استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/09/30

نافورة بختشي سراي !

                        الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !






كان عز يتابع عرضاً للباليه تؤديه صديقته نور بعينين ملؤهما الرضاء، وقال لها حين انتهت منه وهما يمضيان في سبيل مظلم :

- كأن روحك محلقة على أطراف أصابعك ! وما اسم العرض؟!

- نافورة بختشي سراي  !

وبدا اسماً غريباً على مسامعه فقال :

- إنه رائع مهما يكن اسمه !

وتساءل في لحظة نأى بها شعوره عن الإعجاب بما قد رأى :

- هل تملكين رفاهية الانضمام إلى مثل هذه العروض؟!

وقالت على حين كان ثمة رجل يتبع مسيرهما فيما يشبه التخفي :

- لا أعرف، رأيتهن (تريد راقصات الباليه) يوماً في الصالة يرقصن في صفاء، يرفعن أيديهن ورؤسهن في شمم، كم كن بارعات الجمال ملائكيات الشعور !  وشعرت بأن هذا ما يجدر بي القيام به، نقلني الشغف من موقع المشاهد إلى المشارك في طرفة عين، أعرف أن رؤية الناس هنا لهذا الفن يشوبها كثير من الارتياب، إنه ابن أعوام عشرة في مصر، غير أن البهجة التي يصنعها تغطي على مآخذ الجميع عليه !

وقال وهو يأخذ يستدير إلى سبيل آخر، مظلم :

- سأتعلمه وسنرقص سوياً..

- سينكسر ساقك قبل هذا..

وقال في سخرية، وهو يربت على ساقه الذي تعرض لحادث المعمورة :

- لن ينكسر، إذ هو منكسر فعلاً.

كانت مشية الرجل المتعقب قد بدأت تسترعي انتباه عز بعد اسدارته إلى السبيل الثاني، همس بدوره في أذن الفتاة :"ثمة من يتعقبنا.."، وأشار إلى سبيل جانبي لهما يقول :

- فلتمضِ من هذا السبيل..

فلما مضت وغابت التفت إلى الرجل، كان خيال المواجهة يعذبه، ولما كان يود من صميم نفسه الابتعاد عنه فقد أغمض عينيه، ثم عاد يستجمع قواه، يمشي قلقاً، ثم يبادر هذا المتعقب إلى السؤال :

- ماذا تريد؟!

كانت الظلمة تخفي جل معالم الرجل المتعقب، ولكن رأسه استوت في موضع حجب عن عز قمر هذا المساء الذي كان بدراً كمرآة هائلة بعيدة ومعلقة، بدا من الرجل المتعقب الحاجبان الغلاظ والشارب السميك المفتول، وما أسرع ما اهتدى عز إلى هويته، إنه نفر من الصعايدة من أقارب الفتاة، وهدأت نفسه بعض هدوء، وصبر على ما قد أحاط به، وبادره الرجل الصعيدي يقول :

- لن نتركها نهباً لحياة لا نعرفها، مع غريب !

وقال عز :

- الغرباء حقاً من تهرب منهم الفتاة..

- إننا صعايدة، دماؤنا حارة، ولا يمس منا شرفنا.

وأجابه عز في صوت تردد كالأصداء في الأفق الخالي :

- لستم صعايدة أبداً، لستم كذلك ولو استطالت شواربكم ولبستم العمم، طُردتم من الإسكندرية، أنتم أبناء هذه الأرض، وستعودون إليها يوماً، سأبذل أقصى طاقتي في سبيل هذا المرام !

وأجابه الرجل :

- انظر إلى نفسك، تقول بأن بمقدورك أن تعيدنا إلى المدينة التي نبذتنا، كيف يتأتي لمثلك على قلة حيلته أن يقدر على هذا المنال؟

وفارقه عز بخطوة أو اثنتين، فكان القمر يشيع من قسماته المنتظمة الحادة معاني الأنفة والنبل، فارقه يقول :

- مهما يكن من رأيك فيّ، فلا أتمنى أن أراك تطاردني مجدداً.

وقال الرجل :

- لن تراني إذ أنني قد اكتفيت بما قد عرفت، سأعود أقص على الأهل حقيقة الفتاة العاصية.

والتفت عز إلى الرجل لما أحس ما في قوله من مساس بالكرامة، وكان عند مفرق الطرق الذي مضت فيه نور قبل قليل يقول :

- الحقيقة على غير هذا، يمتلأ رأسك بالتُرهات الفارغة..

 

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات


جنوة..

انتقل الشابان (نعيم ومريم) من البندقية إلى جنوة في فترة شهر العسل التي أريد لها أن تكون نزهة رائقة في مدن إيطالية كثر، كان نعيم يسير رفقة مريم في ساحة دي فيراري بجنوة، وسرعان ما تفرع بهما المسير منها إلى إحدى الشوارع الرئيسة، كان الشابان يتحدثان بلغة عربية استوقفت أحد العابرين الذي علق بالإيطالية تعليقاً أثار غضبة نعيم،  وسألته مريم في لهفة حين أبصرت أثر ما جدّ في نفسه من شعور :

- ماذا قال؟

- ....

وأمسك الشاب الثائر بقميص الرجل المعلق فلكمه لكمة قوية أسفل عينه، وسرعان ما أحاط به الجمع، ما خلا منفذاً واحداً، فعدا هارباً منه رفقة الفتاة، ولاذا بموضع يتحدثان فيه، وهناك سألته الفتاة سؤالها الأول :

- وماذا حدث كي تثور هذه الثورة العارمة؟

وقال نعيم يجفف وجهه المتصبب عرقاً بكم معطفه :

- لقد أهاننا السفيه ذو الجبلة الخرعة، قال بأننا عرب بدو لا نجيد الحرب.

ولم يبدُ أن مريم قد قنعت بما سمعت سبباً كافياً لما بدر من صاحبها، فقالت :

- إلهي ! لماذا لم تمررها؟ كلمة واحدة بمقدورها أن تطويك، وحديث إطراء يبسط أشرعك ؟!

وقال :

- كلمة هي الإهانة عينها.

وساد صمت شبيه بما تستشعره المسامع بعد طلقة مدفع، وسيادة الصمت الذي تستريح فيه طبلة الأذن في أعقاب زلزلته، وقالت :

- كنت دوني تحمساً لمسألة الأرض والانتماء القومي، حدثتني عن الوطنية بإنكار وارتياب لا ينسجم وانفعالك هذا.

وقال :

- الذبابة الطنانة المزعجة لحظة تدور حولك، ثم تقف لدى أنفك، هل تعرفين لحظة ينتهي معها تسامحك كأنها لحظة القتل؟ حين ينفرط نظامك القيمي فتحس الوجود مزحة سخيفة لا يصح معها التسامح، هناك ترين تسامحك تفريطاً وتهاوناً.. هناك تمسكين بالمنشة فتقدمين على ضرب المخلوق المزعج ضربة ترطبين بها لهيب أعماقك، ضربة العدالة والانتقام، يفزع لها ميزان العدالة - إذا حق له أن يفزع - ولكنه يعود ينتظم ويستوي، هذا ما شعرت به عند سماعي لحديث الرجل.

وقالت وهي تحرك رأسها يمنة ويسرى في غير اقتناع :

- إن رجلاً ولو كان أبلهاً، أحمق، ليس بذبابة !

وقال :

- إذا خُيرت بين الاثنين سألتمس العذر لحشرة بلا وعي..

وانفتحت خزائن السماء فهبط المطر خفيفاً، ثم أخذ يشتد، بين أيلول/سبتمبر وتشرين الثاني/ نوفمبر يبلغ المطر في جنوة أقصاه، وامتزج العرق بالمطر على صفحة الوجه المشحون بالانفعال، وجه نعيم الذي دبت فيه حيوية حمراء لدى الوجنتين، يقول :

- تقولين هذا لأنك لا تعرفين الإيطالية ولم تفقهي حديثه الشائن.

- كلا، تعلمت الإيطالية من أمي.

- ألم تسمعي قوله وتجرأه؟

- فلتعرف فضيلة الصفح كيلا تقصف عمرك وتستهلك طاقتك.. ثم لماذا تنكر عليه قولته؟ إنها حقيقة، كان أداؤنا في الحرب هزيلاً.

وقال في حين بدا شعره أكثر نعومة بتأثير المياه :

- أداء هزيل، ولكنه غير مستحق للسخرية أو التطاول، لسنا بدواً، إننا فراعنة أمجاد، باقين على الدهر بمباني الخلود.

- تتحدث حديث الوطنية مجدداً الذي كنت تنكره..

- استفزتني استهانته بي وبنا..

كانت مريم ترقب حجارة الأرض تتبلل بأمطار السماء التي أرْهَجتِ، تخرج الحشرة من مخبأها في اضطراب يرثى له، ولكن الحجارة تهتز والحشرة يشتد بها هاتف البقاء، وسمعت نعيماً يقول بعد أن ألقى على نهاية الأفق نظرة فكشفت عن تجهمر آدميين :

- إنهم يبحثون عنا، يبحثون عن العربي الذي تهجّم على الإيطالي في مدينته..

وهرع الشابان إلى بعيد من جديد، فتشعب مسارهما في شوارع الحاضرة البحرية على نحو نجيا بعده، وغاب الدليل إليهما، بعد أن هدأت العاصفة، استقر عزمهما على ترك المدينة والعودة إلى الإسكندرية، تبدد حلم شهر الزواج الأول، حلم التجوال والتنزه في المدن الإيطالية، خصص طه للعروسين فيلا الإسكندرية بلوران سكناً لهما، وبارك إقامتهما هناك.

 

ومنذ ذلك اليوم وبعده تغير انطباع نعيم عن مفهوم الأرض من الفتور إلى الحماسة، ومن الارتياب إلى التدبر، لشد ما أحس بمصريته حين ضغط الأجنبي على جرحه الذي لم يلتئم، وكَلْمُه الذي لم يُداوى، بات متابعاً حريصاً لأيام حرب الاستنزاف (حرب الألف يوم)، لقد نزع إلى القراءة الجادة الحريصة في الموضوعات العلمية، ونبذ أوهام الشعر وتهاويل الخيال، وارتقى إلى السلام النفساني وقت إطلاعه على مبادئ العلوم الطبيعية، وصح تسميته بالمثقف العلمي، كان يصدر عن المعنى الذي يقول بأن الحقيقة مرتكز صلد يخلّص صاحبه من المحنة ومن المعاناة، من تَجرَّع قساوتها لا يسقط - إن وقع سقوطه - من عل الأوهام أبداً، وهل من دليل أوثق فوق يونيو 1967م؟ وسمعته مريم يقول: "بعض الخلق ينهزمون فيضلون، وآخرون يخفقون فيسترشدون.."، لقد عاد إلى الماضي في رحلة بحث واستقصاء، وهناك انكشفت له الحقيقة المصرية المطمورة في رداء القومية الوسيع، وآثر انحيازاً إلى الحضارة الأم على العباءة التي تسع كل شيء، وفي خضم ذلك رزق بطفله الأول وجاء لزوجه المخاض، فلم يتردد عن تسمية الوليد بـ "عارف"، ورضي بزواجه كل الرضاء فكان يصف سعادته بسعادة المتزوج ببلقيس (ملكة سبأ) وبدر البدور وصفاً فيه من التندر والمبالغة مثل ما فيه من الحقيقة والإقرار، لقد رأى في عشرتها إذاً راحة وروْحاً،.. وكانت مريم تنظف التمثال الرخامي، فترطب الإسفنجة وتمسح بها الأرضية الرخامية، حين تولى عنها الأمر يقول في مداعبة :

- تهتمين بالتمثال فوق اهتمامك بعارف..

وقالت وهي تجلس على كرسي الحديقة :

- لولا التمثال ما كان عارف،.. تركت الطفل وأنت تسرد له جزءاً من حكاية الفلاح الفصيح، إنه لمشهد هزلي إذ أن الطفل لا يفقه شيئاً من حديثك..

وقال في حين يجفف الرخام باستخدام منشفة ناعمة ونظيفة :

- سينشأ فرعوناً خالصاً،.. سأتلو عليه جزءاً من كتاب الموتى أيضاً !

وفزعت الأم مما سمعت، فأنشأت تهرع إليه حين ترك التمثال نصف مبلل وعاد إلى حجرة الطفل، فلما بلغته ألفت الشاب جالساً قبالة الطفل النائم يمسح على رأسه، ويبسط عليه دثاراً. 


 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية   

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا 

 

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق