روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

2024/09/22

أوديب ومعضلة المصير

        الفصل الرابع والثلاثون : أوديب ومعضلة المصير




أهدت عفاف لويس لوحة الفنار والبرج دون مقابل إمعاناً في استرضاء الرجل، وخطب وده، كان الأخير في سرور من حاز الجوهرة الثمينة، كان العازف الأسمر شديد الاعتزاز باللوحة، وحتى لقد كان دائم التنويه بها في ظهوره المتلفز، يختم حديثه المملوء بالثناء عليها بقوله :

- "وقد تعجبون أكثر حين تعرفون أن راسم اللوحة ليس إلا طفلاً..".

ويقول :

- "بحثت عن الفنار ملياً، إنه فنار مدينة الإسكندرية، أعجوبة العالم القديم، أقامه المعمار اليوناني سوستراتوس على جزيرة فاروس، وأما البرج..".

وهنا تقاطعه المحاورة :

- "نعرف البرج جيداً.".

يضحك الجمهور، يقول الرجل :

- "أجل، نسيت أنني في فرنسا، حقيق بكِ أن تزوري مصر، والإسكندرية، سيتعلق قلبك هناك، وإلى الأبد..".

وكانت عفاف تتابع الحوار المتلفز في شغف وقلق، وقالت :

-  لقد ذكر كل شيء دون أن يتحدث عن كرم الضيافة، وعني.. بربك.. لويس.. من ذا منحك اللوحة سواي؟!

وقال يوسف :

-  لن يسمعك، كنت على ثقة من أنها فكرة فاشلة، ومنذ البداية.

وقالت منفعلة وهي تستدير عن هذا التلفاز، لأول مرة :

- وكأنك تريد لي الانطفاء !

واسترسل في حديث اختلطت فيه العربية مع الحوار الفرنسي الدائر :

- حياة راضية في الظل خير من حياة صاخبة تحت ألف ضوء، ماذا ينفع المرء إذا نال الإثارة وفقد الحياة؟ فلتقعدي عن التعلق بهذا الأمل، لن يذكرك لويس أبداً، هذا دأب المشاهير لا يرون إلا نظراءهم في هذا العالم، إذ هم من الأبراج العاجية العالية يبصرون الأشياء العادية صغيرة تافهة..

وهنا أشارت بيدها له أن اكتفي، كان لويس قد جعل يقول :

- "صحبتني السيدة عفاف في الإسكندرية إلى المسرح الروماني، حتى إذا اقتربتُ من مدرجه المتخذ شكل الحدوة، حدوة الحصان، ذي الصفوف ثلاثة عشر من المدرجات الرخامية، خلت نفسي بؤرة اهتمام هذا الحضور الوهمي، كنت أراني أعزف الجاز في عصر آخر..". 

- "ياله من خيال خصب..".

-" لم يكن خيالاً فوق ما كان ردة فعل نفسانية غائرة الأسباب، لم يكن يعرفني الناس بالإسكندرية، بدا هذا غريباً، غريباً جداً، لعلي، ولأجل هذا، هربت بالخيال إلى عصر يقدر الناس فيه فناً أقدمه، كانت عفاف أيضاً تقول لي كالمواسية : العوالم يحبون عزفك،.. من العبث كيف يرمي السفهاء امرأة على هذه الدرجة من الرقة بما نسمعه اليوم، لقد انفض عنها أولاء الذين كانوا يخطبون ودها يوماً في رياء، ولاعجب، يصدق في هذا المثل الإنجليزي :«الفئران أول من يقفز من السفن الغارقة»، يدلنا هذا أيضاً على المصير السيء الذي ينتظر المداهنين فأسماك البحر لا تترك الفئران..".

-"تدافع عنها دائماً، هل ستتزوجا، أو أن ثمة أمر ما؟!".

-"كلا، إنها متزوجة فعلاً، شاب قصير ولطيف اسمه يوسف..".

كانت عفاف قد طفقت تبتسم من حديث لويس فيما كان يوسف في غضب تولد في أعماق جوارحه من الوصف "قصير"، وقالت تتلألأ عيناها بنشوة :

- سيكون هذا الحديث ذا نفع عميم هنا في باريس..

ورأى مبلغ الانقلاب الذي طرأ عليها فخرج عن هدوئه يقول :

- يستوجب على صاحبك أن يهذب لسانه حين يتحدث عمن لا تجمعه بهم صداقة..

وقالت هازئة :

- حسناً، أيها العملاق..

-  لست قصيراً ولا عملاقاً.

قصد يوسف إلى جاره "حمود" في هذا اليوم، ملتمساً صديقاً يبثه ما بنفسه، فشرب من النبيذ الأصناف  الفرنسية، واسترعى هذا اهتمام الرجل الجزائري الذي جعل يقول :

- كنت أحسبك تؤثر النبيذ الإسكتلندي على الفرنسي..

- لم يعد ثمة في نفسي من طاقة للاختيار، يصطفي الإنسان الأجود لنفسه إذا هو على درجة من حب الذات،.. فكيف بالحزانى؟!

وصب له حمود كوباً إسكتلندياً :

- للحزانى أصدقاء يصطفون لهم الأفضل !

وقرع يوسف الكوب الإسكتلندي بعد الفرنسي يقول :

- هذا عطف منك سابغ، ليت أن للدنيا وجهاً مماثلاً، اليوم صار لويس بطلاً في نظر عفاف، أهدى إليها طوق النجاة المفقود..

- أحسب أن هذا مما يسعدك، إنها زوجك على أي حال.

والتفت إليه بعد أن ترك الكأس، ضاقت عيناه، قال في جدية :

- لم أعد أشعر بهذا حقاً.. سأعود إلى الإسكندرية !

وقعد حمود قبالته يقول :

- إني أنكر عليك استسلامك لهذه الروح الحزينة التي تقبض على جوارحك، كان «برومثيوس» في الأسطورة الإغريقية :«مفكر الأمام»، على عكس أخيه «إبيمثيوس» «مفكر الخلف»، أراك تجتر ذكرى الماضي كإبيمثيوس !

وقال يوسف :

- وكيف لا أجتر الماضي إذا هو مني وأنا منه؟ قد يقولون بأن الانتصار يجب أن يكون للمستقبل دائماً، وهم في هذا الزعم مستهينون بالحاضر وبالماضي، كيف تبني واقعاً مثالياً دون أن تنظر لإشكالات ما مضى ثم ما هو كائن ؟! إنك إذا تخليت عن الجذور التي أتيت منها ما عدت تعرف من أنت، إنك إذا كنت ابناً لأبوين فاسدين ثم حدا بك سوء مسلكهما إلى أن تقف منهما موقف التجاهل أو العداء، فلن يغير هذا من حقيقة أنهما أبواك، يقولون بأن الأمور ستفضي ومن طريق ما لا يعرفه أحد إلى حال يصير معه الإنسان سيداً على جدول التاريخ الجارف فيوجهه إلى آفاق الخير والجمال، وحينئذٍ يرتعش نور العقل البهي فوق الذرى المشرقة،.. ويخيل إليَّ أن هؤلاء يجهلون حقيقة أن بعض المشكلات تمضي في حلقات مفرغة، وبلا نهاية،.. ثمة حواجز قد وُجدت لأسباب، إن هذه الحواجز يجب أن تُفحص وُتدرس، بدلاً من أن تحطم كل شيء بمطرقة الانفعال كي تعيد اكتشاف ما كان قائماً من قبل،.. إني أتمنى أن يجيء هذا اليوم، على أي حال، ولا أخال أنني سأحضره، فلتسمني مفكر الخلف أو إبيمثيوس، أو أياً ما تريد !

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات 

كان حمود قد جعل يثمل هو الآخر بالشراب، وقال :

- أراك تدعي الحكمة من طريق الحزن..

- ما من حكيم لا يعتريه الحزن..

- أعذرني، لستَ حكيماً أبداً، أعرف عنك روحك المرحة التي تتناقض بطول الطريق مع رزانة الحكماء.. بدأت الأمور من نقش على حجر، وفي الكهوف كان إنسان نياندرتال البدائي، وانتهت إلى انشطار الذرة وبلوغ القمر،.. حتى نرجسية الإنسان أمكن استيعابها بالقانون، وبالنظام، وبتراكم الخبرة وتقدير ذوي المعرفة تجاوزنا عوائق البربرية والوهن والتيه.. فلتنظر إلى ما وراء النافذة : شمس مضيئة ذات ضوء وضاح، وحياة تتطهر يوماً بعد يوم من الشرور ! 

وتدخل يوسف يقول :

- حتى هذه الشرور التي يمقتونها لا وجود لها حقاً، إن الطبيعة تمضي ولا تبالي، الإنسان لا ينفك عن أن يرى الأمور من وجهته فيسمي هذا خيراً إذا هو في صالحه، وذاك شراً إذا هو غير ذلك،.. الإنسان اليوم أشبه إلى أبطال المآسي اليونانية، أشبه بأوديب أو هرقل أو ديدال، يعرف مصيره ويراه ويعرف في الوقت نفسه أن لا محيص عنه،.. لمَ لا تنظر إلى الواقع فتتلمس بقدمكِ عتبته الواطئة؟

وقال حمود :

- الواقع يقول بأن مصر استقلت، والجزائر تحررت، وغداً نسترد القدس !

- نغالي (يريد العرب) في هذه الإنشائيات كيما نخفي عجزنا عن إدارة الأمور.

- لماذا تزدري العرب؟

- أحب العرب ولا أزدريهم..

- ما أشبهك بمارسيل هذا المساء !

- نحتاج إلى مارسيل عربي في كل مجموعة، ينتقد صادقاً ولا ينتظر الجزاء.

- هل تعرف أنني بدأت أكرهك؟!

- لن تغير الكراهية من الحقيقة إنشاً واحداً.

- أطلق الشراب لسانك على نحو أزعجني حقاً.

- لقد كنت صادقاً حتى أنني أفرغت ما بصدري فاسترحت.

وساد الصمت في أعقاب نقاشهما المحتدم كهدوء السبل بعد مباريات الكرة المشحونة بالهتاف، قال حمود كأنما يسرب شعوره بالكراهية من طريق عرض اقتراح برق في خاطره :

- ستعمل معي في إدارة حانوت الطعام المملوك لي، نبيع الأكلات الشعبية الجزائرية : الزفيطي، الشخشوخة، الدوبارة، في قلب باريس، سيحملك هذا على أن تغير من نظرتك للأمور حين ترى كيف يستدفئ سكان باريس بغذاء جزائري كالمحاجب في الشتاء،..

وقبل يوسف عرض صاحبه، أضاف الفول والفلافل والبيصارة إلى الأكلات الشعبية الجزائرية التي كانت تباع في حانوت حمود، وتُقدَّم إلى سكان باريس هناك، وحققت نجاحاً مماثلاً لما حققته الأولى، كان (يوسف) يقف مزهواً برواج التجارة، يتفقد سير العمل، واضعاً يديه في وسطه، ينادي على من يجهز المحاجب :

- "لا تنسَ الزعتر، وورق الغار (ثم يأخذ يطوف بين هاته الطاولات..) سيخلصكم الأخير (ورق الغار) من الحسد والكوابيس !".

وكان الجلوس من الأجانب ينظرون له في ارتياب وعجب، أما العرب فيأنسون لحسه المشاغب وينتظرون مقدمه في ترقب، وإنه كذلك حتى استوقفه من ينادي عليه، وأشار المنادي إلى ما يدور في هذا التلفاز المعلق، كانت عفاف تقول :

- "إنني مدينة بالفضل إلى لويس ما حييت..".

واستدار يوسف عنها كاتماً غيظاً وحنقاً،.. لماذا لا تكف المرأة عن التزلف للرجل؟! عاد يوسف إلى بيته في مساء يوم حافل بالشواغل، استقبله نجله زهير يقول، وكان الصغير لا يتحدث إلا الفرنسية :

- "أين ذهبت لوحتي؟".

- "قدمتها أمكَ هدية لرجل أمريكي اسمه لويس..".

- "كيف لا يجري التشاور معي في أمر لي؟! إنني أكره لويس..".

- "أنا أيضاً أبغضه.".

وهناك فتح الباب وجعلت عفاف تلج منه في بطء، لا تريد أن توقظ أحداً، بادئ الأمر، ثم في غير اكتراث حين تعي حقيقة الأنوار، قال يوسف لزهير يريد أن يسمعها حديثه :

- عذراً، من المؤسف وقوع مثل هذا،.. ولكن ستقدم والدتك أيما أمر في سبيل الشهرة، ولو كانت الكرامة وعزة النفس !

وتقدمت نحو زهير تقول له في لغة عربية لا يفهمها، كأنما بات الولد وكيلاً صامتاً عن نقاشهما :

- لا تسمع أباك.. البيصارة ذهبت بعقله، وحين يسمن الجسد يخمل العقل.

- البيصارة خير من التزلف.

- إنني لا أتزلف ولا أداهن،.. ثمة فارق بين المداهنة المذمومة والمواراة المحمودة.

- هذا مجال يفصل فيه المتخصصون بمعاجم اللغة من علماء اللِّسَانِيَّات، إنني غير مهتم حتى بذاك الفصل إذ أن اللغة تحدد بالسياقات الاجتماعية لا بالمعاجم، والحقيقة أنني رأيتُكِ تتمسحين بعباءة النجومية الجوفاء، على مرأى ومسمع الجميع،.. لماذا لا تتزوجين بالرجل الأسمر؟ متى تطلبين الطلاق من زوجك البائس؟!

وراحت تحمل زهيراً عابرة به هذا الباب الداخلي، كأنما تبعده من نطاق خطر، ثم أغلقت الباب في شدة، تقول :

- طفح الكيل.. 

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق