
- لا أصدق ما جرى للعالمة فريدة !
- لست عالمة، حقيقتي غير ذلك، انجذبت إلى حديث الدين أول ما سمعته في قالب اللين والحسنى.
- أين الأخلاق في منع المعروف؟
- ليس فيما تطلبون من صلة واحدة إلى الأخلاق.
وتدخل ميسرة يقول وهو يرقب ما وثب إلى معالم البيت من اللون الأخضر (لون الصوفية) :
- الحقيقة ليست في الدروشة ولا في هز الرؤوس.
- أين الحقيقة إذن؟ أمام الكؤوس، وفي صالات الخمر؟
وقال ميسرة :
- لا هذا ولا ذاك.. (واتكأ على ساعد الكرسي المذهب يقول..) فلتعودي إلى صوابك، سيدتي، سنموت جوعاً وسبغاً، الخلاف بيننا هين !
وقالت وهي تقلب حبات سبحة من الكهرمان الخام في يدها :
- بل هو عميق ولا يمكن جبره.
ولاح عبد الستار من غرفة داخلية فجلس وسط الحاضرين غاضاً بصره، ساد الصمت، وانتهت الجلسة بمجرد حضوره الواجم، تفرقت العوالم في خيبات رجاء.
وفي هاته الأثناء كانت الطائرة المنطلقة من الإسكندرية تحط رحالها في باريس، كانت عفاف تلح على لويس بزيارة بيتها فيما كان يوسف يقول لها همساً وبعربية لا يفهما الرجل الغريب، لدى عتبة الباب :
- وكأنك تعمدين إلى إثارة غيرتي، بربك.. ما شأن عازف الجاز ببيتنا؟!
وقالت :
- سمعة المرء كالبالون، يقضي زمناً يحاول ملأها بحسن السيرة، ثم تنفجر لأهون سبب، سيصلح لويس ما أفسدته الصحافة، أنه يحوز هذه المصداقية التي يكتسبها المشاهير في أوائل سيرتهم، قبل أن يتورطوا في الخوض فيما قد يسيء إليهم.
وقال منفعلاً :
- أنى له أن يملأ البالون بعد أن تمزق وانفجر؟!
- إنه الأمل الوحيد لي..
- لماذا لا تتقبلين فكرة الحياة الطبيعية؟! جل الناس يقضون حياتهم في الظل راضين.
- وكأنك تريد من طائر لامس أفقاً سامقاً أن يعود يقضي البقية من حياته على الأرض، ألا يوصف بالتخاذل بعدئذٍ؟
- سأصفه بالقناعة والفهم السليم لحركة الحياة.
ولاحظ لويس احتدام نقاش الاثنين فأبدى رغبة في الانصراف يقول :
- "لا أود أن يكون حضوري قد سبب ضرراً في حياة أسرة لا تُصدق، كأسرتكم..".
وكاد يمضي لولا إلحاح عفاف الذي حمله على دلوف البيت، فما أن وطأت قدماه (لويس) بيت الاثنين حتى هرع إلى هذا الحائط يقول بينما يسلم الساكسفون (آلته الموسيقية) للأرض :
- "إلهي ! من ذا الذي رسم هاته اللوحة؟! أهو رسام معروف؟!".
وكانت إشارة إلى لوحة الفنار والبرج التي رسمها زهير قبل مدة، كانت عفاف قد قصدت إلى مرحاض المياه أول دخولها، وتدانى يوسف من المتحدث المبهور وحده فكان (يوسف) على شيء من سأم بينما تضيق عيناه، يلتفت إلى وجهه الأسمر المحتقن تارة، وتارة يعود يحدق إلى اللوحة التي ألفها حتى لم يعد يرى فيها ما يستحق العجب، قال وهو يلتقط الآلة الموسيقية النحاسية الصفراء نيابة عن صاحبها :
- "بل هو ابني، زهير.. هاك آلتك..".
وقال الرجل في حين يستلم من يوسف آلته :
- "لا بد أن في هذه اللوحة سحراً خاصاً،.. أعرف أنني لا أترك محبوبتي (يريد الساكسفون) إلا لأمر خاص.".
وقال يوسف :
- "سيسعد زهير بهذا، لا يزال صغيراً..".
- "مستقبل باهر في انتظاره.".
كانت عفاف قد عادت أخيراً من المرحاض تقول :"لا أرتاح في مراحيض الطائرات، يكلفني هذا كثيراً.."، واستقبلها لويس يقول :
- "سأشتري هذه اللوحة..".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق