الفصل الثامن والثلاثون : تقرير المصير
أقام ضاحي في بيت مراد أياماً بعد أن هجر حيّه القديم بالورديان، كان العجوز ينام محدثاً غطيطاً عالياً ينزعج له الأخوة الخمسة الذين باتوا شركاء مراد في بيته، يؤرق الرجل الجديد بتقلبه الليلي مضجعي الطفلين : رؤوف وفردوس، حتى إذا نهض استوى في جلسته يقرأ ورداً من القرآن يحفظه، تصطف العصافير على حافة النافذة المقابلة فتنقر سوس الإطار الخشبي، تظنه الحبوب، حتى تطير،.. أحدث ضاحي توازناً عمرياً في بيت امتلأ بالصغار فرضي به مراد، وقرت به عينه، يلاغيه في شؤونه، وكأنما صار بزيادة الاتصال إليه يعتاض عن سنوات اليتم، فيتحول عنها معنوياً وعاطفياً،.. وذات نهار لامس أنفه رائحة طعام شهي، فقال لمراد مستحسناً :
- أنت تجيد الطهي حقاً، ولولا أنني أعرف الحقيقة لقلت بأن امرأة من جهزت هذا الغذاء.
وجاء مراد بهذه الصحون فجعلها فوق طاولة صغيرة كانت بدورها فوق هذا السرير حيث يجلس ضاحي، جاء يقول في شيء من استنكار :
- امرأة؟! حاشا الَّلهَ.. لقد هجرت النساء منذ ماتت نرمين. أحسب أن من حسنات وجودك هنا أن تصدني عن الانحدار إلى مثل هذا السبيل.
وقال ضاحي وهو يهم باحتساء طبق حساء شوربة لسان العصفور، يستخدم ملعقة فيسقط الحساء على قفطانه الأبيض :
- تحتاج إلى امرأة فعلاً مهما كنت طاهياً بارعاً، من ذا يُعنى بفردوس أو رؤوف؟ الأخوة الخمسة أيضاً، إنهم تركة ثقيلة لشاب مثلك، علاوة على أمر آخر : ستكبر يوماً وتشيخ، من الخطأ أن تغتر بدوام الحال، انظر إليَّ : شيخ لا يجد من يرعاه بحق، هل تريد أن تكرر خطأي؟!
وتولى عنه مراد يقول كأنما وخزته إبرة :
- ألا أكون جاحداً لنرمين إذا أنا أقدمت على زيجة جديدة بهذه السرعة؟
- لا عدة تجب على الرجال، الجحود أن تصر على ما أنت فيه.
- ثمة أمور غير العدة الشرعية، سِمها العدة المعنوية إن شئت.. سئمت الزواج، حسنية، فنرمين.. ثم من؟! العرافة تقول بأنني سأتزوج بابنة عبد الغني، يوماً، أرى زيجاتي تفشل وكأنني بإصراري على مخالفة هذا المقدر أعبث بترتيب الأشياء.
وقال ضاحي وكان قد تخلى عن الملعقة وجنح إلى تناول الحساء عبر الصحن الصغير، بيده، ودون وسيط :
- العرافات يقلن الأشياء الكثيرة، حتى إذا أصابت واحدة تناسى السامع البقية التي لم تتحقق، لا أحد يعرف ما في ضمير الغيب حقاً، قناعة كهذه محرمة من جهة الشرع والدين.
وقال مراد :
- ألا يكون حلالاً إذا اسميناه استشرافاً للواقع واستقراءً له؟! أليس من الجن من يسترق السمع؟
وقال ضاحي :
- الآية تقول : (وهنا بسمل بسملة خاطفة..) وأنّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصداً،.. أي من يروم أن يسترق السمع اليوم، يجد له شهاباً مرصداً له، لا يتخطاه ولا يتعداه بل يمحقه ويهلكه !
قالها منفعلاً حتى لقد اهتز صحن الحساء لتأثره، كان الأطفال قد بدأوا يستيقظون، وودع مراد أباه يقول بعد أن يقبل يده، والآخر غير واعٍ بحركته :
- سأقصد إلى دمياط، إنها حصان رابح،.. فلتدعُ لي بالتوفيق.
- أدعوه بأن يكلأك بحفظه، دائماً، فلتصطفي التجار المشهود لهم بالنبل والكرم.
وقال مراد وكان قد لبس قميصاً أبيض :
- حين يتعلق الأمر بالمال، وفي هذا العصر، فالجميع تنافسيون وبخلاء.
- الأغبياء ! يجهلون أنه محض وسيلة، أرضية.
وقال مراد وهو يعيد فك وربط الأزرار حين يعي حقيقة خطأه في ترتيبها :
- عند أكثرهم وسيلة، وغاية، وكل شيء !
هذا المساء الذي ارتحل فيه مراد عن داره أصيب ضاحي بحمة شديدة لم يجد من يسعفه أو يعينه عليها، تلون وجهه الشائخ بحمرة قرمزية، وبات يبثق حساء النهار، وتتشتت رؤيته حتى لقد أبصر الأطفال السبعة - يقتربون منه في تحسب يريدون الوقوف على حقيقة ما نزل به - أبصرهم ثمانية أو تسعة،.. وحين كان يستنجد بمن في البيت جاءته تهاني - كبرى من فيه - التي جهزت له "الكمادات"، وسمعته يقول - كوصية فراق - دون أن تعي كنه المقصود حقاً :
- إذا عاد مراد وقد مت، فأخبريه بأن يتزوج..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
أغسطس 1965م..
سُرَّ أباظة حين تناهت إليه أنباء اتفاقية جدة التي تقضي بإنهاء النزاع في اليمن، كان الرجل لم يفقد رجاءه في أن يجد صديقه منصوراً، وقال :
- أتمنى أن يجدوه قبل أن تنسحب القوات المصرية من هنا.
وقال آخر :
- كأنكم تبحثون عن إبرة في كومة قش، سبعون ألف جندي مصري في مجاهل اليمن، وتطلعون إلى أن تجدوا شاباً صعيدياً وسط هذا العدد؟! الأرجح أنه قد مات أو قتل.
وأمسك أباظة ببذلة الجندي المموهة يقول :
- لا تتحدث بهذا الاستخفاف عمن لم يمت.
وفصل الجنود بين المتنازعين فمضى أباظة بعيداً يصعد هذا الجبل، كان يسمعهم يقولون :
- انتصرت وجهة النظر السعودية في الأخير،.. وما معنى تقرير المصير الذي نصت عليه الاتفاقية؟
- يقولون بأنه (تقرير المصير) سيأتي عبر استفتاء شعبي.
وقال ثانٍ وكان يتحلق ناراً :
- بل شيوخ القبائل من أهل الحل والعقد من سيحددون المصير.
وقال ثالث وكان صوته يأخذ يخبو، كأنما يصدر من قلب كهف :
- وهل ستسمح مصر بهذا؟ لن ننسحب أبداً لأننا نخشى على سمعتنا وهيبتنا.
كان أباظة قد بلغ في صعوده على هذا الجبل مبلغاً وتوقل فيه ملياً، إنه إذا صعده رأى البشر وخلافاتهم أصغر، وحتى الجنود، والاتفاقيات، وحلقات النار، ومدافع النيران،.. كان صدره ضيقاً حرجاً، وأخذ يتخفى في ظلمة الليل، يعرف حقيقة أنه يخالف الأوامر حين يمضي وحيداً، وإلى هذا الارتفاع، واستقر لدى موضع سامق، وجعل يهمس :"سينتهي هذا الجحيم إذن، وسأعود إلى الإسكندرية.. إلهي.. لماذا لا أنعم بليلة في فندق "سيسيل" أرى فيها وجه البحر كالمشاهير؟!"، ولسبب لم يفهمه - بعد ذاك الاستغراق - خفض رأسه فساورته هذه الفوبيا التي تعيقه عن النظر إلى أسفل،.. لماذا يخشى المرتفعات إذا هو يفارق في مستواها هذا الأفق الأرضي الواطئ الذي يكرهه؟ وأسلم ظهره إلى حجارة مستوية بعض استواء فأخذته سنة من نوم رأى نفسه فيها في فندق "سيسيل" بلباس النوم، يسرح شعره بزيت اللوز، ويتقلب على صفحات رغد وهناء،.. ثمة من أيقظه من منامه، بغتة، وسأله أباظة :
- من أنتَ؟
وأجابه الآخر حاد الصوت أجشه :
- إننا جنود المملكة المتوكلية.. هل أنت جاسوس؟! من وراءك؟
وأجابه أباظة في ذعر :
- أعرف أنكَ لن تصدق هذا أبداً، لكنني سئمت الوضع على الأرض وصعدت إلى ربوة الـ..
ولم يكمل الجندي الاستماع إلى حديثه، فوغزه ببندقية، ساقه بها إلى حيث يجهل، كان أباظة يقول له :"كلنا هنا عرب.. لماذا نتقاتل؟ من المضحكات المبكيات أنك إذا سألت مائة جندي عن التقدمية أو الرجعية لن تجد جواباً واحداً يبل الريق.. أنت أيضاً تجهل الجواب على حماستك هذه.."، واقترب الاثنان من معسكر بدا في غبش الظلمة كرة من نار أضاءت الليل، وكادا يبلغاه لولا أن اشتبك هذا الجندي المجهول مع الجندي المتوكلي، ففر الأخير إلى معسكره، وفك الجندي المجهول قيد أباظة يقول :
- فلتسرع، سيجيء من يداهمنا..
ومضيا في خفة حتى حدود هذا الجبل، وهناك حمد أباظة للجندي معروفه، فيما نصح له الآخر بالتزام الحرص وهو يأخذ يستدير عنه، وأماط الجندي المصري هذا اللثام عن وجهه، وهناك ذهل أباظة - الذي كان لا يزال يتابعه - يقول وهو يرى وجهه بوضوح، لأول مرة، على ضوء القمر :
- منصور؟!
-....
وجلس الصديقان قرب ربوة الجبل، ولم تدم فترة الصمت طويلاً، سأله أباظة في انفعال :
- أين كنت؟ ظنناك قد مِت في هذه المهمة !
وأجابه في حزن فاتر، تتساوى فيه المعاني :
- المهمة ! أجل ! لقد فشلت، رأيت الموت يسلب أرواح كل من كان معي، لشد ما هو لص حقير ! استبقتني المقادير لسبب لم أفسره أولاً، لكنني عزمت على ألا أعود، إنني هنا أقف مختبئاً أخلص هذه الأرواح المعلقة من هذا الطرف ومن ذاك، لا أقتل أحداً، لا هوية لي، ولا انحياز، وقد يتفق أن يكون اللانتماء في حرب مختلة كهذه الحرب خير السبل الأخلاقية ينهجه المرء..
كان أباظة مذهولاً لسماع ما سمعه، سعيداً مع هذا، إنها سعادة مماثلة لانكشاف حقيقة ثالثة أو انبثاق الحل بعد عشرات المحاولات المتكررة، وواصل منصور :
- بدا حديثك القديم مؤثراً في نفسي، في الحق، لقد كان حديثك المتعلق بعبثية حربنا هذه مؤثراً دائماً، كله لب ولا صدف فيه، ولكن تأثيره يوم نجاتي، وحيداً، في هذا اليوم، كان أعمق غوراً، وأبلغ أثراً..
وقال أباظة في عجب، وهو يضع يده على ظهر جليسه مترفقاً :
- لا أصدق هذا.
وسارع منصور إلى القول :
- لا تخطئ فهمي، لازلت مصرياً قحاً، ولكنني وعيت إلى الحقيقة، إننا هنا دون سبب إلا أن نحفظ هذا الـ prestige (هيبة) الزائف، الأطفال أيضاً، أجل، الأطفال، عيونهم المغلوبة البريئة حتى لتبدو أنقى، بأشواط، من عيون البالغين، كمثل صفاء عين الديك، الأطفال لا يعرفون : أهذا ملكي أو جمهوري، تماماً كالجنود، إنهم هنا يتأذون، لقد نذرت طاقتي لخدمتهم !
والتفت منصور إليه بغتة يقول بينما يجهش في ضحك :
- إلهي ! كنت تبدو على حال يرثى لها، مكتفاً، مساقاً إلى حتفكِ، سمعتك تقول : كلنا هنا عرب،.. أضحكني هذا كثيراً حتى كاد أمري يفتضح..
وتدخل أباظة يقول بعد أن فترت حدة الحديث :
- رويدك ! رويدك ! كنت نائماً، ما كان للجندي أن يسوقني لولا أنه هاجمني بغتة فأيقظني من منام،.. منام ساحر، رأيت نفسي في فندق سيسيل بالإسكندرية : خمسة طوابق، ما يزيد عن الثمانين حجرة، كل هذا لي، (ثم في جدية) يقولون بأن تشرشل وأجاثا كريستي نزلا هناك، لست أقل منهما، وسأحظى بضيافة، يوماً..
وتدخل منصور يقول في حس متحفز قديم :
- من الخطأ أن تفكر في صور النعيم وأنت تربض تقاتل على كف المعركة.
- أحسب أنك آخر من يتحدث عن "المعركة".
ونظر منصور إلى هذا العشب فجعل يميله بإصبعه، يقول كالخجول :
- أجل، هذا صحيح.
وهنالك سمع الجنديان من ينادي على منصور من ضباط المعسكر المصري، فنهض أباظة يقول :
- لابد أن أعود، فلتحتفظ بحياتك ما أمكن، لقد ارتقيت بها إلى أفق سامق حقاً، أن تكون على الحياد سيعطيك فرصة في النجاة..
وابتسم منصور له يهمس في حين يغيب عنه محدثه في تلافيف الأشجار :" بل يعني أن أكون مستهدفاً من طرفين..". !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق