استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/09/28

على جندول البندقية

                     الفصل الأول : على جندول البندقية 






1968م..

استيقظ الحي على أنباء ما بعد الهزيمة مؤرق الجفنين كأن لم ينم من طول السُهاد، ثمة تغير لا تنكره العين، طريق مضى فيه بغير عودة، هذه أيقونات العذراء والمصاحف في كل مكان، يُستعان بها ويُتبرك، ومن اليأس الضارب إلى الأمل المتوقد معجزة يُنتظر أن تجيء، وطرائف تتلى سراً وجهاراً، حقائق لا تنفك تنكشف، وأخرى تطمس في إصرار، ونفوس ظمآنة فإذا أرادت النهل نهلت من بئر الحيرة والارتياب،.. وفي خلال ما سبق وتحت ظلال ما قد أنف صحب عز نور إلى سينما الهلال كيما يشاهدان فيلم "شنبو في المصيدة"، كانت صابرين - ولأول مرة - على علم بالأمر، ثمة حوار دائر لدى شباك التذاكر يقول الأول للثاني :

- بربك.. ألا ترى المكيدة المنصوبة في هذه الأفلام والمسرحيات؟ أمين هنيدي وحده يقدم المسرحيات الهزلية، واحدة تلي الأخرى، وقد أَرْبَى على الثلاثة منها في عام،.. هل تذكروا الكوميديا الاستهلاكية بغتة؟

وقال الثاني :

- الحقيقة أكبر من أن تُستوعب، إن القوم، أعني الدهماء والسوقة منهم، إذا لم يجدوا متعتهم انقلبوا يخربون ما تطاله أيديهم.

- لا توجد حقيقة فوق الاستيعاب.

- تتحدث حديث المثاليات نفسها التي قضت علينا، (ورفع عنقه حتى صار متموضعاً إزاء وجه السماء يقول..) صرنا كأننا المغضوب علينا.

 كان عز يبدي لوناً من الاضطراب الخفيف في مشيته، من أثر واقعة سقوطه بالمعمورة - التي لم تبرأ ساقه منها بعد - في حين كان يسمع للحديث الدائر بنصف أذن، لقد عزم على مشاهدة الفيلم الذي ظنه وصفة شفاء لما نزل به - وبالبلاد - من هم ناصب، ثمة نور أيضاً، هذه التي أراد الترويح عنها، وقال للأخير بعد أن استلم تذكرته :

- ظهرت العذراء أمام كنيسة في حي الزيتون بالقاهرة،.. كيف تظن أن السماء غاضبة منا؟

- لو كانت السماء تعنى بأمرنا على نحو ما تصف فعلاً لانقذتنا في الحرب.. تبدأ الأوهام من كرة ثلج صغيرة يدفعها من لا يتحقق حتى يمسي إيقافها مستحيلاً، (والتفت عن عز إلى صاحبه يقول) العوام وقود مثل هذه الأباطيل والسبب في شرعيتها.

وقال عز في انفعال :

- هل تعتقد أنني عامي؟

- أعذرني، تتحدث حديثهم.

وفي دار العرض جلست نور وعز في موقع الوسط، بنفس الفتاة بساطة تشارف على السذاجة، ولكن في خاطرها هاجس مؤرق، قالت نور حين انتهى العرض :

- ما أسخفه من فيلم ! كان حرياً بنا أن نقصد إلى مسرح الشاطبي كي نشاهد ما يقدمه جورج سيدهم وفرقته، هناك !

والتفت عز بعد أن تفادى عربة لمح على ظهرها عبارة :"الرب راعي فلا يعوزني شيء.."، يقول :

- وكأنه كان سيقدم جديداً عما رأيناه في دور العرض.

كان ثمة جلبة حادثة وراء الاثنين، هناك من يتقلب في زي المهرج ويتحلقه الناس، يراقص امرأة عجوز ترفل في معطف من جلد تمساح،  امرأة ذات شعر أشيب،  وقال عز :

- لقد امتلأت البلاد بالمهرجين !

وتقدم المهرج ناحية الشابين فدار حول عز دورة كاملة، كان الشاب يبادله نظرة يتساوى فيها الازدراء بالارتياب، وضع المهرج هذه الزهرة في شعر الفتاة المرسل - في حين ينظر للشاب كالمستأذن - وشد يدها إلى وسط الجمهور من رواد شباك السينما يقول لها :

- فلتروِ لنا قصتك !

وقالت مرتبكة بسبب العيون التي أحاطت بها، بغتة :

- لا أملك قصة كي أحكيها !

وقال في انفعال استدعى ضحك الأطفال، واهتزت له أنفه الكروية :

- كيف وحياتنا ليست إلا قصة؟

وجلست نور على هذا الطوار تقول، وكان المهرج يعيد عباراتها في أداء انفعالي:

- وجدت الحب وفقدت الأهل، في الإسكندرية..

وتابعت في حين تسقط الزهرة من شعرها :

- بعد الحرب اشتدت الحاجة بالأهل، البلاد كلها مرهقة، أرسلوا في عودتي إليهم، فهل أعود؟

كان عز يقترب منها، وبدا أنه يستمع لأمر جديد، مشدوه الخاطر على نحو تناست معه قدمه اضطرابها، ولكن القوم أيقظوه بقولهم :"لا تعودي.. لا تعودي.."، عادا إلى بيت قديم بحارة الجنينية حيث تقيم الفتاة، كانت تسأله :

- هل شعرت بالغيرة حين أمسك المهرج بيدي؟

وكاد يقول وهو يطأ بقدمه مدخل البيت بعد أن أزاح باباً حديدياً فأحدث صريراً انتقل من طبقة رفيعة إلى أخرى غليظة : "لن أغار من مهرج.. ولكنني فوجئت بحديثكِ كل المفاجأة.."، لولا أن رأى جماعة من أصحاب الشوارب الكثة، يرفلون في جلاليب طويلة، ويعتمرون عمماً كبيرة، ملفوفة لفات ثلاثة أو أربعة، بعضهم يتركها لتغطي رقبته، وبعضهم يجعل لها ما يشبه الذيل (عدبه)، وجدهم يقولون للفتاة وهم يرمقون الاثنين بنظرات نافرة يشيع فيها الازدراء :

- أهذا ما تركتنا من أجله؟

وصفع أكبرهم وجهها فبدا على عز تحفز كاد معه يشتبك معهم - رغم الفوارق الهائلة في القوة بينه وبينهم - لولا أن الفتاة جعلت تنطق تقول : "لا تفعل، لا تفعل، إنهم أهلي..".

 

البندقية.. إيطاليا..

عُقد قران الزواج بين مريم ونعيم في عرس خافت بلا مزمار، نظراً للأحوال العامة التي قبضت على تلابيب النفوس واستعدادها لتقبل السرور، سافرت مريم إلى البندقية تقضي هناك شهراً سعيداً، وقالت فيما كانت تركب القارب (الغندول) في المدينة المائية :

- أشعر بالشفقة على صابرين، لقد خلا البيت بعد وفاة أبي ثم رحيلي عنها.

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وكان عز يرقب هذه القوارب السوداء حوله في غبطة، على حين كان الغناديلي (المراكبي) يدفع القارب في الماء بواسطة مجداف طويل رقيق الحافتين :

- شفقة مماثلة أكنها لأبي الذي أمسى كثير القلق، خوفاً على مصير بلاده (مصر)، رغم عودته إلى إيطاليا في أعقاب الحرب، قال إنه عاد لأجل العمل والحق أنه عاد يتلهى بالعمل.. لماذا يقلق على البلاد التي تركها؟!

وقالت مريم وهي تتقي بعض الماء الناتج عن حركة المجداف، يبلل ثيابها:

- ألم تسمع عن الوطنية؟!

- لست أحفل كثيراً بهذا المفهوم، الوطنية بلا عقل مضرة.. ستكون امتداداً للقبيلة والعصبية.

- البلاد مهيضة الجناح، بعد هزيمة يونيو، مقرحة الجفنين..

- إنه في إيطاليا اليوم، مثلنا تماماً، وإيطاليا ليست حزينة أبداً.

- من الممكن تنزع شخصاً من بيئته الثقافية، ولكن من العصي أن تنزع بيئته الثقافية منه، إنه مصري ولو عاش وعمل في أوروبا.

وقال :

- حقاً؟! ألا تبدو لكِ البندقية أجمل من الإسكندرية على نحو ينسيك الثانية مثلاً؟ لا يجب أن يعيش المرء رهينة للظروف الاجتماعية أو الثقافية التي نشأ فيها.. هل ثمة عقد غير مكتوب أو مكتوب واجب الرد بين الإنسان ومحل موطنه؟ ينشأ الإنسان والأرض كلها له، ثم يعي الحقيقة فتحده من الحدود الجغرافية ما يكبل حريته، يمسي متعصباً لهذا القطر أو ذاك، أو محدوداً كطير قد منع من الطيران في كل الغابة، فلتشرحي لي، فضلاً..

وقالت وهي تهب الأفق البعيد نظرة، وكانت نقطة الأفق تبتلع المباني على الجانبين والسبيل المائي كأنها ثقب أسود :

- لن أشرح شيئاً، إن هذا شعور ينشأ من تلقاء نفسه وإلا فقل السلام.

ومضى القارب في مسار من الماء عجيب وسط البيوت الملونة التي يهبط منها غسيل المنازل، واستدار بعض استدارة، فقال نعيم :

- ليس هذا وقت مثل هذا الجدل..

 

وكادت تتوقع أن يستمر حديثه، فلما صمت سألته :" وقت ماذا إذن؟"، وقال كأنما برقت في ذهنه فكرة، في حماسة  كالحمق :

- عبد الوهاب.. الجندول..

وقالت كأنها تستغيث :

- لا يمكن أن تقلد عبد الوهاب، لا تملك صلاحية الغناء فضلاً عن محاكاة مثله من أصحاب الأصوات الرخيمة !

ومضى الجندول في حين كان الصوت، صوت نعيم، يصدح :

- "موكب الغيد وعيد الكرنفالِ... وصدى البلبل في عرض القنالِ !".

كانت الأمطار قد بدأت تهبط وخشى الغناديلي من غرق وسيلته فمضى عجولاً بحركة مجدافيه المتسارعين.

 

الإسكندرية..

خلا بيت صابرين من شغبه بعد أن تركه جل قاطنيه، كانت تهمس وهي تفتح ستائر البيت المذهبة فتبصر صورة المدينة التي وثب إليها عمران جديد : " الموت يغيب الناس، والأفراح أيضاً، الحنين في القلب ذكرى متوقدة، والشباب رونق عابر.."، يأتيها عز بعد غياب، فتقول له:

- أنت الباقي من بين الأحباب الغابرين، غيب الموت اثنين (الأب والزوج)، وانتزع الزواج واحدة (مريم) !

وكان يمازحها يقول :

- حسبك من الأحباب واحداً.

وتتساءل وهي مستخدمة الحناء تداري بها حقيقتها الشمطاء :

- كيف هذا؟

- المهم كثرة الأحباب أم موقعهم من القلب؟!

- الاثنين.

- منال متعذر، في بعد الكواكب والنجوم.

وارتدت الأم طرحة بيضاء تزحزحت بفعل الهواء وبرز مفرق الشعر، وكانت قد أكسبتها الحناء لوناً أحمر تجلى في مناخ الصبيحة الذهبي في تدرج حسن، قالت :

- من أين تجيء بهاته الشاعرية؟

واقترب منها فكان إلى موقعها المتوسد لنمرقة على الأرض أقرب، وقال :
- لن تصدقي ما رأيت، هذا المساء وكنا عائدين من سينما الهلال إلى بيت الفتاة بحارة الجناينية، هذه التي كانت زارتني بالمشفى ورأيتها، كنا، أنا وهي عائدين نشتكي خفة ما شاهدناه هناك، إذ أبصرت أهلها من الصعايدة، لدى مدخل بيتها المحتمي بالباب الحديدي، كانوا كثرة، يصطفون وشواربهم تكاد تجسد - لطولها - كياناً مستقلاً عن أجسادهم القوية الفتية، أخذت بقوتهم وانتابني منهم الروع، صفعها منهم واحد، حاولت نجدتها لكنها صارحتني بحقيقتهم الغائبة، قالت : إنهم أهلي، وكأن في هذا عذراً يبرر صفعها، اقتربت منها فصرنا فريقاً، في وجه آخر، لان قلب أوسطهم، كان شيخاً، ولا أعرف إذا كان للشيوخ قلوب، قال : اسمعوا حديث الشاب علنا نستوضح موقفه : قلت متشجعاً : أردنا لكم حلاً تأمنون بعده، وخلاصاً من لعنة الماضي، سأكون ضابطاً وسأخلصكم من عذاب النبذ، أعرف قصة أبو جريشة والمديرية..

قال أوسطهم بين الانفعال والاستوثاق :

- هل تعرف أبا جريشة حقاً؟

وقال أكبرهم قولاً عنيفاً كأنما صدر من أحشائه :

- أنى لنا أن نثق بك؟

وقالت نور :

- إني ضامنة له بعمري !

ولما رأوا شدة استمساكها بي تركوها ومضوا، مضوا يرفعون جلاليبهم عن الأرض - التي كانوا ينتسبون إليها يوماً - بأيديهم، ونبتت الطمأنينة بعد الجزع والهول، كانت الفتاة تبكي مذعورة لا تعرف كيف مضت الدقائق، ولا كيف زال الحضور المخيف، وتردد في عقلي قولها طوال الطريق :"إني ضامنة له بعمري.."، أثقلتني العبارة بقدر ما سرتني، ولقد كنتِ منذ قريب تسألينني عن سر شاعريتي، فهذا سر شاعريتي !

 


 



 اقرأ أيضاً :  

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا 

 

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق