الفصل الواحد والعشرون : انتفاضة الطلبة في سبيل الحرية
كانت عفاف تقصد إلى تجمعات الموسيقيين بمقاهي المدينة كيما تنشد الأغنيات، وقد أخلصت لالتزامها الجديد بنبذ الرقص منذ ساعة وزعت التمر في اجتماعها إلى بهاء الدين،.. إنها تجني بعض الدخل الذي ينتظر مساهمة الأب الشهرية، وقالت ليوسف :
- رأيت الممثل عماد حمدي في مقهى "شكري" بالمساء، آه.. الأمر أشبه إلى كذبة لا تكاد تُستوعب.. وفي نهاري زرت مقهى "بول"، إنه مملوك ليوناني وقد سمح لي بالإنشاد فيه حتى لقد جاء إليَّ رواد محطة باكوس كيما يستمعون لي، من عجب أنهم أعجبوا بالغناء كل إعجاب، يبدو صوتي رائقاً خلافاً لما يزعمه أبوك !
وكانت تنتظر أن تجد تجاوباً من الشاب الذي ارتسمت على وجهه علائم الحياد، فتابعت تحسب أن مزيداً من أمثال قولها سيحمله على التجاوب :
- ثمة مقهى "عبد الكريم" وقد استحال بأمر من الملك إلى مقهى كبير، إنه استراحة لفاروق حين ينزل في مرات بمحطة قطار سيدي جابر ! وقد ارتدت المقهى مراراً دون أن أوفق في لقاء الرجل (فاروق).
وحل الصمت، ومزيد منه، فسألته عما هنالك، وأجابها :
- إن أبي بات يحسن علينا، أعني إنه يروم المساعدة ولكن مساعدته هذه تأخذ صورة الإحسان، وما حاجة المكتفي في أن يستند إلى غيره؟.. ومن الأسى أن تذهب المرأة إلى عمل بينما يجلس زوجها حبيس جدران بيته، إن آفة اللاعمل أنه يورث إحباطاً، إن جل المقاهي لا تحفل بمهنة المونولجست، وقد أضناني البحث عن جدران أربعة !
وسمع الشاب صوت تظاهرة من الشارع فهرع يستشرف ما هناك وكان نفر من الطلبة يهتفون :
- "الجلاء بالدماء.."!
ووجد يوسف في الإنجليز والملك سبباً فيما جرى ويجري له فانتقل يأسه إلى حال الغضب، ورأى في خياله شبح تشارلي (الضابط الإنجليزي) شامتاً به يبتسم يوم جرى فصله فحلق قلبه الكظيم على أجنحة ألسنة الهاتفين، لقد انبثقت رغبته في نبذ الحياد هذه من كراهية الالتزام بالنظام الذي يحس في وجوده إجحافاً وعسفاً، وسألته عفاف عن وجهته فأجاب :
- إلى رأس المشكلة !
وهبط إلى الشارع هاتفاً مع الهاتفين :"الجلاء بالدماء.."، وكانت وجوه الطلاب على غضارتها محمومة بالغضب، واستقبلت المتظاهرين هراوات (عصيان غليظة) البوليس فاستهدفت منهم الأصابع والأيدي، وعم الفزع حين سُمع صوت الرصاص يدوي في الأفق، وكادت تنفض التظاهرة لولا أن يوسف مدفوعاً بإلهام ما أرشد الطلبة - وكان الشاب على حداثته أكبرهم عمراً - إلى زقاق جانبي يختبئون فيه، لقد تعلم الشاب من تجربة تظاهرة مقهى الفنانين أن تظاهرة تبقى ولا تناور لا تعود تنهزم في النهاية، وقد أورثته تجربته حساً إرشادياً كأنما بات يصدر عن منطق يقول بأن من يعلم حجة على من لا يعلم، واجتمع الطلبة إليه في الزقاق يستردون أنفاسهم ويخففون من آلالام وأوجاع حلت بهم، وسأله طالب:
- ومن تكون؟
وقال يوسف وهو يخلع قبعته في هزو مقرون بالحقيقة :
- إني رسول حياة،.. ومونولجست، إنها كلمة ذات أصل يوناني وتعني شخصاً يدير حواراً بينه وبين ضميره في خطاب أحادي، شخص واحد، فوق خشبة مسرح، أو في أي مكان.. ضعوا هنا (يشير إلى قبعته..) نقوداً وسرعان ما سترتد أموالكم ضحكات وقهقهات !
ووضع الطلاب نزراً من المال يسيراً فيما أحجب النفر البقية عن المشاركة، وكاد يهذر - كعادته - متفوهاً بواحدة من هاته التي تصيب أو تخطئ، ولكنه وحين جال ناظريه في مشهد الطلاب المتألمين من حوله، المذعورين، والخائفين، استنكف عن التمادي في مراده مجللاً بما رأى، وقال في جدية، وفيما يشبه الهمس المسموع، وهو يسمع صيحات ضباط يبحثون عن المختبئين :
- لماذا، برأيكم، يدافع الضباط المصريين عن نظام يرأسه ملك غريب ويسيره الأجانب؟
وقال الأول :
- لأن حزباً يمثل الشعب وينهض بمهامه ثم يلهم الجموع قد غاب عن ساحة السياسة التي عاث بها الفساد طولاً وعرضاً !
وقال الثاني :
- تبدو الديمقراطية لدى شعوب نامية وفقيرة وفي جل أحوالها أكثر شيء شبهاً بالغوغائية..
وقال الثالث يصل من حيث انتهى الثاني :
-..وحين يتفق أن يصل حزب يساري فإنه يعمد من فوره إلى الثأر من خصومه اليمينيين، والعكس بالعكس،.. إن كل ما يحصل هو قلب للأدوار وليس وصول إلى جوهر الحرية ! وهل يتغير الواقع بتغير الدمى إذا كانت اليد التي تحركها واحدة؟
وقال رابعهم :
- وقد سئمنا ممن يدعي الذود عن مواقفنا فلا عاد لنا إلا أصواتنا وهتافنا.
وأعجب يوسف بوعي سياسي بدا سابقاً لأعمار من نطق به، واستحكم الخطر مجسداً في ارتفاع أصوات صيحات الضباط الباحثين عنهم، فأشار يوسف إلى الطلبة أن أتبعوه وأصعدوا بيته، وقال في همس :
- سوف نكمل حديثنا هناك.. (يشير إلى شرفة بيته!) ولتكفوا عن المراء والجدال.
ونجح التسلل في غفلة من المتعقبين، فقالت عفاف لدى عتبة الباب ليوسف حين رؤيتها لجماعة الطلبة الوافدين إلى بيتها :
- بربك.. وماذا جاء بهولاء؟
- اسمحي لهم بسويعات هنا ريثما تخف عليهم قبضة متعقبيهم من رجال الأمن !
- هذه المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا في بيتنا !
- هناك، على الدوام، مرة أولى لفعل كل جديد، إن الطلاب بين محتجين وبين مطاردين منذ الصبيحة.
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
واستدارت عفاف عن يوسف إلى مشهد طلبة منهكين فأورثتها صورتهم عطفاً وإشفاقاً، وقبلت على مضض، وقالت في نفسها :"ما بال الصغار ينخرطون في قضايا تفوقهم حجماً؟"، وقال طالب بعد دخوله إلى الردهة وكان يضمد جراحه بقطعة من القطن المبلل جاءت بها له ربة البيت، يقول كالذي لم ينفصل وجدانياً عن مناخ الاحتجاج :
- لقد فتحت الحرب العالمية شهية الدول للاستقلال، ومنذ حادثة كوبري عباس بدأت مظاهرات الطلبة ولم تنتهِ !
وكان يضم عينيه كالذي تذكر ما سمع عنه من مشهد الكوبري المفتوح والساقطين في النيل، قبل بضع سنوات.. وقالت عفاف :
- من المهم أن يفكر المصريون فيما بعد أن ينالوا استقلالهم أيضاً، وإلا فهو قصور النظر واختلال الرؤية،.. أخشى أن نكون كمن يتشدق بأمل نتوهم أن عنده تنتهي كل المشكلات فما أن نصل إليه حتى تعود الأمور إلى سيرتها الأولى، أو أسوأ.
وقال يوسف نيابة عن الطلبة :
- أنت تسيئين الظن بالمصريين كثيراً، بعد العهد الفرعوني والبلاد تعاني المحتلين، وهي التي لم تنعم أبداً بدقيقة حرية.
وقالت عفاف وكانت بالمطبخ تجهز طعاماً :
- أتظن أن مصريي اليوم هم نفسهم فراعنة الأمس؟ إن عليك أن تنظر إلى ما جره عليهم الاحتلال من أسباب التردي، وما لحق بهم بفعل الزمان من سَوْءات.
وقال يوسف وهو يختال :
- انظري إليَّ، شاب في عمر الزهور لا يجد بالمملكة المصرية - على طولها وعرضها - عملاً، من ذا الذي يتحمل وزر هذا إلا الملك وبطانته ثم الإنجليز وأنوفهم المدسوسة؟
وسادت بين الطلبة ضحكات خافتة من تصوير الشاب لنفسه، ومن وقفته، وقالت عفاف في جدية وهي ترمي بالفلفل في الزيت :
- إني لا أرى التظاهر حلاً، أنسيت أن ثورة تزعمها عرابي كانت سبباً في احتلال نعاني منه اليوم؟
وقال يوسف :
- وهل تخالين أن عرابياً كان يروم أن يورث قومه الاحتلال؟
وقالت وهي تتقدم خطوتين مدفوعة إلى المختلفين معها بانفعال :
- إن الطريق إلى جهنم مفروش بأحسن النوايا.. وليحسن المرء التقدير إذا هو ذو زعامة أو رأي، وإلا فتصرفات بلا عواقب،.. ولو تهافت الخلق أجمعين على البطولة - على مثال روبن هود ونحوه - فمن ذا يبقى يقيم النظام؟ أم عساكم ترومون جميعاً الهتاف على الجانب الآخر من النهر؟
وامتعض الفريق الآخر لحديث المرأة وغصوا به، ولكنه ما لبث أن زالت دواعي المراء رويداً رويداً بطول المدة واستتباب الأمر، وغنت عفاف شيئاً للطلاب مما كانت تغنيه في المقاهي، من أغنية كليوباترا :
يا ضفاف النيل بالله ويا خضر الروابي..
هل رأيتنّ على النهر فتى غضَّ الإهابِ؟
أسمرَ الجبهةِ كالخمرةِ فى النور المُذابِ؟
سابحاً فى زورقٍ من صنعِ أحلامِ الشبابِ..
إن يكن مرَّ وحيّا من بعيدٍ أو قريبٍ فصفيهِ..
وأعيدي وصفهُ فهو حبيبي..
وتمادى الطلاب مدفوعين بحماسة المراهقة في تصوراتهم، وصفت الأجواء من شحناء الخصام فانداحت أطياف السلام كالملائكة، وأقبل المغيب فجعل يوسف يودع الطلبة واحداً بعد آخر، وقال بعد أن فرغ من السلام فأخرج بعضاً مما في قعبته من النقود كان قد جمعها منهم :
- إنها أموالكم، حري بها أن ترد إليكم، وفي الحق فلم أضحكم اليوم..
واستنكف الطلبة عن أن يأخذوا ما فيها قائلين :
- إن عملاً قمت به اليوم (يريدون إيواءه لهم في بيته) لهو خير من مجرد الإضحاك.
ومنذاك اليوم وما تلاه بات يوسف شغوفاً بالشأن العام وأحوال السياسة، لقد أرتأى الشاب أن بوسعه أن يقدم مزيداً بعد أن ملأه ثناء الطلاب فخاراً من نوع خاص، ووعى معنى غائباً بعد أن خاض مخاض التجربة، كان يجالس الزجالين ويستمع إلى شعراء الربابة في المقاهي البلدية المنتشرة في حي الأنفوشي وفي رأس التين، وما عتم يتردد على المكتبة البلدية بشارع أبي الدرداء، وأوعز إليه شعوره المتولد بأن يقرأ عن سيرة بيرم التونسي والقوصي وعثمان جلال وعبد الله النديم،.. وقد أخلصت عفاف في صده خشية العاقبة صدوداً لم يجره على العدول عن مذهبه الجديد.. وكان يتفق أن يقصد إلى تظاهرة فيسأل من فيها وقتما يأمنون :
- وكم عيداً نحتفل بهم اليوم ؟!
فيجيبه نفر من الجالسين على الطوار، مشيراً بإصبعيه إلى ما يشبه علامة النصر يقصد الرقم 2 :
- عيدان : عيد الفطر، وعيد الوحدة القومية !
ويجيب في جدية مفرطة :
- أخطأت.. لقد أعلن النحاس باشا أنها أعياد ثلاثة : عيد الفطر، وعيد الوحدة القومية، (ثم بعد صمت يصل بالاهتمام إلى ذروته..) وعيد الجلوس الملكي، وقد وفقت التراتيب بينهم جميعاً في عين الميقات !
ثم في انفعال يشابه انفعال النحاس في ختام خطابه الأخير في النادي السعدي حين تفوه بالعبارات ذاتها :
يحيا فاروق ملك مصر..
يحيا فاروق منقذ البلاد..
يحيا فاروق ملك الوادي..
وكان الأمر - واقعة إلقاء النحاس باشا لخطبته الممجدة للملك - مثار تفكه السامعين، الجالسين أمام الشاب وغير الجالسين، مثلما كان مثار تفكه صحف الأحزاب المؤتلفة بعد الانتخابات الجديدة، وعاد يوسف في مساء يومه منهكاً ومشغول اللب، فقالت عفاف :
- أبشر،.. لقد وجدت عملاً لك بمقهى عبد الكريم، وقد أقنعت صاحبه بالأمر !
وانفرجت أسارير الشاب انفراجاً عظيماً، وعانق امرأته بعد أن عانق أحلاماً وردية ساورت خياله المنشرح بأفانين المسرة، ولكنها عادت تقول كأنها تشير إلى حاشية الأمر :
- ولكن صاحبه اشترط عليَّ أن تتحاشى السياسة وموضوعاتها !
وتلون يوسف بعجب، فقال كمن يسقط من طابق عالِ إلى أديم الأرض :
- إن هذا مستحيل ! وما مبرره؟
- أحياناً يتفق أن يحل الملك ضيفاً على المقهى في مرات نزوله بمحطة قطار سيدي جابر،.. كيف تتصور مصير صاحب المقهى إذا ما سمع فيه الملك أو نفر من العاملين بديوانه سخرية تنال منه أو تتعرض له؟
وتأفف يوسف، قال بينما تنسحب الابتسامة من وجهه تدريجياً متهالكاً على سريره :
- أعتقدت لوهلة أن القدر بات يبتسم لي ولكنه، ومن حيث يبدو لي الآن، عبوس شحيح اليد،.. فلنبحث عن مقهى آخر ! (ثم تنتقل نقمته على المدينة بأسرها فيقول..) ماذا كان يفكر الإسكندر حين أقام مدينة بين بحر وبحيرة، بعيداً من مجرى النيل؟! إلهي ! إنها حماقة لا يضاهيها إلا قراره بالتوغل في متاهات الهند، وقد بدأ منها كل شيء.
وقالت وهي تبصر الفوضى تعم حجرتهما :
- إنما أمرك كالذي يريد أن يغير العالم، وكان أولى به أن يهتم بتغيير محيط حجرته ! لقد استمهدت الراحة وتوسدتها والسماء لا تمطر ذهباً.
في الحجرة التي تجمع الرجل وزوجه تثور النقاشات حول المسألة المتأرجحة، يهدد يوسف بأن يرمي زوجه بالمشط كعهده المنصرم ويعود يذكرها بالحقيقة :"الناس لا يحبون من يذكرهم بالواجبات.."، وتذكر له عفاف شيئاً عن المصلحة الذاتية ومستقبل أطفال استأخر سوء الحال مجيئهم بينما تتلقف منه المشط، وينقلب الحال من الرفض التام إلى قبول مضطر كـليل استحال صبحاً، يتولد السمر مع تبادل إلقاء الوسائد كالمعركة البيتية، وينقشع غبار الأحزان في سرور مغلف باستسلام الطرفين،.. هل أضحى يضحك الاثنان من نفسيهما ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق