استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/14

موعد في أقدم مطاعم باريس La Petite Chaiset

                                                   الفصل الثالث والثلاثون:

موعد في أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset






وقع بين الأخوين زهير وحسين شقاق لم يلتئم منذ لاحت إيفون في حياتهما، أزالت الغيرة ما بينهما من عُرَى الأخوة، وحاول يوسف إصلاح ذات بينهما ولكن غضب حسين العارم من أخيه حال دون محاولات الأب، وتجلى سخطه العام في أمور : ترك دروس العربية، ثم هجر حصص البيانو، وانتهى إلى إقامة منفردة في عقار بالضاحية الشمالية لباريس في منطقة سين سان دوني Seine-Saint-Denis، حيث تنتاثر الأعشاب العشوائية عند أقدام الأبنية المبنية من حجر الآجر. وجاءه يوسف - بعد إلحاح عفاف عليه بزيارته - فوقف الأب مدة لدى الباب بعد أن انفتح، وسأله :

- "هل أدخل؟".

وحدق حسين إليه ملياً، وكان كالح الوجه، يلبس فانيلة بيضاء تظهر ذراعيه، ويتقي أشعة الشمس بخفض ناظريه إذ هو أمرط الحاجبين أو يكاد، وكان من هؤلاء الأشخاص الذين يبدون خفيفي الحاجبين حتى ليظن المرء بهم انعدامها في وجوههم، وقد أورثه استهتاره بالبشر، استهتاراً مماثلاً - شارف على المعاندة والاحتقار - بما درجوا على الاهتمام به من عادات، فبدا تاركاً لشعره ولحيته التي باتت بدورها مسبلة على صدره كالكهان، ثم قال في فتور :" مثلما تشاء.."، ودلف يوسف إلى البيت الذي كان مشبعاً برائحة الدخان، وكاد يبدي تذمره من حالته الفوضوية لولا أنه رق لحالة الابن المنكسر فأرجأ عتابه حتى حين، وسأله :

- "هل أنت سعيد؟".

وأجابه حسين :

- "أقل بؤساً.".

- "يجب أن تعود إلى البيت..".

- "أي بيت؟ إنه حظيرة ضاعت فيها أكبر أمنياتي، سأعود إذا فقدت عقلي.".

ورمق يوسف بضع كؤوس من النبيذ فقال منفعلاً :

- "ما كنت لأسمح لك بالدخان ولا بالخمر لو أنك تحت بصري وعلمي..".

- "لأجل ذلك أنا لست تحت بصرك وعلمك، فلتفكر في الأمر، أنا هنا حر.. هل ذقت الخيانة؟".

وقال يوسف :

-"الحرية المطلقة فوضى عابثة، إنها ليست هدفاً حتى إذ أنك لن تدري ماذا تفعل بها إذا ملكتها، الأمر أشبه بمن يصل إلى قمة الجبل فلا يجد المزيد مما يستطيع أن يصعده، القيمة في القيد مع الحركة، وفي الصعود من السفح إلى القمة،.. هل يصح تصور يصير فيه الإنسان متجرداً من كل قيد؟ فكر في الأمر، إننا نتواصل عبر محددات نسمها بالمفردات، وإذا استوعبت المفردة كل معنى صارت بلا معنى، كذلك الإنسان.. لم يكن أخوك زهير على علم بأنها صديقتك، ولو أنه علم لفزع فزعاً عظيماً وابتعد منها كمن يتقي النار..".

وأعاد حسين السؤال عينه، وكان قد أخذ يدخن غير عابئ بوجود أبيه كأنما نضا عنه ثوب التوقير نَضْواً، يقول :

-"هل ذقت الخيانة؟".

وألفى يوسف نفسه مضطراً لأن يأتي بجواب آخر على السؤال المتكرر، فقال :

- "أذكر أن كفافيس كان يقول في حالتك :

المجد لهؤلاء الذين يحرسون ويسهرون - في حياتهم - على ممر "ثيرموبيلاي" لا يخونون أبداً ما هو حق..".

ولكن حسين قاطعه يقول :

- "لا تحدثني عن صديقك الشاعر، إنه يزعجني، أنت أيضاً تزعجني..".

ومضى يوسف في استرساله المقتبس لشعر كفافيس غير مكترث حتى انتهى يقول :

-" يظلون مصدر عون بقدر ما يستطيعون، ينطقون الحقيقة دائماً حتى دون أن يكرهوا الكذابين. بل المجد الأعظم لهم حينما يتوقعون (كما يتوقع الكثيرون) أن يظهر "إفيالتيس" في النهاية، وأن يخترق الميديون - في النهاية - الممر.".

كان حسين قد جعل يمسك برأسه كأن صداعاً قد ألم به، فالبيئة الفوضاوية، الدخان والنبيذ، وأشعار كفافيس، ووجود أبيه، علاوة شعوره بالخيانة العميقة، كل أولئك كونوا مزاجاً خانقاً، وجعل يصيح في أبيه :

- "فلتصمت، لشد ما أنت مزعج، فلتصمت.." !

 

في هاته الأثناء كان زهير يجلس رفقة إيفون في واحد من أقدم مطاعم باريس  La Petite Chaiset، يأكلان حساء البصل وشرائح اللحم tartare،  ولم يبدِ أن حساء البصل كان مما اجتذب شهية زهير البتة، وإن بدا الحساء في وجود الفتاة أشبه في وعيه إلى الرضاب الشهية (شهد العسل)، وقال لها زهير :

- "أشعر بالشفقة نحو حسين، بل يتفق لي أن ينخزني ضميري في كل مرة ابتسم فيها هنا وخز الإبر، إنه يحبك.. زرته في الضاحية الشمالية فلم أظفر بالغاية التي أردتها من الزيارة، عبثاً حاولت استرضاءه واسترداد وداده، فإذا هو قاطع الرأي على قطيعتي، ثابت العزم على عناده، يبدو صدوفاً عن المعاشرة، مستغرقاً في الوحدة والانفراد كالنساك، ما خلا صحبة السوء التي تزوره بكؤوس الثمول والدخان، وحين سألته عنك قال : إن المرأة هبة الشيطان، وعصا إبليس، وأما أنا - بزعمه - فملموس من خبال الغريزة، إذ تتفنن جل النساء - كما يدعي - في إبداع شباك الاصطياد بطبيعة ماهرة جُبلن عليها، ويقع فيها من يقع، ليت شعري ! كأنني رأيت إنساناً غير الذي أعهده وأعرفه..".

وكانت إيفون تقعد قبالته، لها وجه خمري زاهر، وقد ممشوق، ولكن الحديث نأى بها عن الطعام فتركت الملعقة في صحن الحساء، وقالت :

-"لم أتصور قط أن أتسبب في كل ذلك..".

كان زهير - علاوة على ما أورثه إياه حساء البصل من مرارة في فمه - غير مستمرئ لمذاق شرائح اللحم  tartare المصنوعة من لحم الحصان، ولكنه مضى يأكل الطعام المقدم كأنما لم يتنبه قط إلى سوئه في خضم ما  أخذته حراراة الحديث عن التفكر في غيره من أمور أبسط، يقول :

- "أعرف حسيناً مثلما أعرف أن هذا الطعام هو سيِّئ حقاً، أعني كغيره من الحقائق الراسخة الواضحة في ذهني، إن ظاهرة الكبرياء والعزلة عنده دخيلة على طبعه الرضي الودود، وإذا أنتِ زرته في سين سان دوني Seine-Saint-Denis تكونين أسديت خدمة إلى قلب يتعذب في التيه..".

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

وتساءلت أيفون :

-"أتراه يسعد إذا هو رآني وقد مزقت قلبه وفتت شمله، مثلما تصف؟".

وقال زهير :

" كان يمقت منك غيابك لا حضورك، وأغلب الظن أن يسعد بزيارتك كطرب العصفور في القفص يسقسق ويصفق بجناحيه، أجل سيطرب على هذا النحو أو أكثر..".

وتنهد زهير وقد بدا أمام أطباق نصف فارغة مرتاح الضمير، وقد انتكست شهيته فأسلم الملاعق والأشواك إلى حالها الأول كأنما هو ييسير على النادل عمله المستقبلي في إعادة النظام إلى الطاولات، وهيأ له شعوره المتولد المتحرر الجديد أن يتبادل مع إيفون بضع كلمات هي من الحب والجوى والغزل، غير أن التردد وإثقال الضمير لم يتركه كلية فما أن يرتفع إلى سقف معين حتى يتبادر إلى مخياله صورة أخيه بذقنه المسبلة على صدره فيرتعد ويرتعب كالمرء الماضي في سبيل ممطر أصاب البرق منه موضعاً قريباً، وكان أحياناً ما تدمع عيناه الحساستان للضوء لفرط الخجل والارتباك، الأمر الذي أفقد عبارات الغزل بعض صدقيتها وأورث قائلها استخزاءً من نفسه، فعلاوة على شعوره بانتزاع نعمة من أخيه، كان يملك شعوراً أرسخ من المسؤولية تجاه من يصغره كالأبوة المخففة،.. وهكذا مضت الجلسة !

 وتحققت الزيارة المرتقبة، فوقف زهير لدى هذا الباب فما أن سأله أخوه الدخول حتى بادره إلى القول :

- "جئتني مرة، وأما هذه الثانية فهل أردت أن تشمت بي؟".

ولاحت إيفون في المشهد المقطوع بحدود الباب في رؤية حسين فصمت الشاب صمتاً عميقاً، كأنما انتقل بجوارحه إلى عالم آخر، وسمع زهير يقول لإيفون كأنما يروم أن ينهي فترة الصمت :

- "سيسمعك لحن الأغنية التي فاتتك على البيانو، نعم العازف البارع هو !".

وأدخلهما حسين إلى جوف البيت الفوضوي وقال فيما يشبه الحزن :
- "تركت البيانو في بيت أبي..".

وكان زهير يحرص على إبداء الابتسام الدائم، حرصاً منه على إظهار اللطف يطغى على توتره من جانب، ورغبة في ألا تنتكس زيارته لأخيه كأنما هو يقطع السبيل على أسباب الجهامة من جانب آخر، ولكنه تخلى عن ابتسامته للحظة حين قال وهو يشير إلى آلة موسيقية التقتطها عيناه في محيط البيت الفوضوي  :

- "ماذا عن الـ   Clarinet(كلارينيت/يراعة)؟ أليس بوسعك أن تؤدي اللحن عينه على آلة النفخ؟".

وكان حسين من غرابة الأطوار حتى أنه لم يقل شيئاً على منوال :"سأحاول.."، أو أنه اكتفى بالرفض يشرح معه أسبابه أو لا يشرحها، وإنما مضى بضع خطوات حتى قبض على آلة اليراعة (الكلارينيت) في شدة غريبة، وشرع في أداء اللحن، يزفر الهواء فينفخ فيه عجيب المنظر، ولم يبدُ أنها كانت فكرة سديدة صائبة، إذ سرعان ما شاع لون من الحزن الشامل في الجلسة من جراء النغم الذي تفرضه طبيعة الآلة، فقطع حسين عزفه وانبرى يهرع إلى حوض الماء، لدى هذا المطبخ الذي كان لا يفصله عن حجرة الاستقبال سور ولا باب، يبكي ويغسل وجهه، ثم يبثق فيه ويتحشرج.

 

وأخذت إيفون تهمس في أذن زهير تدعوه إلى الانصراف، وقد حدست فيما سمعته من حشرجة حسين بما أرابها وأفزعها، واستدار حسين إليهما بعد أن فرغ مما هو فيه فوجدهما على هذا الحال، وقال صائحاً في نقمة حقيقية :

- "تهمسان بحديث الحب ! إلهي ! ما أفظع الإنسان !".

وبدا أن زهيراً تحرر من صورته المصطنعة اللطيفة التي لازمته منذ حضوره، فقال كأنما خسر ما كان يعمل من أجل الإبقاء عليه :

- "لشد ما أنت واهم ! القبطان الجيد يظهر حين تشتد العواصف، لا بأس بأن تخسر فتاة، ولكن الخسارة أن تخسر نفسك..".

وقال حسين وهو يقترب إليه بضع خطوات، بينما تفزع إيفون إلى خارج البيت :

- "الرحمة أن يحدث القبطان خرقاً في السفينة التائهة بدلاً من أن يموت من فيها بالتصوير البطيء، في تيه الموج والعباب، أن تنتهي المعاناة بأيما طريقة خير من انتظار الهلاك.. حدثني لمَ تحب إيفون؟ أليس لأنها ممشوقة القد، حسناء الصورة، لها جسد كالمرمر وقوام كرمح رديني؟ أجل، أنا وأنت نفكر بعين الطريقة، الصدفة جعلتها جميلة على نحو تُغبط عليه، أجل، جعلتها الصدفة موضع تنافس بيني وبينك، الصدفة - كذلك - صيرتها نزاعة إليك، ميالة إلى تركي في ضيعة اليأس..".

وهتف به زهير يقول :

- "فلتختزل الأمور كيف تشاء، ولكنني أقول لك : ستتسامح مع كل شيء إذا أنت وعيت لكل شيء..".

ولم يعجبه ما أبداه له أخوه الأكبر من وجه حكيم واعظ، فجعل يعدو نحوه بآلة الكلارينيت يريد أن يضربه بها، بوجه محموم، وتعثر في سجاد الأرض فهوت منه آلة النفخ الخشبية وتحطمت، ولكنه نهض فتابع نحو هدفه بذات الوجه الغضوب أو حتى أكثر،  في حين وقف زهير صامتاً ساكناً، لا يبدي أقل مقاومة كالتمثال، وإنه لعلى حظ من النحول عظيم، كانت تنهال عليه اللكمات من أخيه الذي ما لبث أن أخذه البكاء - في لحظة تنوير عارضة - كأنما أدرك هول ما اقترفه ويقترفه، ونبذ العداونية تدريجياً فاحتضن الأخ أخاه، فلما عادت إيفون - تزامناً مع خفوت صخب العراك - ألفت مشهداً اقشعر له بدنها، إذ هي أبصرت الدماء المتناثرة على جبين الأرض التي حملت الأخوين المتعانقين في مشهد الفوضى العارمة ! 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية  

 

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة 

 

الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية  

 

الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !

 

الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون

 

الفصل السادس: حزمة من الذكريات 

 

الفصل السابع: لعنة المدينة 

 

الفصل الثامن: زناد الحب 

 

الفصل التاسع: شيفرة الجمال 

 

الفصل العاشر: مبادرة روجرز 

 

الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا

  

الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر 

 

الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر 

 

الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية 

 

الفصل الخامس عشر : قلب كارمن 

 

الفصل السادس عشر : حديث الغريب 

 

الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة 

 

الفصل الثامن عشر : روح التمرد 

 

الفصل التاسع عشر : زواج سري 

 

الفصل العشرون : وصية الفراق 

 

الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر 

 

الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب 

 

الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس 

 

الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان 

 

الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل 

 

الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر 

 

الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت الفتاة منافذ القبول 

 

الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد 

 

الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين 

 

الفصل الثلاثون: شبح الموت 

 

الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة 

 

الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

  

الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري! 

 

الفصل الخامس والثلاثون: الحياة التي تستمر  

 

الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة 

 

الفصل السابع والثلاثون: نشوة على سور الكورنيش 

 

الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم 

 

الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس 

 

الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين 

 

الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر 

 

الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي 

 

الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا 

 

الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت  

 

               الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق