الفصل الثالث والأربعون : اجتماع الجبل
داهمت شرطة الأمن موقع العمل بجبل نعسة، هذا الذي يجري فيه نقل البضائع المنهوبة مسترشدة بوصف فؤاد، كان الشاب يتقدم الضباط في حماسة من يقدم على الأمر الصحيح، فيحمل على الحق،.. وبلغوا جميعاً الجبل بعد مسير قصير فلم يعثروا هناك على حي أو جماد، لا أثر ولا عين، ذُهل فؤاد من رؤية الموقع الذي يعرف عنه عماره بثمار البطيخ وامتلائه بالبضائع - ذهل من رؤيته خالياً، وسمع الضابط يقول له موبخاً في عبارة موحية بالخيبة والندم :
- هذا جزاء من يتبع الصغار في عمله..
وجعل فؤاد يضرب الأرض بقدمه محدثاً غباراً في غضبة طفولية يقول :
- أقسم أنهم كانوا هناك، عبد الشحات وجاسر والمغلوبين على أمرهم من نقال البضائع، يقيمون هناك ما يشبه السوق، سوق سوداء، أقسم أنهم كانوا هناك..
وبخت هدى ابنها وزجرته زجراً شديداً، عنفه أبوه عبد الغني أيضاً، يقول له :" إن شرف الرجل في لسانه وشهادته.."، شعر فؤاد بالنبذ، عاد الشاب إلى الموقع نفسه (جبل نعسة) في مساء اليوم عينه فألفى البضائع والحمال، كان ثمة بعض فئران تختبئ بسبب هذه الحركة، وسمع جاسر يقول لعبد الشحات :
- كان لابد أن نغير الموعد، عيون الأمن نشطة، وفي كل مكان، وقد أحسنا اليوم صنعاً.. (ثم وهو يرقب هذا الفأر المتسلل..) جرذان حقيرة، لماذا لا تعلق الشيح على المداخل؟
وتحرك عبد الشحات إلى حيث يقف فؤاد متنصتاً، كتم الشاب انفعاله وأنفاسه اللاهثة المتسارعة، ولم يفطن الرجل الذي كان ضعيف البصر إلى وجود فؤاد، عاد الأخير يذيع هذا الخبر، الجديد، القديم، فلم يصدقه من بين أصدقائه وأترابه أحد، فكان أشبه إلى قصة الغريق،.. واحترق قلبه حين شرع يلعب البلي مع أصدقاء الشارع فجعلوا منه أضحوكة حديثهم، وندرة جلستهم، كان الصبية يتباهون بأحجام كرات البلي، وأصر فؤاد - يومذاك - أن يبتاع البلي "الدكر"، هذه التي يكون للواحدة منها أربع ريشات من لون واحد، أو أربع ريشات مختلفة الألوان، كأنما أراد ومن هذا السبيل أن يمحي أثر ما لحق به من الإهانة، لكنه لم يفقد شغفه - رغم السخريات التي لحقت به - بالعودة إلى الموقع فعاد يتسلل في الأمسيات يرقب اجتماع الكادحين مع المجرمين في صورة لم يخبُ عجبه بها على كثرة تردده إليها، كان يسمع عبد الشحات يقول :
- سنخفف نشاطتنا بسبب الحرب.
وهنالك أنكر جاسر عليه قولته في غضب :
- لسنا ننتمي إلى هذا البلد.
- بل نحن وطنيون رغماً عن أنف العدالة.
كان جاسر يجالس صديقه عبد الشحات في حين تجرى بعض عمليات التجارة والنقل أمام مشهد من الاثنين، وقال جاسر في حين تتحرك حلقات انسياله الفضي :
- بدأ المكان (يريد جبل نعسة) من أعرابية كانت تسرح بأغنامها في الجبل فبنت فيه كوخاً، وصار ملاذاً للهاربين، أسبغ علينا المكان وحشته.
وقال عبد الشحات :
- تحكي هذه القصة كثيراً..
وأجابه صاحبه :
- أحسب أنها البذرة التي منها ابتدأ كل شيء، من تيه امرأة وضلالها في الجبل إلى تيه من جاء بعدها، وكأنما ضربت على القادمين لعنة توارثوها عبر الزمن.
وأشعل جاسر سيجاراً فغاب وعيه ممنوناً كأنما انتقل على أكف الرضا، يقول كأنما أمسى أكثر استيعاباً لما كان يزعجه وينغص عليه :
- تريد أن تخفف النشاط كي نساعد أهل البلاد التي شقينا فيها؟!
وشخص عبد الشحات النظر ملياً إلى صورة الحمال، قال في عزاء :
- لسنا وحدنا الأشقياء، بعض أولاء الحمال من أصحاب الشهادات أيضاً،.. ستقع الحرب اليوم أو غداً، ألا نكون أرحم بالناس إذا ما تركناهم لما هم فيه، أنقف وأعداؤنا في خندق واحد؟!
ونظر جاسر إلى عبد الشحات نظرة الشزر يقول مستهيناً بما سمعه :
- ستسير الأمور على ما كانت عليه.
وارتفع أفق الخلاف بين الرجلين كالأدخنة تعبر مستوى السحائب ساعة الحريق، وكادت الأمور تمضي على نحو يفضي إلى التشابك بالأيدي، فخلع عبد الشحات معطفه الفرو ورمى بقبعته الصوف، لولا أن اهتدى عبد الشحات - في خضم البيئة العامرة برائحة أوراق الشيح العطرية - إلى حل أوفق مفاده أن يستأنسا بآراء الحمال أنفسهم في هذا الشأن، وقال الأول منهم :
- بلادنا لا تستحق هذه الخدمة..
وسمع حديث الأول واحد من المتعلمين فقال منفعلاً حتى لقد بدا صاحب هذا البيت المجهول قائله من الشعر :
- "بلدي وإن جارت عليَّ عزيزة.. وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرام !".
وسرعان ما سرت عدوى وطنية في ربوع هذا السوق الوهمي الذي أقيم على هامش القانون، فخلص الجميع إلى وجوب التخفف من العمل في حال وقوع حرب، وأمسك الموافقون بأيدي نظرائهم فكانوا كثرة بين قلة من المعارضين، كان فؤاد لا يزال يقف يستمع ويرى، ولشد ما جلله رؤية المشهد على تناقضه المريب، ونبله، وحتى هزليته، وأدمعت عيناه، وهناك أحس يداً تربت على كتفه فانتفض فزعاً ووجلاً، سأله عجوز - لاح بغتة من قلب ظلمة هذا البيت - سأله أن يجرب مخدراً، ووصف له حارة خبيني نطاقاً آمناً للتجربة، واستنكف عن التماهي معه مجللاً برهبة ثم أخذ يركض بعيداً وقد أطلق رجليه للريح، وحتى لقد فقد نعله الأيسر في خضم خوفه المبالغ، ومضى غير منتعل كأنما يتهرب من مطارد لا يُرى، أو كأنه أرنب وثاب أدركه خيال كلب صيد، وإنه لعلى حال من الرهاب حتى بلغ موقعاً لم يخشِ فيه دَرَكًا.
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
عاد فؤاد إلى بيته إذاً بنعل وحيد، وإلى أصدقائه بقصة شائقة، فجعل يروي لهم وقائع ما شاهده وذكر في حديثه إليهم وصفاً اطلع عليه دون غيره :"أمسك الوطنيون بأيديهم فكانوا كثرة، ودون أن يكون عليهم رقيب واحد، توقفت حركة التجارة والنقل البسيطة هناك، أبصرت جاسراً يحرك رأسه الخفيض يمنة ويسرة في حسرة.."، وكان الصبية يعبثون بسرديته ويسفهون منها فيقولون :
- لابد أنك واقع تحت تأثير مخدر تعاطيته هناك.. تبدو رعديداً على نحو لا يستقيم معه أن تلج أعتاب منطقة كهذه.
وقال ثانٍ، فيما كان ثمة عابر من الرجال في لباس القفطان :
- فلتدلنا على شيء من أثر ما شاهدته هناك.
وقال فؤاد قولاً جذب الرجل ذا القفطان :
- رأيت كابلات الضغط العالي معلقة على ماسورات الصرف، وعلى مناشر الغسيل !
- أنى لنا أن نستوثق من صحة حديثك إذا كنا جميعاً نجهل بطبيعة المكان؟
ورمى فؤاد بهاته البِلْية الكبيرة فأصابت هدفها يقول :
- أغبياء ! كان خليقاً بكم أن تفكروا في هذا قبل أن تعرضوا التحدي !
كان الرجل ذي القفطان على علم بطبيعة المكان (جبل نعسة)، وأبلغ بدوره عبد الغني بما سمعه وتوجس منه، وبّخ الأب نجله وضرب عليه أسواراً شاهقة من عزلة طويلة.
في اليمن..
استأنف أباظة قتاله في اليمن غير أن صورة صديقه منصور لم تزايل خياله، إذ هي تركت آثارها التي لا تنمحي في نفسه، كان الجنود يسألونه:
- إلام تظل على هذا الحال؟ سينكشف أمرك، اليوم أو غداً، سيقتلك أنصار الملكية إذا لم ينبذك التقدميون، تتصرف كالغزال في غابة من الذئاب..
وقال آخر مندفعاً فكأن الهواء يخرج من فيه بلا ضابط، واسمه محمود :
- خياله يذهب إلى الفندق السكندري "سيسيل".
وقال أباظة منفعلاً :
- وكأنكما تنزعان عني صفة الوطنية في رمية، نحارب المعركة الخاطئة، إن هذا غاية ما في الأمر.
وقال حسن، وكان جندياً من مرسى مطروح :
- كان يجب أن تكون داعية سلام.
- أتمنى هذا حقاً.
وتشابكت الأخبار وتلابست عن اقتراب حرب جديدة في سيناء، وساد مناخ من التفاؤل العام بتحقيق نصر، كان أباظة لم يكف عن عادته في الانفراد والعزلة، هذه المرة أصابته جلسته وسط الجنود بحساسية شديددة دعته إلى نبذ هذا الحديث الدائر، وترك اجتماعهم غير آسف، ووقف يناجي السماء مناجاة صامتة :" أيتها العناية ! أيتها السماء ! إني أبتهل إليك متضرعاً، وأصارحك رغم ارتيابي، ذلك أن أحداً على وجه هاته البسيطة لا يعرف وجه الحقيقة، الجميع جهلاء ولو ادعوا خلاف هذا، وأقصى ما يبلغه الإنسان من مراتب اليقين هو الترجيح، الترجيح بوجود من يكترث لنا، إن مبلغ خوفنا - نحن البشر - أن تكون المادة في سعيها المحايد وعبر صدفة قد أنشأت وجوداً حياً، حياة نتجت من جوف العدم الشواشي،.. ولكن الطاقة العمياء لا تنتج إلا الكيان الجامد المصمت، كيف يستقيم المنطق في عقولنا إذاً؟ هل يُعقل أننا في خدعة؟"، وبدا كأنما يتهرب من واقعه المضني بالتماس الجواب على أعقد الأسئلة الفلسفية والوجودية، كانت السماء ملبدة وحجبت بدورها نقاء الأفق، وزاد كدره بسبب هذا، فكأنما حيل بين حديثه ومحدثه، عاد الضابط إلى زملائه فسمع من يقول:
- إن سيناء مصرية ولن تكون أبداً جزءاً من تسوية لأي قضية !
والتفت محمود إلى أباظة يسأله في شأن القضية مثار النقاش، كانت نظرة محمود إليه تنطوي على شيء من تسفيه مبطن، لا تخطئه العين، وجلس أباظة يقول في رزانة وغير اكتراث :
- إن حضارة بوتو المعادي، التي كانت بالألفية الرابعة قبل الميلاد، تنتمي إلى الحضارة المصرية فوق انتمائها إلى حضارة شرق المتوسط، ولها آثارها الباقية في سيناء..
وجلس وقد أراح رأسه على حائط يقول :
- كان المصريون يستخرجون النحاس من سيناء في عصر بناة الأهرام أيضاً.
واستبشر الجنود بحديثه وعدوا قولته فألاً حسناً وسنداً تاريخياً استعانوا به على ما يتوقع أن يقع من حرب ضروس، وكان حسن يقول له :
- تتلقى الإلهامات حين تنفرد بنفسك..
وقال أباظة له :
- ليس تماماً، أشعر بالجنون حين أنفرد بنفسي، وأحس عذاباً حين أكون معكم، ما أعدت أخلص من الألم سوى في أوقات النوم.
وتدخل محمود يقول :
- الموت أيضاً يخلص الإنسان من آلامه من حيث هو رقاد دائم.
وقال أباظة :
- أجل، ولكن لا يجب أن نموت هنا.
- تملك الثقافة وسلامة الرأي ولكنك لا تتسم بالجسارة.
- تتولد الجسارة من القناعة الحقيقية ومن أسمى المعاني نبلاً في الذات.
وكان للعبارة الأخيرة وقع الأجراس تقرع في الآذان، طفق الجنود بعدها ينشدون في ليلة باردة من أيام يونيو جزءاً من النشيد الوطني "والله زمان يا سلاحي"، وسادت أجواء من المرح غريبة، وجعل الهاتفون يلحون على أباظة أن يشترك معهم فيما هم فيه، إنه يقول عبارة من النشيد يحفظها، ثم يأخذ يكررها :
- "هموا وضموا الصفوف، شيلوا الحياة على الكفوف..".
واجتذب هذا الصخب انتباه قائد السرية الذي تقدم بدوره نحو مصدر الصوت، فما أن لاح ظله على أرض اجتماع الجنود حتى ساد الهدوء التام بينهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق