استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/01

حزمة من الذكريات

                         الفصل السادس : حزمة من الذكريات 




استعادت عفاف شهرتها المفقودة في باريس، نبذت المرأة لويس من حياتها منذ تواصل الرجل المفتتن بها في مطعم Bouillon Chartier تواصله الأخير، فحاول قصرها على حبه وطَرَدَه الأمن، وفطنت إلى مرامه الخافية فازدرته واحتقرته احتقار القطيعة، كانت تظهر في برنامج حواري في ثوب كحلي اللون قطيفي الملمس، له حزام قرمزي وأزرار عنابية، وتضع زهرة تزين عنقها أو ما دونه، تقول :

- "فجعت حين رأيت المقهى مفرغاً، وشعرت أن شيئاً من ذاتي أو هويتي قد فُقد، لا أبالغ حين أقول إن كراسي الخيزران تشابكت مع عالمي، وبهرتني الأضواء دائماً، ليس الأمر يسيراً أبداً، فماذا يبقى من المرء إلا جعجعة من الذكريات والفكر؟ إنني أقول مثلما يقول أصدقاؤي المسيحيون هنا من أتباع السلسال الإبراهيمي الذي أدين بآخر حلقاته : بأن الله محبة، وأي عقيدة أو مذهب يسد منافذ الجوانح والصدور براء منه..".

وكانت المذيعة تسألها :

- "وإلى أين تسير مصر في نظرك؟".

وتجيب وهي تمسك بحقيبتها الحمراء القانية كأنها المأخوذة بالأمر الجلل :

- الحق أن هذا سؤال يتكفل الغيب بالجواب عليه.. بعض الناس هنا يقولون بأننا لن نعود نحارب بعد الهزيمة القاسية التي تعرضنا لها منذ عامين، وأقول لكِ إن العقلية العربية لا تسير بهذه البساطة أو المباشرة، إذ هي - من حيث كونها عاطفية - تؤثر الفناء على الهوان، وعلى نحو قد يضر بالرؤية المتعقلة الستراتجية طويلة المدى..".

وتدخلت المذيعة تقول :

- "يقبل المهزوم بالتنازل والتسوية، فعلتها أمم عظيمة عظم اليابان وألمانيا،.. لماذا تعدون أنفسكم نشازاً عن العالم العاقل؟".

وقالت الأخرى :

- "إني أوفقك بشروط، الحرب حالة قلقة، وشأن الطبيعة أن تميل إلى التوازن، مثلما ينتقل تيار الكهرباء من الضغط العالي الى الضغط الأوطأ، الحرارة تفعل الأمر عينه، إنها حالة الاستقرار والسلام، وإنه معقد رجاء الجميع،.. لكن يجب أن يكون الأخير (السلام) لجميع الأطراف، وليس مفروضاً على طرف دون غيره، فيستحيل باباً لنزاع جديد..".

وعادت إلى البيت وفي نفسها سرور، كانت البيئة العالمية تنظر بعطف إلى الموقف العربي، عطف يشوبه السخرية اللاذعة في أحيان، وكانت تتوقع أن يثني يوسف على سدادة رأيها، ولكنه قال :

- تلك الوردة التي كانت تزين منك العنق، من أي مشتل قطفتها؟ إنها بلدية..

وقالت كأنما وعت مراده :

- ماذا أزعجك في الحوار؟

- كنت بهذه الصورة المتزينة نهباً لأنظار الرجال.. ثمة أمر آخر، تقولين بأن حرباً مفروضة علينا قبل السلام، وأقول : لم نحارب إذا نحن على هذه الدرجة من الخفة العقلية التي أبداها الشعب في الاعتداء على مباني الفن؟ ألا يؤول مصيرنا إلى هزيمة أخرى؟

وقالت :

- ويحك ! لقد تغيرت كثيراً  : من ثورة ضد الملك إلى القبول بالسلام المذل.

وقال وكان لون رمادي قد بدأ يغزو شعره :

- عله تأثير الشيب، ولا أزيد على هذا القول :  أعقل الطرق أسلمها، إذا كسرت لكَ ساق أو يد في حادث فخير لك أن تنظر إلى ساقك السليم..

وقالت :

- المشكل أن أعضاءنا جميعاً قد كُسرت.

وتركت المرأة زوجها فدلفت إلى حجرة زهير، كان الفتى الذي بلغ السابعة عشر واقفاً أمام اللوح الخشبي المائل يرسم لوحته، المكان فوضى عارمة، ومسح عينيه المرهقتين المرهفتين، فيما أمسكت بكتفه تقول :

- "ما أجملها !".

وقال يبدي شيئاً من خيبة الرجاء :

- "ترينها جميلة من حيث تنظرين لها بعين الأمومة، مهما رسمت فلن أرسم خيراً من لوحة الفنار والبرج، إنه شعور يروادني دائماً..".

وقالت :

- "الخطأ خطئي، أهديتها إلى الرجل الأسمر (تريد لويس) في لحظة فقدت فيها البوصلة الصحيحة..".

وبغتة أسرعت في حماسة إلى ناحية من نواحي الغرفة العامرة بشكول الرسومات التجريدية، تقول فيما تنتقل من موقع إلى آخر :

- هذه أشبه بلوحات جاكسون بولوك، وتلك قريبة إلى فن خوان ميرو، والثالثة تبدو لماكس لإرنست..

وقال زهير في حين يتواتر على سمعه أسماء أساتذة الفن التجريدي :

- ألا ترين بعض المبالغة في وصفك؟!

وقالت الأم مزهوة كأنما لم تستمع لحديثه :

- وأما هذه فإلى فن فاسيلي كاندينسكي أقرب.

وحنى زهير رأسه في خفر (حياء) يطوي هزة البهجة والاستبشار، وقال أشبه بمن يناجي نفسه :"أحب فاسيلي كاندينسكي حقاً.. إنه أسطورة القرن العشرين.. وأطمح إلى شيء مما قد حازه من مجد عالمي.."، وهناك دلف يوسف إلى حجرة الاثنين، قال وهو يلحظ اضطراب الحجرة :

- تحدثون ضجة عارمة، وكأنكم الأطفال في روضة !

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وقالت عفاف :

- أطفال ؟! أجل ! أطفال، بداخل كل فنان طفل صغير يرى الأشياء المألوفة والمكررة رؤية النظرة الأولى، فلتنظر إلينا : رسام تجريدي، وعارضة أزياء، وأنتَ أيضاً فنان على نحو ما، مونولجست، إننا أسرة من الأطفال الفنانين!

وتقدم يوسف وسط محيط من الأوراق المبعثرة والألوان المتناثرة، التي كانت تلطخ بدورها أرضية الحجرة وجدرانها، وطفق يتقيها في حرص لئلا توسخ قدميه العاريتين، يسير متزن الخطا، وسأله زهير وكان قد عرف بما نزل بالمقهى السكندري من هجوم وسرقة :

- لماذا يعادي المتطرفون الفنون؟

وأطرق يوسف ثم قال في أداء ممسرح شبيه بعهده الأول على المنصة الخشبية :

- لأن صناعة الحياة تتعارض بطول الطريق مع صناعة الموت.. فلتصغ لي  : إنهم يراهنون على حياة بعد الموت، حياتنا هذه جملة عارضة لا تعنيهم، حياتهم أيضاً لا قيمة لها أمام أبدية منتظرة ينالونها وسط الجماجم والخراب الأرضي، ركام تصنعه الأيدي الحمقاء، تحيل الدنيا الخضراء جحيماً، ياله من عالم كئيب يتواطئون على خلقه ! إننا في طور أول، ولابد من وقفة، حين يفقد المجتمع وعيه كاملاً سيمسي أفراده بيئة خصبة لهم، وسيكون كل طفل يولد فرداً عضوياً في كيانهم المتضحم، سنتكلف الجهد الهائل كي نقنع واحداً بفكرة سليمة صحيحة، وسنجني حصاد الأفكار الرجعية كالثمار العاطبة، ستكون أرضنا مرتعاً لسمومهم كأنهم نبت الشوكران !

وربت يوسف على كتف زهير فاهتز جسد الفتى الهزيل، يقول الأب : - فلترسم لنا بهجة خالصة تغنينا عما عرفنا، لقد ذقنا ويلاً، عرفنا المرارة وكدنا نغرق في الثبور، أعذرني، حين أنظر إلى هاتيك اللوحة أو تلك لا أفهم الموضوع الذي ترمي إليه، وإنما ينتابني إحساس وشعور، أحسب أن هذا غرض الرسم التجريدي ومناطه، وليكن الإحساس ساراً هذه المرة، ولتكن اللوحة سعيدة مستبشرة..

وقال زهير :

- لا أستطيع أن أسارع لك في طلبك هذا، دأب الفنانين أن ينتظروا إلهاماً يجيء أو لا يجيء، وأما طبيعة الإلهام فلا يحددها إنسان حتى هم، سأرسم حقيقة شعوري الآن، وليكن ما يكن..

وجلس الأبوان يرقبان ما سوف يتمخض عنه صنيع نجلهما بعد ساعات طوال، تخلص يوسف من التكليف وجلس على الأرض مشمراً بنطاله،  وما لبث أن حضر حسين أيضاً فشاركهما جلسة الانتظار، كانت عفاف تتبين دورة الشمس من تقلص الظلال على الحوائط والجدران، وما لبث أن غفت وأخذتها من النوم سنة، واستيقظت على صوت يوسف يقول لزهير :

- هذه أجمل من أي لوحة رسمتها،.. آدميين كثر برؤوس غربان، ومبنى فارغ المحتوى، المبنى أعرفه، والغربان أعرفها أيضاً، وطاقة نور في خلفية خضراء لاريب أنها تمثل بشرى التنوير.

وقال زهير :

- لقد أحسنت تفسير لوحتي.

واقترب حسين من أخيه فمازحه يقول :

- إنه يُسَر بالإطراء، يغلب على وجهه الجمود، وحينئذٍ يقف وقفة الضفدع الممتن، فتنداح شفتاه..

حَاَفَظ يوسف على نمط حياة في باريس شبيه بنمط حياته في الإسكندرية، يتكلم العربية، ويتغذى على الأكلات الشعبية، علاوة على ما كان يحدث حين يقرع قدح القرفة المحشوة بالجوز واللوز ويسير في شوارع باريس، أحياناً يهتف به هاتف الجنون فيلبس القفطان الريفي، يقف شامخ الأنف، معتز الهوية، وعرف بين سكان حيه بالرجل المجنون الذي يُضحِك الناس، وحتى الخمور فقد عكف عنها بعدما خلا منها بيت صديقه حمود الذي انتابته حالة إيمانية واطئة الحدة بعد حرب يونيو نبذ معها الثمول، فأمسى أقرب إلى الطباع الشرقية التي تنظر للمسكرات نظرة الدونية، وتربط بينها وبين غفلة العقل وضياع المورد،.. كان يوسف يقف وقفة الفجر المعتادة منتظراً مقدم القط الروسي الذي لا يجيء، وقال له حمود :

- لا ترهق نفسك، لن يحضر (أي القط)..

وغاصت العبارة في أعماق شروده، فسأله :

- لمَ؟ أتعتقد في موته؟

- كلا، يعيشون بين عشرة إلى خمسة عشر عاماً، وقد كان في الخامسة حين رأيته أول مرة.

وانتشى يوسف في ثورة عارضة يقول :

- إنه حي يرزق إذاً..

- ولماذا تبحث عنه؟

- كان لرؤيته رمزية ما لم أفسرها، إنك إذا رأيت نظرة عينيه أسرتك إلى الأبد.

- رأيتها مائة مرة دون أن يكون لها الوقع الذي تصفه.

وما لبث أن عاد يوسف إلى بيته خائب الرجاء، عند العتبة لفت انتباهه أمر عَجِب له، ألفى دعوة حفل تحت عقب الباب، دعاه لويس إلى حفلته الجديدة فاستراب، وصارح عفاف بالأمر فقالت له :

- لا تذهب..

ولكن حساً طفولياً ومغامراً كان يحركه (يوسف) فعزم على الحضور رغم تحذيرات امرأته. 

 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

  

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا 

 

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

 

الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset 

 

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق