رأس عام 1951م..
عاد هشام عزمي يسترق المواعيد في مقهى الفنانين، وعلى هذا، توطدت صلاته بسوسن توطداً أزاد الهوة بينه وبين امرأته (صابرين) إلى حد صارت علاقتهما معه مقتصرة على رعاية الطفلين وتدبير أمرهما.. وكانت صابرين بدورها قد يأست من تجديد شباب حبها القديم وقنعت بأن العناية بالطفلين واجب تهون معه المنكدات، ثم وفدت إليها مسألة العمل في كلية الآداب معيدة - نظراً لتفوقها الباهر في سنوات الدراسة - فلم تعد تفرغ من مهام البيت إلا وتتلقفها مهام الجامعة.. وزاد الرجل الموسوم بالطابع الشرقي حنقاً عليها حين بدت تفوقه بأشواط على سلم الوظيفة وهو شريك الخواجة التعس بالمصبنة،.. ورمق الرجل فرق الراقصات والحواتية بنظرة امتعاض، وكان القرد "ميمون" فوق المنصة يمسك بذيله بالعصا في خفة، وقال الرجل لسوسن :
- إنهم يشترون رضا الجمهور بهذا السخف !
وقالت وكانت المرأة المقيمة في حي لوران المترف لا تزور حي كرموز إلا للقاء الرجل :
- يبدو أن العوام بالمملكة يؤثرون أن تملأ عقولهم بمثل هذا، أعني أنها ليست ظاهرة تخص المقهى قط، ولعلها لا تخص المصريين وحدهم.. إنك إن أسهبت في الشرح والتفصيل حول قضية ما احتجت إلى عقل واع وصبر مديد،.. وأنى للعوام بمثل هذا؟ إن ديدنهم العبارات البراقة الموجزة والخطب الحماسية،.. كيف يفوز الوفد بغير هذا؟ إنهم (العوام) يدعمون الوفد دعماً لا يتزحزح، فإذا سألتهم عن السبب السياسي أو الاقتصادي لم تظفر بجواب ولم تهنأ بقناعة، لا أحب أن أصفهم بالغوغائية كيما لا أتهم بتعال أو صلف ولكنهم في قناعتي لا يحسنون الاختيار متى أتيحت لهم فرصته.. إني أميل إلى الأحرار الدستوريين، إنه حزب يمثل الصفوة الاجتماعية الباقية،.. ولكن لا نصيب له يذكر في أي انتخابات تُجرى،.. لقد بُنيت فكرة الانتخابات على خدمة الأكثرية وما تواضعوا عليه،.. ولكن ماذا لو أن الأكثرية لا تحسن الاختيار؟ وقد يقول قائل بأن لدى الأمر نزعة أن يصحح من نفسه بنفسه،.. ولكن ماذا لو أوصلت الأكثرية من يعتزم على تدمير هذه النزعة؟ حينئذً يكون الاقتراع سلماً لاستبداد على مثال ما جرى بالرايخ على عهد وصول هتلر وتدمير ألمانيا لنفسها بعد تدمير جيرانها،.. إنه لأمر عضال حقاً : كيف يسوس مجتمع شؤونه ويدبر أمره؟.. لقد كانت المملكة المصرية، القاهرة على التحديد، وعلى عهد الخديوي إسماعيل تضاهي باريس من جهة العمران، فانظر كيف انقلب الحال وحل التدهور وانتكس البنيان !
وذكرت له المرأة شيئاً عن رأي غوستاف لوبون - وكانت كثيرة الاستشهاد به - في وجوب انقضاء زمن طويل على الأمة حتى ترتقيَ إلى درجة رفيعة من الثقافة، وفي اقتضاء زمن قصير حتى تسقط في هوة الانحطاط، فقال منفعلاً :
- غوستاف لوبون ! مرة أخرى ! لقد أمسى شريكاً في جلساتنا، حتى لقد يخيل إليَّ أن شبحه يجلس هنا (يشير إلى كرسي فارغ..) ! إني أراك توغلين في إحباط لا سند له،.. وماذا عن مفكرين وفنانين تحفل بهم البلاد كطه والعقاد ونحوهما؟!
وقالت تستحضر شيئاً من إرث لوبون مجدداً دون إشارة :
- وفي زمن كانت روما تحمل فيه بذور الانحطاط القريب كانت تشتمل على أروع المتفننين والأدباء والعلماء ! أخشى أننا صرنا كمركب يتشاجر على قيادتها أطراف ثلاثة في بحر مجهول المعالم،.. والخوف أن تختطف - في حالة التنازع هذه - إلى ما لا يحمد عقباه !
وكانت المرأة ذات الصورة الراقية تكتسي بحلة من النضارة فوق نضارة المظهر حين تبدي رأياً يراه محدثها سديداً أو عميقاً، وكانت لها صورة مترفعة تتزين بها بنات الطبقات المترفعة الأرستقراطية والإقطاعية، أو ما عرف بـ"الطبقة" من أولاء المصاهرين للبكوات والبشوات أو العاملين في أفلاك الموسرين، وانتقدت المرأة الفيلسوف الألماني "هيغل"، وقال بعد أن عرضت عليه بعض أفكاره المؤيدة للثورة الفرنسية ولنابليون عرضاً معقداً، يسارع لها مسارعة المحب :
- بربه.. هل كان يفهم الرجل نفسه؟!
ولعل الرجل لم يفهم كنه ما تقوله حقاً ولكنه سر بالتغيير الذي أحدثه وجود عباراتها ذات الصورة البليغة في أحيان، المتقعرة في أحيان أخر، سروراً حمله على تصديق ما فيها من معانٍ.. إنه يعود يقول في نفسه :"وأنى لصابرين بمثل هذا وهي المنكبة، ليل نهار، على أشغال البيت ثم العمل؟! وأما أبوها فحري به أن يحمل ألواح الخشب حتى يموت.."، وقالت سوسن :
- أخشى أن تتسبب صداقتنا في ضرر ينزل بأسرتك ! ألا ينبغي أن تكون إلى جوار صابرين تشاركها احتفالات رأس العام؟
وقال وهو يتطلع إلى صورة المفرش المرسوم عليه شجرة عيد الميلاد (الكريسماس) :
- إن صابرين امرأة لا تحفل بالأمر حقاً، ولا بأي شيء ما خلا الأبناء والعمل !
وقالت وكان فضاء المقهى عامراً بأحجام من بلورات الثلج السداسية معلقة احتفاءً بالمناسبة السارة :
- لقد أسهبت في وصف هذا كثيراً، ويجب أن تغير من حقيقته ! هل هي جاهلة؟!
وقال :
- إنها متعلمة غير أنها ليست على حظ من الثقافة،.. لماذا يتوجب عليَّ أن أغير من الحقيقة إذا في وسعي أن أجد الاختيار الأفضل؟
وأحست أن الرجل يرميها بعبارته الأخيرة تورية، فنهضت تقول كأنما تتنصل من وزر :
- أراك غداً !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
وعاد الرجل إلى بيته - بعد أن قرع قدحه - ينوء ضميره بنصيحة سوسن وتنازعه نفسه أن يجرب العمل بها، وانتوى أن يفتح أبواباً منسية من الود أوصدتها عِشرة الأعوام الفائتة، وعزم على أن يستبدل بالحياة الرتيبة وما جرته من أحوال وأطوار حياة سرور،.. لولا أن صابرين استقبلته تقول :
- لن تصدق ما جرى ! لقد دفعت مريم عزاً فانطرح الصغير من سريره إلى الأرض،.. وسلمته العناية لأن يتفادى الضرر ! وكان خليقاً بنا أن نراعي ألا يستحوذ الجديد على مكانة القديم !
وأحس أنها تخصه بوزر العبارة الأخيرة، وقال في حياد بينما يستيقن من سلامة الطفل :
- إنها الغيرة التي تنشب بين الطفل الأول والثاني في مرات..
وقالت في ذهول :
- لم أتصور أن تكون الغيرة من طبائع الأطفال أبداً،.. كنت أخالهم - من حيث هم وثيقوا الصلة بالبراءة - ملائكة منزهين !
وقال :
- هذا لأنكِ امرأة سليمة الطوية !
وكان حديثه المنطوي على الإشادة العابرة جديداً بعد أيام الفتور، وقالت وهي تحفل به :
- حقاً؟ ألن تعاقب مريم إذن؟!
وقال وهو يتطلع إلى صخب الشوراع بمناسبة العام الجديد ثم يعود يتذكر نصيحة سوسن :
- لا.. حري بنا أن نحتفل بالعام الجديد !
وهنالك خرجت مريم من حجرتها وسط تشجيع من صابرين، إنها (مريم) تقف على حافة هذا السرير فتطفئ الشموع في حماسة المجرب للأمر الجديد، وتعلمها صابرين ضرورة الرفق في تعاملها مع طفل لم يبلغ - بعد - عامه الثالث، تبدي مريم آيات الاعتذار والندم، وتتحرك إلى عز لتقبل جبينه الصغير حيث موضع الكدمة التي تسببت فيها.. وحل الرجل رابطة عنقه بعد أن أمسك بالشوكة والسكين متهيئاً للطعام، وزفر هواءً محملاً برائحة الأنخاب، وتناهى إلى أنف صابرين أثره فاضطرب وجهها بعد ابتسام، وخبت صفحته كبدر ابتلعه سحاب عابر، ورجحت - من معرفتها بأيام تردد أخيها يوسف على عين المقهى - أنه النبيذ الأحمر،.. وطلبت من مريم أن تأتي لعز بالألعاب التي يريدها من صندوق حجرتها كيما تخلو لها ساحة المكاشفة والسؤال :
- هل أشار عليك الخواجة في مصبنته بصنف من صنوف الخمور؟!
وقال بينما يستولي الارتباك على حالته المستقرة فيضطرب في همامة نفس :
- آه ! لقد كانت تجربة ! كنت أروم مصالحته بعد أن أفسدت مخططه الجنوني في قتل الملك،.. لقد غدا بالأيام الأخيرة كثير الندم على الفرصة التي أفلتت من يده.. إنه امرؤ مخبول، وقد قبلت بنبيذه على مضض !
ولم تقنع المرأة بتفسير بعلها أقل قناعة، وأورثها تلجلجه ارتياباً كامناً، فعزمت على أن تتبع خطاه الليلية في السر، غير أنها ما لبثت أن تقول بينما يعود عز ومعه مريم بمضرب تنس :
- حاذر من أن يجرك إلى ثقافته الغربية !
وقال بعد أن يمسك بعز فيرفعه ويثني عليه :
- لم أشرب سوى بضع رشفات حقيقة بمن غلبه الإحراج ! وسوف أمسك عن التجربة.
وقبض الرجل على مضرب التنس الصغير فكان يرمي بالكرة الصفراء، ويتسابق الطفلان فيمن يجيء بها إليه أولاً، حتى غلبه النوم سريعاً نظراً لإنهاكه الليلي في سهرته،.. وتراءت له صورة سوسن في منامه حتى جعل يهذي بالاسم، على حين اشتد بصابرين هاتف الجزع حين سماعها للاسم الغريب، وجاء الغد سريعاً كأن الليل لم يحضر،.. فجعلت المرأة تتبع مسير زوجها الليلي في تخفي، وأفضى بها تتبعها إلى مقهى الفنانين فجعلت ترقب صورته من النافذة وهو يأخذ يقعد،.. ورمق ساعة يده - كالذي ينتظر آدمياً في موعد لم يجيء - فلم تكن صابرين بغافلة عن دلالة الأمر، وشملته الوحدة باستغراق في عرض المنصة،.. وجاءت سوسن فجلست من أمام الرجل الذي تلون وجهه بسعادة من يحوز منالاً بعد زمان ترقب، وقالت (سوسن) وكانت قد رأته - في أثناء قدومها إلى طاولته - يحدق إلى ساعته :
- آسفة،.. على التأخير !
وأثنت على مظهر ساعة يده فرفع يده ومعها الساعة يقول :
- كانت (يريد ساعة اليد) حكراً على النساء، هذا قبل أن يعي الجنود المشاركون بالحرب العالمية الأولى حقيقة أنها تناسبهم فوق ساعات الجيب !
وقالت توافقه في صوت عالٍ كالذي وجد سنداً في قضية فتحمس، أو كأنما عرجت بحديثه إلى نقطة التقاء :
- الرجال في هذا العالم نزاعون إلى خلق الفروق بلا سبب، إنهم يرومون عالماً ينعمون فيه بالأفضلية !
وقال في ابتسام كأنما يشير إلى نفسه تورية بينما يخفض يده إلى ما دون الطاولة :
- ليس كل الرجال.. إن البرق لا يضرب عين المكان مرتين، كما يقولون.. أنى لطبائع ما لا يحصى من الرجال أن تتفق؟
وقالت حين أحست أنها أصابت محدثها بطرف من عبارتها :
- إن هذا ديدن الفكر جميعاً : من النبذ والاستهجان مروراً بالقبول إلى الانتشار والرواج، ثم تظهر فكرة جديدة تنازع مكانة الأولى وتحل محلها..
وعدم حديثهما من موضوع، فقالت :
- وهل أثمرت نصيحتي؟
وكاد يقول :"أي نصيحة؟"، لولا أنه تذكر - في غمرة انتشائه باللقاء واسترساله في حديث محاورته - زوجه صابرين وما اشتملت عليه جلسة الأمس من حديث حول الترضية، وقال كأنما ينزه نفسه عن ذنب :
- لقد اختزلت صابرين- كدأبها - محاولاتي في التقرب إليها في إصلاح ذات بين الطفلين، (ثم وهو يأخذ يضحك..) وقد يقظت، صبيحة اليوم، وفي فمي كرة تنس !
وضحك اثناهما بصوت عالٍ لم تكن صابرين بغافلة عن حركته - وإن غاب عنها صوته وراء زجاج النافذة - فاضرمت في نفسها نيران الغيرة والحسد، وكادت تتدخل (صابرين) لتنهي لقاءهما لولا أنها آثرت أن تنظر لترى إلى أي نهاية سيفضي بهما مسارهما الضحوك، فكظمت غيظها تاركة لتداعي الحوادث الطبيعي مجاله، وقال هشام عزمي في استرسال كأنما أطلق شرب الخمر الأحمر لسانه :
- إن في حياتي الزوجية من النوادر ما يضحك الثكلى،.. يبدو ابني عز جملة اعتراضية في سلسة من الخسائر التي جرها عليَّ الزواج !
وقالت في عجب :
- غريب ! كنت أحسب الأب أميل إلى أبنائه البنات من الأولاد،.. أعني أن الخلاف في الجنس بين الوالد وبين ابنه من شأنه أن يحدث الألفة ويعمق الاكتمال ويسد النقائص.
وكان ثمة بالمقهى من يحتفل بعيد ميلاده فجعل كل من فيه يصفق، وعلت الأنغام عبر الأسطوانة المسجلة شادية بأغنية my foolish heart بإيقاعها البطيء :
The night is like a lovely tune...
Beware my foolish heart..
وسرت عدوى التصفيق حتى استقرت لدى المتواعدين، وتبادلا نظرات راضية في خضم جلبة من السعادة، وجيء لهما بقطعتين من الكعك، ومد الرجل يده إلى حيث مدت الأخرى يدها فابتسما،.. وكانت صابرين ترى وتعي،.. فتحركت في مشية - كالضابط الصارم - مدفوعة ببركان من غضب إلى حيث اجتماعهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق