كان سروراً رائقاً قد انتاب الأسرة حين وضعت صابرين وليدها الثاني، ووقف هشام عزمي في حجرة المشفى التي اكتظت بحاضريها يتفقد الرضيع بعينين راضيتين، وقال مأخوذاً كالذي أصاب هدفاً طال انتظاره:
- ولد.. إنه ولد !
تشفق صابرين على مريم حين ترى حفاوة الأب بالابن، ويقول بهاء الدين :
- ولماذا لا نسميه عز الدين تحية لمن رحل؟
يشتاط الزوج ويتذمر، يقول :
- إنه اسم قديم.. قديم جداً.. كأنما اُقتبس من زمن آخر، وسوف نصير إلى عصر تستهجن فيه الأذن الاسم المركب.
ويقول بهاء الدين وهو يمسك بخد المولود في رفق، ثم يستشعر عظام رأسه اللين في رفق مماثل :
- حسناً،.. فلنسميه عزاً !
ويعود تستأثر بالزوج حمى الغضب، ويتولاه الازدراء، يفكر في هذه الظروف التي جعلت من بهاء الدين صهراً له، ويهم بالانصراف عن الاجتماع بينما تقول صابرين في ارتياب :
- إن أنفه أكبر من اللازم !
ويقول الأب في يقين متجذر :
- وسوف يصغر أنفه حين تستوي باقي ملامحه !
وسألت المرأة بعلها وهو يعبر عتبة الباب عن وجهته، فأجاب :
- ما أحوجني إلى التمشية قليلاً بعد شقاء اليوم !
ولم تكن التمشية مرامه وإنما قصد إلى مقهى الفنانين، فجلس حتى استوى في الجلوس، وثمل حتى استغرق في الثمول، وجال ناظريه في نسوة المكان فأخجله أن يسارع لنفسه في هواها في يوم ولادة ابنه وخفض هامته مجللاً بشعور ما، لقد جعل الرجل يسرف في شرابه عله يفقد اتصاله الباقي إلى وعيه، هذا الذي يقوضه ويمسك بتلابيبه، إنه لم يصرح لنفسه كثيراً برغبته هذه لأن تصريحه بالأمر ليس إلا وعياً يريد الخلاص منه، وأتبع كأساً بعد كأس ولكن هيهات أن ينفرط العقد،.. ثمة قوة تشده شداً كأنه الخجل أو الحياء أو منزلة بين الاثنين فتبقي شعرة معاوية، إن نقمته على بهاء الدين تحبب إليه الأمر وتزينه وقد وضع الرجل في مرتبة من استجلاب الضرر تناهز أو تجاوز مرتبة الخواجة رجب،.. ولكن ماذا عن صابرين؟ إن ولاءها له غير مشكوك فيه ولا منقوص، وقد يصح أن يعدها نسيجاً وحدها غير نسيج أبيها، وشرب رشفة فرأى في الكأس خيالها فأضنته الخيانة ومذاقها المر.. وكان يشاهد عرض الحواتية والمنشدين فاقتربت منه امرأة تحمل صورة مصرية مترفعة، إنها تحدثه فيفيق من تردده :
- عذراً.. ولكن.. مالي أراك في انشغال؟ والأصل في الجلوس هنا هو السمر لا التفكر!
وقال وهو ينظر إلى المنصة في فتور بادِ :
- إن عرض المنصة الخشبية أخفق في أن يجذبني إليه إخفاقاً حملنى على التفكر في غيره، فعدت أتأمل ما بنفسي من شجون.
وقالت المرأة كأنما سُرت بأن يفتح لها الرجل باب الحديث :
- لا عجب أن تسوء أحوال المقهى ما دام أمسى يُصيّر أحواله ثلة من الغرباء عنه، تشارلي ومن معه، ما أشبه حاله ببلادنا يوم انهزمت في الحرب الأخيرة ! كانت الحرب رسالة تتخفى وراء نكبة إلى الملك كيما يفيق، ولكنه لم يستجب لها استجابة تليق بمغزاها، لعلها تكون مسسماراً أخيراً في نعش الملكية المصرية ! هل سمعت من يقول عنه (فاروق) أنه عربيد لا يتصل وعيه بالحقيقة إلا في أوقات يفرغ فيها من أوهام الثمول؟ وكم من محظية له وعاشقة؟ كاميليا أو غيرها؟ لا ريب أنك سمعت مثل هذا الحديث،.. وحين تكثر الأدخنة يسرف الناس - عدلاً أو ظلماً - في تصور لهائب النيران الكامنة، وما تكرر تقرر، لقد مزقت النساء سمعة الملك إذاً، والمستقبل العالمي جد غائم هائم لعل الغلبة فيه تكون لأمريكا التي سترث سلطان الأسد العجوز (تريد بريطانيا)،.. إنهم يقولون ويقولون، والرجل - في صمته - يؤكد ما يلوكونه ! وسوف نظل نؤيده - نحن الأحرار الدستوريين - داعمين العرش إلى أبد الآبدين،.. إن الملك قمة الطبقة وهرم النظام، وإذا ما انهار ضاعت مظلة الأمان !
وقال الرجل وهو يتذكر نفسه حين جاء إلى المقهى ففعل ما فعل، بعد ميلاد نجله، بينما يضرب بكأس فارغة كان قد قرعها على الطاولة الملأى بأمثالها من الكؤوس :
- أجل،.. إن علينا أن نلتمس المعاذير للحكام مثلما يتفق أن نهون من آثام نقترفها في مرات، لقد وفقوا في بلوغ أسمى مراتب الهرم الاجتماعي ولكنهم ليسوا آلهة أو ملائكة منزهين !
وقالت في سرور :
- من عجب أن يجد المرء، وفي هذه الظروف، من يلتمس الأعذار لحاكم أو ذي سلطة في المملكة المصرية !
وسألها، بعد أن عدمت الحاجة إلى النقاش حين اتفاقهما في الرأي :
- أعذريني.. وما قصتك؟
وقالت وهي تضع يمناها على طاولة الأبنوس :
- جئت إلى هنا بعد أن خسرت زوجي،.. ولتنادني بسوسن !
وسألها :
- هلا أمكنني أن أعرف سبب الانفصال؟
وتنهدت المرأة وهي تنظر إلى الحاوي يروض ثعباناً، فيرتعد الحضور :
- يعتقد بعض الرجال أنهم امتلكوا المرأة بمجرد زواجهم بها، كان عبد الحميد من هذا الصنف المر، أراد أن يفرض عليَّ قناعاته فلم يكن إلا تجسيداً قبيحاً لشخصية المتسلط التي تضج بها المرأة الحرة في عالم اليوم، لقد كان يروم أن يجعلني أسيرة شرنقته وقد تقطعت بيننا الأسباب حين أعلنت رغبتي في التمرد، كان رجلاً عتيق الفكر.. لم يعد القلب يخفق بالحب بيننا فلا عاد بالإمكان إرجاع الأمر إلى ما كان عليه، ولتسمح لي بأن أسهب هنا بعض إسهاب : إن كل عضو لا يقوم بوظيفته لا يلبث أن يعجز عن القيام بها من فوره، كعيون الأسماك التي تعيش في أَهْوَار الكهوف فتَهْزُل مع الزمن ولا يلبث أن يصبح هذا الهزال وراثيًّا في نهاية المطاف، إن الخلية الدماغية التي لا تُمارس تقف، خليق بأن ينسحب هذا على الأمور المعنوية والصفات الخلقية.. يحتاج القلب - بالمثل - إلى تمرن كي يستشعر دفء آخر ويمتلئ نحوه بود،.. هكذا يقول الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون !
وحاول هشام عزمي أن يخفف من وطأة حزن لمسه في عينيها، فقال في مجاملة :
- لا بأس،.. تبدين امرأة لم تتزوج قط..
وسألته وهي تبدي فزعاً من الثعبان تجلى في انكماش عينيها الضيقتين :
- وأنت.. ما مشكلتك؟
- إنه حماي بهاء الدين،.. يفتقد للحس السليم حتى أن بوسعه أن يخرّب مئة بيت !
وشاعت الظلمة فوجد الرجل نفسه مجبراً على الانصراف، وأشار إلى كرسيه قائلاً :
- غداً، وفي نفس الموعد..
ونهضت سوسن تبدي استجابة للقول الأخير فيهتز لها حلق أذنيها ذو شكل الهلال، وعاد الرجل إلى بيته فاستقبتله صابرين تقول :
- ألا تستحق مريم أن تذهب بها إلى الشاطئ الذي تلح على ارتياده؟
وقال :
- كنت أحسبك تحتاجين إلى وقت راحة بعد عناء الولادة !
- هل تكره مريم؟ أليست ابنتك وتحمل اسمك شأنها شأن الولد ؟!
وتأفف الرجل وكان يعقد في خاطره المقارنة الصامتة بينها وبين سوسن، فقال وهو يغطي وجهه باللحاف :
- وسوف نقصد إلى شاطئ كامب شيزار متى تستوفين فترة النقاهة..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
يجلس الأب رفقة ابنته على الشاطئ فلا يغطي جسده إلا بنطال قصير يمتد إلى الركبة، أو يكاد، ترتسم عليه شكول النجوم، تنعم الأسرة بخلاء الشاطئ في زمانه الغابر رفقة نفر من الجاليات الأجنبية، وتجلل المشهد العائلي حمرة الغسق القرمزية في حيويتها الرائقة، يبني الأب قلعة رملية - أمام العقارات اليونانية - فتهدمها الأمواج، تعيد مريم الكرة ولكنها تقف في وجه الموج على صغرها كي تحجب عن قلعتها تياره، لقد أعجبت الصغيرة - إلى هذا - بالصدف وكيف ينحت الماء المالح أجزاءً من زجاجات فيصيرها إلى ما يشبه الحجر الكريم، وتقول صابرين :
- هل تسأل عن الحصان؟
- أي حصان تقصدين؟!
وكانت صابرين تمسك بصغيرها على يديها، فقالت بعد أن تهدهده :
- الحصان الضخم !
- أنتِ امرأة مجنونة..
وغمغم يقصدها وهو يشتري غزل بنات لمريم من البائعين الجوالين :"أهذا هذيان الجوع؟"، وأظلم مساء اليوم والبحر المتوسط بين مد وجذر، وتذكر موعد الأمس فوقف - كالمصعوق بعد غفلة - منتبهاً، إنه يختلق الأسباب كي تتهيأ له الفرصة للقاء سوسن، ويعزو توتره الطارئ إلى أعمال تنتظره بالمصبنة، يقصد الرجل إلى ملاذه الموعود بعد أن يتهرب من زوجه، ويجلس إلى عين الكرسي وأمام نفس طاولة الأبنوس يرقب عرض الحواتية ولكن سوسن لا تجيء، يفكر : "ليست حياتي إلا سلسلة من الخيبات،.. وليقتل الثعبان كل من في المقهى (إلاه) بعد أن يعصي أمر الحاوي.."، يأتيه النادل بعد فترة ومعه ورقة فيقرأ ما فيها على ركاكة الخط المدون :"جئت في الموعد المحدد ولكنني لم أجدك.. انتظرك غداً.. الطاولة رقم 40.. سوسن !"، ويخفض رأسه في غضب، ما أتعس الأسرة وكامب شيزار ومريم وصابرين ! تواطئوا جميعاً في تفاهة على الحيلولة بينه وبين مقصده، ثم ما يلبث يعود إلى بيته خالي الوفاض، ولم يجد زوجه في أي مكان.. إلى أين تهرب منه النساء؟ وسأل مريم عن أمها فأجابت في صوت بريء لا يعي العواقب :
- لقد قصدت ماما إلى قسم الطوبجية كي تطمئن إلى سلامة الحصان، وأعدت لكَ مائدة العشاء في حال عدت قبل الأوان !
وجلس الرجل إلى المائدة وحيداً يغرس شوكته في صحن العدس والبيض، بينما يطول ظله على حائط البيت بفعل تأثير الشموع، وفي موقع آخر،.. كانت صابرين تطلع إلى صورة الحصان النائم فوق قشر الأرز - بعد أن سُمح لها برؤيته - فتقول لمأمور السجن :
- يبدو غير مرتاحاً في منامه !
- يحتاج إلى قش أو نشارة خشب، وقد استخدمنا في النقطة قشر الأرز اقتصاداً للنفقات !
واقتربت منه أكثر - بعد أن أُذن لها - فعبرت من فتحة في سياج من الخشب المُجلَّس يربو على المتر، كان الحصان منهكاً ومعتلاً، وقد أورثته حالته هذه سكوناً وتهالكاً على الأرض، واقتربت من العلف المخزن يُوضع له فيستنكف عن أن يأكله، إنه يود إذا أكل منه - لو أن في معدة الخيل عضلات - أن يتقيأه، إنه - علاوة على كل ما تقدم - مربوط بالحبال كالسجين يصفد بأغلال، ومسحت على غرته التي بقت بيضاء رغم كل شيء، وقالت في نفسها كأنها لتحدثه :"لقد ألزمتني السهاد والأرق طوال الأيام الفائتة، أيهذا الحيوان.. آه.. إن في عينيك سراً لا يخفى، واضحاً كالشمس.."، وصاحت في المأمور :
- فلتفكوا وصاده.. سوف أتكفل برعايته !
وأطاع المأمور أمرها - بعد أن تشاور مع رئيسه - فنهض الحصان يمضي والمرأة تتبعه، رغم ما ناله من وصب وإنهاك، واجتاز الجواد سور السجن فإذا به يعدو - كالذي تخلص مما كان يكبله - والمرأة من وراءه، كان قلب صابرين يخفق بالمجهول وقد نذرت حركتها لاقتفاء أثره، إنه (الحصان) يقف بغتة - كأنما يعمه في ضلالة أو يزيغ في تيه - لكنه لا يلبث أن يمضي واثقاً - كمن يتلقى الإلهام أو قبس منه - فتتبعه المرأة على تقلب أحواله، وبدا أن الحصان بلغ مبلغ بيت صاحبه النيجرو فوقف، ثم عرج إلى يمين العقار وهبط إلى سرداب تحت الأرض بعد أن أشار إليها أن أفتحي بابه، لقد تنبهت المرأة إلى وجود الباب حين جعل الحصان يحرك هذا الغبار الذي يخفي موقعه بحوافره فيثيره في حنايا الجو الليلي، ودلفا سوياً إلى الداخل،.. وابتلعت الظلمة صورته وكانت رائحة عطنة قد انبعثت في الأرجاء، واتبعت المرأة سيرها مسترشدة بالضخم - أو بما تبقى من صورته في عتمة السرداب - حتى لاح ضياء مصابيح متراقصة على الجنبين، وانتهى سعيها برؤية جثة الفتوة النيجرو فانتفضت في فزع، وحوقلت وهي تهبط إليه :
- لاحول ولا قوة إلا بالله..
كان الحصان المنهك يحني رأسه نحو صاحبه كأنها تحية الوداع، وغمغمت في حزن :
- اليوم عرفت رسالتك.. ولن تعود تأتيني كوابيسك !
واقتربت من النيجرو فجللها رؤيته وقد أسلم الروح، وكتمت انفعالها وتجشمت هول المصيبة الكامنة في جوف الأرض، بالغرفة الحجرية، وحاولت أن تجذب الحصان إلى الخارج بقولها :
- أنت هزيل سقيم، وتحتاج إلى الرعاية..
غير أن الحيوان تشبث ما وسعه بجثة صاحبه، وعدمت قدرتها من جر الفتوة، كان هواءً رطباً يأتيها من الخارج بعد أن فتحت باب السرداب المغلق، ومكثت إلى جوار الاثنين - الحصان وصاحبه - مدة حتى فارقت الوعي فغفت، وغفا الحصان بعدها - كدأبه - واقفاً، وأيقظتها بشائر الفجر التي تسللت في حياء فانتبهت إلى ما كان وفاض السرداب بجو صبيح، وقالت أول ما وعت محيطها :
- رباه.. لقد جئت بي إلى هنا، ولا ريب أن زوجي (هشام عزمي) في غضب الساعة من تأخري !
وتذكرت مريم والطفل الرضيع فوضعت يدها على ظهر الحصان تقول كالتي تستجيب لخاطر طريف، في غير مناسبة :
- فلتستيقظ.. يجب أن تصحبني إلى البيت بسرعتك الفائقة ! (ثم وهي تستدير إلى الجثة حين عدمت من استجابة) وسوف نجيء بمن يدفن جثة الفتوة الذي تحبه..
وألفت الضخم في حال من التسليم واللاحركة، خليق بأن ينذر بشيء، ووضعت يدها عليه فهوى من فوره كأنه الكيان الهش تذروه الرياح، وتسلمت الأرض جسده في حياد وغير استجابة، ولم تمض إلا ثوانٍ حتى صاحت المرأة وهي تخرج من السرداب في ذعر :
- وارحمتاه.. لقد مات الحصان الضخم !