الفصل التاسع عشر : حديث السلطة
كان نوح يجتمع مع بهاء الدين فيقص عليه أخباراً سمعها من أبيه سعيد تتعلق بالأعيان ممن كانت لهم الأيادي البيضاء على أبي تيج في الأزمنة الماضية القريبة، وكذا عن مسائل السلطة والعمودية، يبدو نوح حكاءً بارعاً محباً للتعبير والإشارة فيقبض على الأفهام ولو قيض له أن يحوز حاسة النطق لملك الأسماع أيضاً، تُجالس تسنيم الشيخ الذي رضي عنها بعد نقمة، إنها (تسنيم) تفهم مراد زوجها فوق ما يفهمه الشيخ كأنما تترجم ما غمض من بيانه لطول عشرتها به وخبرتها بحياة القرية، تقول المرأة :
- أحيا عبد الرحمن بك النميس (عمدة أسيوط) أربع ليالٍ باهرة في مولد سيدي جلال الدين السيوطي، هكذا رويت لي أمي القصة كأنها ألف ليلة وليلة،.. كنت وقتئذٍ لم أولد بعد.
يحاول نوح أن يقول شيئاً، تتحرك اليدان، فتتلقف تسنيم مراده وتترجمه لبهاء الدين ترجمة منطوقة يفهمها فيهز رأسه في استحسان :
- إن نوحاً يقصد الكُتَّاب الذي تعلم فيه، كان من الدرجة الأولى، يضم ثلاثة فصول إلى حوش ومنافع، إنه الكُتَّاب الذي أشاده قطب بك قرشي (أحد الأعيان) وأوقف عليه خمسين فداناً من أجود أطيانه،.. لقد قضى نوح طفولته رفقة عائلته في ديروط الشريف، وظل حتى عهد قريب متفرداً بفك الخط وبمعرفة أصول مذهبي الإمامين مالك وأبي حنيفة بين أقرانه، وقت حضر إلى هنا، في أبي تيج !
وكان بهاء الدين يعلق بقوله :
- لعلكم تصفون هاته الفترة السابقة، إنها سنوات الدفع الأولى، وأخشى أننا انتقلنا منذ بداية هذا القرن (يريد القرن العشرين) إلى عهد صار فيه للكم أولوية على الكيف !
وكان نوح يسأل بهاء الدين على حين تحول تسنيم حركته إلى صوت كالسحر :"هل لديك شغف السلطة؟ بمقدورك أن تقدم المساعدة تماماً كالأسماء المذكورة لأعيان وعمدة تلك الفترة؟"، وقال بهاء الدين قنوعاً :
- تركت العمل الاجتماعي منذ أجل، وأرجو حسن الختام !
وقالت تسنيم في تزيد :
- إن استقبال الأهالي لك يوم عدت من مقابر المسلمين ينم عن حب ضامر حقيقي ! لقد ضاق الأهالي ذرعاً بالعمدة الحالي (غانم أفندي) وسوف يجدون لنقمتهم عليه في أي متقدم صورة المخَلِّص !
وقال في ترقق :
- أي بنيتي،.. إني غريب عن هنا في أعين الناس، سمعت منهم من ينعتني برجل المدينة، وقد كبر على بعض منهم أن أهبط إلى دنياهم فأحوز أرضاً صغيرة، فكيف بالسلطة الكبيرة؟!
وتشاغل الثلاثة عن حديث السلطة في أوان السمر الليلي، فانتقلوا إلى غيره من سفاسف الأمور، وفي غداة اليوم التالي يقظ بهاء الدين على جلبة عظيمة آتية من بيت العمدة غانم أفندي، كان دهماء أبي تيج قد اجتاحوا مكتبه في ثورة غاضبة وخرج منهم نفر ومعهم الأوراق والرسائل التي اشتملت عليها الأدراج المنهوبة، وطرقت تسنيم الباب تريد أن تفيق الشيخ - وهو اليقظ - فنقرت - لأجل ذاك - بيدها فوق كتفه اليسرى، وكان دأب الشيخ أن ينام على يمينه امتثالاً للسنة، واعتدل بهاء الدين في جلسته، ثم نهض رفقة تسنيم يستشرف حقيقة الفوضى الدائرة من النافذة ذات الستائر المذهبة، كان ثمة صبية يلهون بالورق، ورجال يصارعون رجالاً، وغاضبون في مواجهة خفراء.
وحضر نوح ووقف على مبعدة خطوتين من زوجه والشيخ، يشير بيديه في لهفة إلى المعنى التالي : "لن تصدق ما وجده الصبية في أوراق غانم أفندي إذ هم وجدوا العجب العجاب،.. لقد وجدوا رسائل يطلب فيها العمدة من نوح أن يودي بحياتك، كان غانم الرأس المدبر الخفي، أراد أن يتخلص منك بيدي جعفر لخوفه من شعبيتك المتنامية في الريف، وأما حين فشل مخططه فقد تخلص من ساعده الأيمن واختلق قصة انتحاره كيما يموت معه سره !"، وهنا قالت تسنيم كأنما تتملص من وزر في تضرع، تنوء بشعور عظيم :
- إلهي ! لم أكن أعرف اليد التي تحرك جعفر، ولو أنني عرفتها لابتدع غانم لي نهاية أخرى شنعاء ! ها قد حفظني جهلي من يديه الآثمتين.
وسلمه نوح الرسائل المسروقة من مكتب العمدة فلم يجد فيها الشيخ جديداً فوق ما قد شُرح، وأرجع البصر إلى مشهد الاجتياح كرتين، وطرق على حافة النافذة الخشبية بقبضة يده يقول :
- الملعون يختبئ في مكتبه،.. انظر كيف كانت عاقبة الظالمين !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
- سأصارحكم بالحقيقة إذ ليس لي من مأرب واحد في إخفائها عنكم، وسأظهركم على وجهها البين البسيط، فما أسعد المرء إذا كان له وجه واحد، في السر والعلن، ككتاب مفتوح !.. إنني شيخ نال مني داء السكري ما نال، غريب عنكم إذ جئت من الإسكندرية، وقد شاخت مفاصلي وخف بصري، وعلى المجمل : فقد حل بي تدهور الأحياء المعروف في آخر أطوارهم، لا أملك إلا فدادين خمسة حزتها من الإصلاح الزراعي، وأمانة السيرة، ثم استقامة المسير، من أرادني عمدة عليه فليرفع يده ومن لم يرد فليخفضها مشكوراً محموداً !
ونهض نوح فألقى خطبة يزكي الشيخ فيها، وفيها يعرض مناقبه، وعُدّتْ الأصوات ففاز بهاء الدين بالمنصب الذي هبط إليه بغير تحضير أو طلب، وحاز عمودية القرية بعد نيابة المدينة، وأذيع النبأ حين اكتحل طرف النهار بالضياء، فاستقبلته النفوس بين متسائل عن شأن صاحبه : "عمن يكون؟" وبين محتفٍ به، وكان بهاء الدين يقول :
- إنه تكليف فوق أن يكون تشريفاً، وسأبدأ بإصلاح الكُتَّاب والحمامات العمومية، ولن أقدم تنازلاً مهما صغر..
أثقلته المسؤولية الجديدة حين أظهرته على وجوه المعاناة الجنوبية، كان يحدث أن يجلس في مكتب العمدة على حين يجلس بكر على ركبته يعلمه القراءة، ثم يحدث أن يستخفه المرح فيهز ركبته - وبكر من فوقها - كأنه الحصان الجامح، يحضه على التوازن وهو الممسك بجنبيه أو يكاد فيصفه أوصاف الفرسان في معترك الحرب وميادين الوغى، ثم يعود يهدأ فيقول فيما تستقر ركبته :"لقد بلغ الحصان حظيرته.."، تقف بدور قربه تقول :
- ما أكثر الورق !
يجيبها على ضوء شاحب :
- إنها شكايات أهل الريف ! لشد ما يزعج ناظري الواهنين طول التدقيق فيها،.. ولكن لا فكاك !
- ما أسرع ما يبادرون إلى الشكوى ! لماذا لا تتخلص منها؟ إنك إذا تخلصت من الأوراق تخلصت من شكواهم، وأرحت عينيك..
وكان يبتسم لها فتظهر سنته الفضية وتبرق،.. حتى تسنيم تبدو وكأن التجربة المرة قد صرفت عنها شاغل الأرض والميراث ولو إلى حين، واعترضها غانم بعدما جُرد من طيالس المراتب والمناصب في ظهيرة يوم أعقب حدث الثورة عليه، يقول بينما تحاول المرأة التخلص منه بحركتها السريعة وفوق رأسها سلة كبيرة من البيض :
- ألا يستحق العمدة القديم التحية ؟!
وقالت :
- فلتغرب عن وجهي أيها المنبوذ !
- إلام تعيشين ونوح على هامش حياة الشيخ العجوز؟!
- هامش؟ لم أعهد عن بهاء الدين إلا وداً ومغفرة !
- لقد كتب الوصية لأبنائه دون ابنيك !
والتفتت إليه، لأول مرة، مرتبكة تقول في عناد بينما تمضي : "وليكن!"، وأُنهك غانم من تتبع المرأة المهرولة فقال وهو يقف يلتقط أنفاسه في صهد الشمس فيما تبتعد منه، يقصدها، في غطرسة :
- حية رقطاء ولو أظهرت الإخلاص ألف مرة !
ظلت تسنيم تقلب وجوه الحديث الذي تملصت لتوها من صاحبه،.. إن نوحاً وحده من يعرف أين الكأس والوصية ! لا يريد غانم إلا أن يروي بذور الشك في نفسها، أن يقلب بواعث الريبة في القلب المطمئن، ولكن.. ولو صح أن الوصية في صالحها وصالح نوح وبكر وبدور.. فلمَ يصر بعلها على أن يخفي محتواها عنها إصراره الجازم الحاسم؟ لأي سبب يواري الكأس وما فيه عنها كل مواراة؟.. إن نوحاً من الخجل والتجرد حد أنه لا يتجرأ على أن يجادل أو أن يعترض على إجحاف ينزل به، فبم التعلق؟ ذلك اليوم تَكسر بيض السلة، لقد تلهت بشواغل الفكر عن السبيل الريفي المتعرج، انزلقت قدماها على الأرض الطينية ونهضت تلعن غانم ونفسها والأشياء، عادت إلى البيت في كمد الخسران بعد أن بللت مياه الترعة فستانها ذا الورود الأرجوانية، وقال نوح بإشارة يديه ما مؤداه : "إن البيض فداء أن تعود سالمة ومن غير سوء.."، بدا الرجل متغافالاً عما وراء الحدث البسيط من أسباب أعمق، وظنون غائرة، يحاول نوح أن يخفف عنها وطأة ما حدث بحديث فيه سلوى على أن تسنيم تخفق - وعلى غير المعهود - في أن تفهم مراده،.. سجى الليل ولكن تسنيم لم تنم، إنها تفتش البيت - في حين كل من فيه نيام - تفتشه شبراً شبراً، ووجدت كأس الوصية فألفتها فارغاً،.. وجعلت تتساءل كأنما أطارت الحيرة ما تبقى من رزانتها : "أين اختفت الوصية التي فيها؟"، عادت إلى حجرة النوم بخفي حنين، هناك ينام نوح، واقتربت من زوجها الذي كان يتقلب على صفحات الغفلة، حدقت وتحققت في صورته فبدا طرف ورقة ينسدل من جيبه، ودست يدها في الجيب تريد أن تحوزها دونما أن توقظه، واستدار نوح بغتة فارتعدت فيما استقرت حركته نائماً على جانبه الآخر، ولم تكد تهدأ إلا والورقة في يدها وقرأت ما فيها على ضوء المصباح (الأباجورة) الخافت فتنهدت تنهيدة ارتياح، أعادت الورقة إلى الجيب بنفس الحذر، وعلى فمها ابتسامة !