الفصل الرابع والأربعون : همس الحب
قضى عز وقتاً في مشفى "السبع بنات" يعالج آثار سقوطه من دراجته بالمعمورة، أضرت الحادثة بخطته في تحسين بنيته الجسدية فضلاً عن تسببها في قصوره عن حضور حفلة مسرح الهمبرا، زارته أمه تريد أن تسري عنه وتشد على يده، تذكر له (صابرين) في جلستها حقيقة شارع السبع بنات وتاريخه، إنها تقص عليه طرفاً مما عايشته وسمعته من أبيها الراحل :
- كان يسكنه جاليات اليهود واليونانيين، الأسطورة تقول بأن السبب في التسمية يرجع إلى راهبات سبعة كن يقمن في دير يضئن فيه الشموع للعابرين، ولكنني لا أصدق القصة إذ هي أقرب - في ظني - إلى الاختلاق الشعبي الذي يعاف الصمت والإشهار بعدم المعرفة ويؤثر عليه التأويل منها إلى الحقيقة..
كان عز يتذكر طرفاً من أحوال المدينة التعددية، يوم كان طفلاً يلبس اللكلوك ويطالع الأجانب في حدود المسموح مما يأذن به الأبوان، ولكنه - مع ذاك - أبدى دهشة شبيهة بدهشة الآدمي يرى مخلوقاً فضائياً حين سماعه للفظتي :" اليهود واليونانين.."، وحتى لقد انفرجت شفتاه من العجب بعض انفراج، وتابعت الأم :
- أذكر أنه (أي شارع السبع بنات) كان مجمعاً للحانات، وطلاب الثمول، رأيت خالك يوسف يشرب في حانة القط الأسود الشهير صدفة، فيه، ولم يتركني يومئذٍ قبل أن أقسمت بألا أفشي سره لأبي.. كانت الدنيا غضة خضراء..
كان عز أشبه إلى المقيد أو المصفد بالأغلال بسبب شاشات أحاطت بمواضع الكسر عند الساق والضلوع حين كان وجه المرأة يكاد ينطق بالقول :"لله در هذه الأيام السوالف.."، والتفت إليها بعد أن فطن إلى التناقض بين حديثها الذي يستدعي وصف الماضي ويقرن مباهجه باللون الأخضر، وبين لون عباءتها السوداء ترتديها في حاضرها حزناً على زوجها :
- لماذا لا تزالين تتوشحين بالسواد؟ مرت فترة كافية من الحزن على أبي..
-...
ولم تجبه، كانت تود أن تقول :"يا وليتاه ! واحزناه ! رأيته في المنام بكفن أبيض كالثلج.."، ولكنها لم تشأ أن تضيف إلى ألمه عذابات نفسها، كان حبها له يضفي عليه صورة ملائكية منزهة لم تكن أبداً فيه فاستدعت وصفها الأخير ختاماً لسيرته،.. حضرت مريم، صديقة عز، ومعها هدية في صندوق صغير مبهرج الزينة، كانت أولى اللقاءات بين الفتاة والأم وقد رحبت بها صابرين ترحاباً تجلى في انفعالها، وسلامها الحار، ساد الصمت لثوانٍ، ولاحظت صابرين حرجاً تتسبب فيه بحضورها فنهضت عن اجتماع الاثنين، وانتظرت عز فترة حتى غاب ظل الأم، فقال هامساً :
- لماذا حضرت دون اتفاق؟ أمي تجهل أمرك..
ونظرت الفتاة إلى الباب وقالت :
- حضرت حفل الهبمرا وحدي، سمعت عبد الحليم يقول : "هاتف يهتف بي حذاري يا مسكين" فتذكرت واقعة سقوطك من دراجتك بالمعمورة، وافلتت مني ضحكة حين جعل يردد :"حذار يا مسكين.. حذار يا مسيكن.."، أكان يناديك؟
وقال وكان لا يزال يعاني ألماً، في مشاكسة :
- مزحة رائعة تشاطرينها مع أي شخص خلا هذا المتضرر (يريد نفسه.. ثم وعنياه تلمعان ببريق رابطة الهدية في شغف) ماذا يوجد بالداخل؟
ورفعت صندوق الهدية الذى بدا أخف من المعتاد :
- لا شيء، كان سبباً تذرعت به كيما أزورك، ليست لدي رفاهية الشراء منذ أقمت وحيدة وهاجرت أسرتي..
وقاطعها يقول :
- أعرف قصتك جيداً.. لا حاجة بك إلى تكرارها..
وهناك دلفت صابرين مجدداً، تقول :
- لماذا تهمسان إذا كنتما وحيدين بالحجرة؟!
وقال عز يداري خجلاً، في انفعال زائد :
- فلتنظري إلى هذه، هدية فارغة، وصندوق أجوف، إنها تمزح معي !
وقالت الأم فيما يشبه اللوم :
- فلتنظر إلى هذا المعنى من زاوية الاعتبار : بعض أكثر الأشياء زهواً وبريقاً فارغة من داخلها، وكأن الإسراف في العناية بهذا الشكل الخارجي إنما أريد به أن يعمي الأبصار عن جوهر لا يضيف، إنه لون من الخداع المريب يحفل به السذج، ويرضى عنه كسالى التفكير، نعيش زمناً مسطحاً، إن بعض ما فيه : شهرات زائفة، وجوه خادعة، أشخاص كاللصوص، باتت بنفسي رغبة قوية في الماضي..
وقال عز :
- الجميع يشتكون زمانهم - كأن التاريخ آهة متصلة - ثم يعودون يبكون أطلاله،.. ألا ترين المفارقة في هذا؟ لقد شكا الفيلسوف الفرعوني، والكاتب الفينيقي، وشكا سقراط، وديوجوين، وحتى الرواقيون، وأنتِ.. وكثيرون قبل أبي العلاء وبعده، وهو القائل : "كلُّ مَن لاقيتُ يَشكو دهرَه.. ليتَ شِعري هذه الدنيا لمَنْ؟!".
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
وقالت الأم :
- ليست الشكوى إلا ميزة إنسانية، ولولاها لرضي بما هو كائن من حياته البدائية الأولى في الغابات، والإنسان حيوان قلق يحاول أن يفوق ذاته.
وقال :
- لا أظن أنها (نور) كانت تقصد التعبير عن كل ذلك حين جاءت بالهدية الفارغة.
- حسبها أن تجيء فتزورك، وتعنى بأمرك في مشفى "الراهبات السبعة"..
وقال عز كأنما حدس بما لفت الانتباه :
- أحسب أن اسمه "السبع بنات"..
- تغيرت أشياء كثيرة ولم تعد بي طاقة لمجاراة العصر.
- تبدين غريبة الأطوار حين تستدعين مفردات الماضي في غير موضعها، وفي بداهة كالجدة.
- تبدو غريب الأطوار دائماً.
في موقع آخر..
تأخر عقد قران نعيم بمريم ريثما تنتهي الحرب، كان نعيم كثير الاسبتشار بمستقبل أيامه إذ جعل يقول في مطعم للمشويات قضيا فيه سهرة المساء :
- سنحتفل بالنصر الوطني والأسري معاً.
وكانت مريم تقول ساخرة من ثقته المبالغة بالمستقبل :
- سندق مزاهر العرس بعد أن ندق طبول الانتصار إذاً.
وكان طه - العائد من "جنوة" في زيارة عارضة - إلى رأي مريم أقرب فيلقي من لامية العجم بيتاً استدعاه مشوشاً :
- "وحسن ظنك بالأيام معجزة.. فظن شراً وكن منها على وجل.".
وأظل نعيماً شعور بالرضا والعطف السابغين فمكث ينتظر مرور الأيام القصار حالما يتحقق مراده، كان طه يجالس المخطوبين فيقلب صفحات التاريخ :
- كان إبراهيم باشا بن محمد علي شبيهاً بنابليون في التاريخ العالمي، فكلاهما لم يهزم في معركة قط، إنه نابليون الشرق..
وجعلت مريم تقول متأثرة بالدعاية السائدة السلبية تجاه الأسرة العلوية :
- لماذا تستدعي ذكرى هذه الأسرة اللعينة في هذا التوقيت الحرج؟وقال طه :
- الماضي لا يُلغى، مهما تملصنا منه، أو أسرفنا في نقده أو أمعنا في الإزراء به.
وقالت :
- الاستعلاء صفة تعامل الملوك مع الشعوب.
- التعميم هنا حكم خاطئ، أحب إبراهيم باشا المصريين مثلاً خلافاً لأبيه محمد علي، ولا يصاب كل أرستقراطي مترف بالسأم وفساد الأخلاق.
- لم نسترد الحقوق إلا بعد أن خلعنا عرش فاروق.
- أحدثنا اضطراباً جسيماً في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بتغييرات جذرية سيكون لها ما بعدها.
- نتطور على مسار الحضارة بخطوات واسعة وسريعة.
- تحتاج الحضارة إلى تفضيل زمني منخفض، لكي تشيد المبني الكبير شَيْدًا صحيحاً عليك أن تنتظر وقتاً طويلاً.
وأردف طه يقول :
- أحمس أيضاً صنع مجد مصر العسكري في العهد الفرعوني، الحرب تعبير قاسٍ عن بقاء الجماعة أو فنائها، ولهذا فإما أن تصنع أسطورة المنتصر فتحيي سيرته على أحقاب التاريخ، أو أن تكون خاسفة بالمهزوم فتهوي به إلى مهاوي الخسران.
وترددت العبارة الأخيرة تردداً مثيراً في الأسماع لما اشتملت عليه من تناقض عاصف، وتابع الأب يقول :
- يجب أن تكون الحرب خياراً أخيراً، عدت من "جنوة" حين شعرت بالقلق، قلت لنفسي، وتحت أسوأ الظروف : لننهزم سوياً خير من أن ننهزم فرادى، قوام الجماعات كالعنقود، وشعورهم كذلك متصل بحلقات من الحس المشترك، تنقبض النفس لرؤية الأنباء الأخيرة، أعتقد أن آزير (إله شهوة الدم والقتل الوحشي في الميثولجيا الإغريقية) - لو كان له وجود حقيقي - لكان سعيداً بما يحدث.
كان طه يرمي بحديث غير مناسب في أجواء الخِطبة والتعارف، ولكنه كان مصراً على عبثية الموقف، قلقاً حيال المستقبل، لعله القلق نفسه الذي دعاه إلى ترك الإسكندرية والسفر إلى "جنوة"، قبل أعوام، ثم ساقه، بعد أعوام أخر، إلى عودة اللهفة إلى المدينة الرخامية المهددة، كان ثمة بوناً اجتماعياً بين مريم من جهة وبين طه من جهة، يفرض اختلافاً في التفكير، وأما نعيم فكان موقفه بين بين إذ هو يرى في انتهاء الحرب انتهاء النصر والظفر فرصة - لن تواتيه في غيرها من احتمالات - لإكمال الزواج المنتظر، فيغلب عليه تفكير التمني من جانب، ومن جانب آخر فهو يميل إلى معسكر أبيه لانتمائه إلى عين الظروف الاجتماعية، وعلت الموسيقات فنهض المخطوبان يرقصان، قالت مريم لنعيم :
- يصدر أبوك في حديثه عن نقد للأوضاع الجارية من واقع سخاء أحواله، يتحدث ويده في ماء بارد.
- إنه وطني على أي حال، ولولا هذا ما عاد، وأنت؟ ألست ربيبة الجناح الفندقي.
- انتقلتُ إلى هناك بعد أن أبصرت ظواهر الفاقة في صغري بكرموز.
وقال :- أبي أيضاً ليس "حي بن يقظان"، كان أبوه متوسط الحال، ومات جده بداء السل..
وهاله أن نطق بكلمة "السل" في خضم ما يفرضه المكان من أجواء رومانسية فقال :
- إلهي ! انظري فيم نتحدث؟ يعتقد الرائي أننا نهمس بحديث الحب !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق