الفصل الخامس والأربعون : قصة رودوس
رافقت آنجيلا يوسف في أوقاته العصيبة في مساء يوم من يونيو/حيزران، حين استعرت في نفسه نيران القلق والظنون، وبكى الرجل بكاء الأطفال خشية ما يتهدد بلاده من احتمالات، وقال لها :
-"العشب أكثر اخضراراً على الجانب الآخر من السياج، ظننت أنني هنا سأكون قد تخلصت من إرث الماضي، لو كنت أملك حجر الأمنيات، اليوم، لوددت أن أكون في الإسكندرية، أطأ ثرى مصر الخالدة..".
وقالت له :
- "لماذا لا تنهض أمام الجلوس تمرح وتفرح؟".
وابتعد من وجهها، فانفرجت رؤيته وقال :
- "جل الجلوس قد انصرفوا، لقد سهينا عن الوقت، جن الليل واقترب الصبح، التمعت نجوم المساء وخبت، ونحن على ما نحن فيه، لم يبقَ من الجلوس سوى واحد..".
ولم يكد يتم حديثه حتى نهض هذا الرجل الوحيد الباقي، كأنما هو اتفاق الصدفة الهازلة، وخلا المطعم إلا من الاثنين (علاوة على طاقم الطهاة)، وقالت آنجيلا :
- "لماذا لا تؤدي عرضك المعتاد، أمام الكراسي الفارغة؟".
وأعاد يوسف قولته كأنما رام أن يستوثق مما لم يتثبت منه :"أمام الكراسي الفارغة؟"، وأومأت برأسها في ابتسامة متحسبة، متطلعة في خجل،.. فنهض يؤدي عرضه والفتاة في ضحك منه، وسرعان ما حضر الطهاة وحمود فوقفوا يشاهدون ما بدا مشهداً عجيباً كل عجب، جلس يوسف يستريح وسط تصفيقات الطهاة الذين جعلوا يهنئون الرجل على تحامله، ووقفته، وحتى لقد دعاه نفر منهم وكان طاهياً أردنياً إلى طبق المنسف، وآخر سوري تعلم الوصفات الشعبية المصرية إلى البيصارة - فشكر واعتذر، واستدار يوسف بناظريه إلى موقع آنجيلا فلم يجدها، وجلس أولاً إلى مقعد من هاته الخاوية جميعها، وجلس حمود بدوره إلى هذا المقعد المقابل يقول :
- "من الخير أنها قد انصرفت، إنها يهودية !".
وجللت يوسف مباغتة صادمة فطفق يقول :
- "لم أشعر أنها كانت تكن لي عداءً قط.".
وقال حمود :
- "أغلقت مصر مضيق تيران قبالة خليج العقبة..".
وقال يوسف :
- "أغلب صادرات إسرائيل ووارداتها تتم عبر موانئ تل أبيب ويافا وحيفا..".
- "يعدون القرار فرضاً لحصار بحري..".
كان الصبح يتسرب في خجل، ثمة هرة تزور المطعم انتبه إليها يوسف لما أخذ بفروها المكسو باللون الفضي الممزوج بالأزرق، وجاء إليها بالحليب فاستنكفت عنه، وجعل يحدث نفسه يجلس على هذا الطوار المقابل للمطعم :" تعيشين في الطرقات بلا سكن، وترفضين الحليب، لشد ما أنت قطة تافهة..!"، ونظر إليها في غبطة وحسد، إنها تمرح هنا وهناك دون تكليف، العينان منها كبيرتان مستديرتان، تميلان إلى لون الزمرد الأخضر، وأورثه التأمل ابتسامة جعلته يرثى لحالته البائسة، وأبدت الهرة ذكاءً وخجلاً ومرحاً، وهناك لاح حمود فربت على كتف يوسف الذي لم يفقد الأمل في أن يشرب القط الحليب، وقال يوسف:
- تبدو جميلة حقاً، ولكنها تتعالى على المقدور لها من الغذاء !
وقال حمود :
- القط الروسي الأزرق Russian Blue لا يشرب اللبن، إنه يخجل من الغرباء أيضاً.. سآتي له بالطعام !
وانتظر يوسف عودة صديقه فيما جعل يشخص إلى عيني القطة الخضراء الزمردية التي بدت أنها تتموضع كي تقف قبالته، وجعل يهمس :"تعيشين كالمتسكعة، ولكنك، وللحق، جميلة.. هل بمقدورك أن تطلعي على الغيب؟ هل سننتصر في حربنا؟.. أيتها الجميلة المتسكعة؟"، ورمقته القطة بنظرة من عينيها فزع لها الرجل وانتفض، كان حمود قد جاء بالطعام يقول ليوسف دون أن يرفع ناظريه عن الطبق الذي يحمله :
- أحاول العناية بها، يقولون بأن سلالتها في تناقص مستمر بعد الحرب العالمية الثانية،.. وقد حرت بحثاً عن صاحبها فلم أجده، بت أشبه بمربيها غير الدائم، إذ هي تأتي إليَّ في الصبائح كي تحوز طعاماً وتنصرف !
وهبط حمود ومعه طبق من الدجاج والجزر فلم يجد هذا القط الروسي قبالته، والتفت إلى يوسف يسأله مدهوشاً :"ماذا حدث؟!".
عاد يوسف إلى عفاف التي كانت تغط في نوم الصبيحة، دون أن ينسى نظرة القط إليه، إذ كان محملاً بشعور من الروع والرهبة، وأيقظها (عفاف) حضوره فنهضت مسرورة كل السرور بحفل لويس الذي تذكرت كيف كان رائعاً، وقالت له :
- لقد بدأت أسترد شعبيتي، أذيعت الحفلة ولاقت رواجاً، أحال لويس التراب إلى ذهب !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
وقال يوسف في سخرية :
- يشبه لويس إذاً الملك ميداس في الأساطير الإغريقية الذي كان له قدرة تحويل أي شيء يلمسه إلى ذهب.
وقالت :
- هل تمزح؟ عجبت من أمرك ! ماذا تريد؟ أتريد أن أبقي على صلتي إليه؟ أم أن أعتزله؟
وصمت، ثم قال :
- لم أعد أعرف ما أريده حقاً، لم أنم طوال الليل وأحتاج إلى الراحة.
وكاد يروي لها ما اعتمل في نفسه من رؤية القطة الفضية ذات النظرة الموحية لولا أنه خشى أن تعده مخرفاً هاذياً، فعكف عن نيته، وعدل عن القول إلى الصمت واختبأ وراء الأباجورة، فيما اقتربت منه تقول :
- لم تنم لأجل الحرب، أعرف هذا عنك، أنت تحب الإسكندرية كثيراً، ولكن دعني أفصح لك عن أمر: إننا إذا هزمنا في ميدان الحرب سيكون هذا هزيمة لكل ما هربت منه جزعاً، وأتيت إلى باريس من أجله، أعني هزيمة الصلف والغباء والشيفونية، لا أريد الهزيمة ولا أتمناها ولكن حقيق بكَ أن تنظر إلى الأمر من كل وجوهه..
وقال يوسف وكان يبرز وراء نور الأباجورة التي كانت تشتغل رغم النور الطبيعي - يبرز غريب الصورة، فكأنما أضفت عليه طبيعة عجائبية:
- بعد الهزائم تنضح أكثر الفكر سوءاً، وتشيع أكثر المعاني خفة فكرية ورثاثة، إنها هزيمة مجتمع لا هزيمة نظام وحده، لا أريد أن يتنصل الناس من وطنهم، سيصابون بالذهول، سيتحطم الكبرياء، وسيفقدون المعنى، ولن يعودوا، أبداً، كما كانوا، قرأت عنوانات الأخبار الفرنسية التي تدلني على أن الأمور لا تسير أبداً على ما يرام..
وقالت :
- وليكن ما يكن ! لعلهم يجدون الطريق بعد حين، إنهم في ضلال اليوم يسارعون في سبيل لابد أن ينثنوا عنه، لقد أدعينا وطوال أعوام أننا تخلصنا من كل مشكلاتنا حتى تفرغنا لحل مشكلات العالم، نصنع الثورات في أوروبا وأمريكا اللاتنيية، ونتباهى بتفوقنا على الجميع، واليوم دقت ساعة الاختبار، هنا "روردوس".. أين القفزة؟
-.....
وبدا أن مصير الحرب سينتهي على نحو مماثل لما انتهت إليه قصة رودوس من زيف الزعم، وبطلان الادعاء، في الأيام الأولى من الحرب اختبأت عفاف من جاراتها الفرنسية، كانت تدعي - تحت وطأة ما تعرضت له من أسئلة محرجة كثيرة - أحياناً أنها تركية الأصل،.. تدعي هذا رغم ملامحها الفرعونية الواضحة، غرق يوسف في اكتئاب طويل انجلى تدريجياً حين تبدا له أن وقفة مع النفس يشترك فيها الجميع ستعيد الأمور إلى بعض نصابها، كان الشاب - بالأساس - قريباً من الحقيقة على نحو أنه لم يصدم بوجهها حين بدأت تتبدى للجميع في ليلة عتماء بلا قمر، اعتزل الناس أياماً ثلاثة، ثم مرت به أيام أخف وطأة، ثم تشجع بالعودة إلى مطعم المأكولات الشعبية، قال لحمود الذي بدا على حال من الكمد مماثل :
- إنه مفترق طرق..
وقال حمود :
- لم أرِ سوى هزيمة !
واعتدل يوسف يقول، وكان يتخلص من حزنه مع كل كلمة يضيفها كالمريض يبرأ من دائه بعلاج فعال :
- تدلنا الحرب على أن ثمة خللاً بنيوياً في تفكيرنا، لعلنا لم نعرف بعد كيف تدار الأمور في عصر الدول القومية، إنها "معضلة الدولة" في المجتمعات العربية، إننا محملون بتركة طويلة من الفكر الخاطئة والمجترة، إذا أنت نظرت لمسار تطور الحضارة في بلداننا منذ انتهاء الاحتلال العثماني وحتى اليوم ستجد أن الأمور تمضي في اتجاه يتصاعد بشكل مطرد، المشكل أننا بدأنا من نقطة شديدة الوطوء، بعد قرون من الغفلة التامة، وقد قفزنا متأخراً من عهد المخطوطات إلى عصر الكتاب، فانتظرنا بعيد ذاك الحصاد في موسم الغرس، نريد - ونحن من أمرنا في عجلة - أن نسبق أو أن نباري أقواماً لم يتعرضوا لانتكاسات مماثلة، ولم يذوقوا ويلات تجهيل متعمد على مثال ما لاقيناه، منذ كان العام 1517م (عام الغزو العثماني لمصر) وحتى الحملة الفرنسية 1798م، ثلاثمائة سنة كاملة ! هل تعرف ماذا تعني قرون ثلاثة؟ إنها مدة تضاهي ما قضاه أهل الكهف - وفق الرواية القرآنية - في سبات كالموت،.. ستسمع من يريد إحياء هذا الإرث القديم، اليوم، متذرعاً بالهزيمة التي نزلت بنا، لقد عدونا وراء سراب الاشتراكية، وسندفع جراء هذا ثمناً باهظاً، لقد قرأت قصة الفنان محمد فوزي الذي أممت شركته "مصرفون"، إنني أتعاطف مع سير الفنانين دائماً لأنني أعد نفسي غصناً من شجرتهم، لقد جعلوا له في "شركته" بعد التأميم مكتباً حقيراً، كان هذا عاراً، وبغياً، وقد أنذرت مثل هذه الاجراءات بهذا السقوط المروع والهزلي الذي قد حدث،.. وَحائِطُ البَغيِ إِن تَلمَسهُ يَنهَدِمِ.
وقال حمود في فتور غير معتاد عن شخصيته :
- لم أعد أصدق شيئاً، أعذرني، حتى حديثك - على استرساله البليغ - لم أعد أصدقه، ستضيع هذه الفرصة مثلما أضعنا عشرات من مثيلاتها، قبلها ! أريد أن أكون واقعياً.
وكان قد انتاب يوسف لون من التفاؤل الغريب في أعقاب حديثه المسترسل كأنما أفرغ ما كان في صدره، أو نزع شوكة حلقه، فقال :
- يجدر بكَ أن تكون متفائلاً، التفاؤل قرار باطني، حين تكون واقعياً لن ترى أكثر من حدود المشكلة، إننا لن نجني شيئاً من جلد الذات سوى المرارة، لست مكتئباً قط، فالاكتئاب هو ما يصيب المرفهين دون مبرر، وأما أنا فلدي من الدواعي ما يكفي، ولكنني أتأبى الاستسلام لسطوتها،.. بعض من تأثروا بالهزيمة أغلقوا على ذواتهم الحوصلة كيما يعيشون حياة داخلية مظلمة لا شأن لها فيها بالعالم الخارجي، لقد استحالوا إلى ما يشبه "الأميبا" حين تجابه قسوة الظروف الخارجية، أو كالسلحفاة المحبوسة في قوقعتها، وقد كنت على مثالهم حتى وقت قريب قبل أن ارتد عن هذا البؤس غير المجدي.
وأظهره على صورة نشرتها إحدى الصحف الفرنسية وكان لها أثر طيب في تغيير الموقف الفرنسي من الحرب، وكانت الصورة لامرأة تحمل نجلها في يد وبؤجتها في اليد الأخرى وهي تعبر جسراً منكسراً،.. وقال حمود له، بعد أن تنهد تنهيدة ارتياح تسبب فيها الحديث المستبشر الأخير :
- الإنصاف يقتضي أن أعترف لك بحسن التحليل،.. كنت ترى أعمق من الجميع..
وسأله :
- هل سيقف معنا الفرنسيون في محنتنا؟ هل سيحتجون لأجلنا.
- ما دام سعر الجبن والنبيذ في المتناول فلن تحصل على احتجاجات هنا.
انتظر يوسف حتى حين طلوع الفجر كي يجد القط في تردده على مطعم حمود، ولكن القط لم يأتِ، جهز له صحن الدجاج والجزر وتركه أمام الحانوت، ومضى، لم تحضر آنجيلا أيضاً، عاد يوسف إلى بيته متألق الشعور فارتأى أن يروي لنجليه حكايات مجيدة من التاريخ المصري، وأن يتطرق في هذا إلى رجال الحرب والسلم من أزمان الماضي الذين حملوا المشاعل فأضحوا في الحندس كالسرج، ومَا نَحْنُ فيمن مَضَى إلاّ كبَقْلٍ في أُصولِ نَخْلٍ طُوالٍ، وذيل حديثه يقول متحدياً :
- سنتحدث العربية الخالصة منذ اليوم في البيت، (وأشار إلى نقطة تقع في قلب خارطة العالم يقول متحدياً..) هذه بلادكم، أهدت مصر الحضارة إلى العالم حين كان تسوده الفوضى والبربرية، وستنهض مجدداً، في أشد الأوقات حلوكاً !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق