استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/10/23

فراق بيني وبينكم

                                        الفصل السادس: فراق بيني وبينكم



اضطر نعيم تحت وطأة ما استجد من ظروف أبيه المالية إلى أن يضع فيلا لوران في سوق البيع، وجاءه بعد فترة انتظار لم تطل مشتريان، فجهز لهما بدوره موعداً في حديقة البيت دون أن يعرف هويتهما حقاً، ولكنه دهش حين ألفى ذهب وعبد القدوس قبالته، كان ذهب رافلاً في ثوب من حرير هندي يلبس حذاءين هما من جلد الماعز وقد سربله عمله الوجيز مع عبد القدوس عزاً، وأما الثاني (عبد القدوس) فيلبس سترة بكُمَّين طويلين فوق جلباب أبيض شديد البياض، بوجهه الصخري المعتاد ولحيته، وارتسم على وجه نعيم ملمح عجب كأنما يقول :"بحق المنطق الذي ينظم الأشياء، ما الذي جمع الشامي إلى المغربي؟!"، وقال عبد القدوس حين قعد على الكرسي الخشبي للحديقة فيجذب طرف جلبابه :

- جئناك في طلب شراء هاته الفيلا، لقد كانت يوماً لي، وها أنا ذا استردها، باركها الله ووفق صاحبها مهما تكن هويته إلى استخدامها في الخير، (ثم وهو يرمق التمثال المرمم بنظرة ذات دلالة..) ثم تنزيهها من مواطن الإثم،.. أعلم كم هي غالية ثمينة عليك ولكننا جميعاً في مُلك الله، تنتقل ملكية الأشياء بيننا فنغضب ونرضى، ثم تؤول إليه في الأخير..

وقال ذهب كأنما ينسخ تاريخاً طويلاً من الخدمة المذعنة فيتكلم بلغة القدرة الجديدة :

- الحق ما نطق به عبد القدوس، إني أوافقه..

وأخذ ذهب يفكر في استحمامه بالمغطس الخشبي فاستروح إلى خياله زمناً قصيراً، واستجاب له أكثر حين ألفى نعيم على حال من الاستجابة المتأخرة للحديث التي ولدها حزنه على فقدان ما كان له، حتى نطق (نعيم) يقول :

- ألا تريد أن تسترد نجلك منيراً أيضاً؟ بت اليوم أقدر على رعايته..

وقال ذهب :

- كلا، إنني سعيد بحالتي هذه، (ثم وهو يرمق الطفل الأسمر يلهو غير بعيد تحمله مريم فوق كتفيها فتعبر به نطاقاً به بحيرة صغيرة كالتمساح يحمل صغاره ويجتاز بهم نهراً خطراً..) وأراه سعيداً بينكم.

وقال نعيم :

- سيفتقد معاشه في الفيلا ههنا ولا أريد له هذا، عجيب كيف أحاول أن أقنعك باسترداد نجلك وكان أحرى بكَ أن تكون الطالب.

واحتد ذهب يقول :

- لقد جئت لطلب محدد، لا تجهدني في مناقشة غيره..

وكان نعيم يأخذ يفكر في خيبة حقيقية :"إلهي! ستستحيل الفيلا الرائعة إلى وكر للأراقم، ستشوه بأرواح من فيها ولو ظل ذاك النبت يزين الجدران.. ولكن.. ما باليد حيلة.."، وقال كأنما يستعيد سؤال كان حري به أن يستهل به جلسته مع الرجلين :

- معذرة، ولكن كيف أثريتما على هذا النحو العجول جداً؟

وتدخل ذهب يقول بعد صمت مرتبك :

- كنا، أنا وعبد القدوس، متناقضين فملأ كل منا ثغرات الآخر ونقائصه، أخذت من عبد القدوس تقواه وورعه، وورث عبد القدوس مني طموحي وتطلعي ! أصبنا نجاحا إذ أننا نظرنا من كوة الابتكار إلى ما يحتاجه السوق فلبيناه، صار لنا مكتب يشتغل فيه كثير من الموظفين كشأن النجوم الضخمة تدور حولها السيارات الأصغر..

وتدخل عبد القدوس يقول مخافة الحسد :

- إنها مشيئته عز وجل التي نحمده عليها حمداً يليق بجلال وجهه..

ووقع نعيم عقود انتقال الملكية - لقاء مبلغ مجزٍ حازه - في اليوم الذي بكى فيه منير طويلاً، كان الطفل الصغير على حداثة حياته بالمكان أكثر المتعلقين به، وقال له نعيم يواسيه في حين يتشبث بالأرض فتجذبه يد الآخر :"هلم ! فما أشد حاجة الحياة إلى شجعان ضراغم، لا ضعافاً يبكون،.. إذا كنت قوياً بما يكفي ستعود إلى المكان الذي أُخرجت منه، يوماً، ربما حتى على أكف من طردوك !"، وهدأ منير بعض هدوء لما أحدثت العبارة الأخيرة في نفسه من أثر حقيق ببث التحدي كأنما هي درس تربوي يسمعه فيستجيب له، فيما جعلت مريم تهدهده وتلقمه البسكويت وهي ترمق أبوه ذهب - المتنصل من مسؤوليته في رعايته - بنظرات متحفزة ملؤها الازدراء، فلما خلا للرجلين - عبد القدوس وذهب - فضاء الفيلا، قال الأول للثاني :

- سنبدأ بالخلاص من هذا. (يشير إلى التمثال)

وتساءل ذهب في ريبة :"وكيف؟"، فأجابه عبد القدوس :

- كما حلها شمشون حين زلزل دعائم المعبد على رأسه ورأس أعدائه يوماً، سنحطمه ! إنه رجس أورث أصحابه الخسران،.. أما رأيت كيف امتلكنا ديارهم؟

وأبدى ذهب امتعاضاً يائساً، يقول :

- التمثال من جديد ! وقد حسبت أن قصته معك قد انتهيت، حسبنا اليوم أنَّا حزنا مقاماً فخماً رائعاً..

وقال عبد القدوس وهو يتطلع إلى تكوين التمثال :

- ما من نهاية لذنب على هذا الحجم إلا مهشماً محطماً، لقد أقمت حياتي على دعامة من التدين الحنيف، وفهم الأحكام التي أفنيت عمري في تمييز صحيحها من سقيمها.

وقال ذهب :

- أفنيت عمرك في هذا دون أن يكون لكَ حس سليم.

- تفضل حياتك على آخرتك، ولا أريد لشريك لي أن يكون على هذا الوصف.

وانفعل ذهب فخطا خطوة طقطق لأجلها حذاؤه المصنوع من جلد الماعز يقول :

- بل إنني أصرع الموت بتمجيد الحياة.

- الشقاء مآل الأرواح الطامعة في لذة منتهية.

- ماذنب الجماد الأصم؟

- لست من تحدد ما يجب وما لا يجب. (وجعل يحدث نفسه في تندر..) أبرع من عرفت في تجارة العملة بالسوق السوداء يحدثني عن الشرف، ماذا جرى للاتساق في هذا الوجود؟

 

في سموحة..

نُقلت تهاني إلى المشفى من جراء ما تعرضت له من أذى غير مقصود يوم الشجار الذي وقع بين مراد وبين أخوتها، كان مراد على حال من القلق الشديد فكأنما اشتعلت في ذهنه نيران الظنون، ونضحت في مخياله من التصورات ما زاغ له بصره، وأتاه الطبيب يقول في صوت غائر كأنما يتدافق من عمق الأزل :

- لقد أُجهض الولد، ولكن أمه سليمة..

واستقبل مراد الخبر بوجه باسر كالح، ولكنه ما فتِئ يتدارك هذا الحادث في لون من الشكيمة التي تفرضها الضرورة ومسايرة القدر، ودلف إلى حجرتها فألفاها نائمة يبدو من شباك حجرتها قمر تتغامز أضواؤه، وقال :

- الخير فيما قدره الله..

وقالت في صوت واهن ببط المريض الناقه بعد أن تسرب إليها الانتباه ففتحت عينيها، في غير قناعة كاملة :

- أجل، كان ليكون (أي الوليد إذا تمت له الولادة) يتيم الأب مشتت الهوية..

وقال مراد في صوت هادئ كأنما يتراقص في لحن غزل :

- لابد أن نتزوج كيما أقيك كيد أخوتكِ..

وتنبهت فاعتدل رأسها على وسادة الحجرة الباهتة، تقول :

- ويحك ! وأميرة؟

وقال في نبرة كأنها فيض شديد وخصب متزايد على كراهة ما تحمله من المعاني، دون أن يجيبها حقاً على النقطة التي أثارتها :

- لن يتركوك والمال معكِ، إنهم (أي أخوتها) حيّات اعتل تكوينها ففسد.

وفي عين الأثناء تسرب الخبر إلى أخوة الفتاة الرابضة على سرير النقاهة والعلاج، كان أربعتهم متنوعين فيما تخصصوا فيه من أشغال زهيدة، فمنهم من عمل في مجال الحلويات الشرقية كأدهم، ومنهم من امتهن صناعة الألومنيوم، ومنهم من بقى بلا عمل، وقال أدهم لهم :

- بئس ما صنعنا معها ! وأراذل البشر تسنتكف عن أن تخوض فيما قد خضنا فيه.

وقال الأخ الأكبر في غلظة كريهة :

- فلتذهب إلى كبيرك الذي علمك السحر (مراد)، ولتقدم له فروض الطاعة والولاء، أقسم أنه ما كان يدافع عنها (تهاني) إلا طمعاً فيما لديها من الثروة،.. (ثم في حدس صائب..) إنه مزواج نهم، ولعله يطلبها إلى الزواج مثلما تزوج يوماً بأختها الكبرى (نرمين).

كان الأخوة يسيرون في محطة الرمل حيث امتلأت في موسم الأكازيون الصيفي بكثرة من البشر كأنه يوم النشور، فدفع مراد أخاه الأكبر دفعة قوية يقول :

- ما أنا سوى حر، وكلمتى لا تخرج إلا من قرار قناعتي، لا يمليها عليَّ مخلوق.

 فبادله الآخر - وكان ذو جبلة قوية متين العود - دفعة مماثلة أو أكثر أورثته تهالكهاً وسقوطاً بين القوم الذين جعلوا يتفادونه في نشاطهم التجاري الليلي، وسعيهم النشط، واتقته امرأة - كآخر المتقين - كانت تلبس قبعة بونيه وحجاباً ملوناً - كأنما هو مزاج غير متجانس بين تحفظ البادية وبهرجة المدينة - بعد أن قربت منه فحاشته، مثلما يتقي العابر أذى في الأرض دون أن يميطه، وحال الأخوان الآخران بين أدهم الذي نهض بدوره مدفوعاً بما لا وصف له من الغضب وبين أخيه الأكبر، ولكنه جعل يقول من وراء سياج الاثنين كأنما يقظ ضميره فيتمثل صورة المنيب :

- قتلنا وليدها، ما نحن إلا قتلة، ولتغسلوا أيديكم من الجرم الذي لن تجدوا عنه صفحاً يسيراً أبداً، وليتطهر الواحد منكم من وحلة الجشع بماء طهور..

وأجابه أكبرهم في هزو لا يتفق وانفعال من أمامه :

- ابنها؟ لم يكن إلا ضريبة ثانوية لم تتوقعها لقاء الثروة، إن الساذجين هم المتظاهرون بالأخلاقية في هذه الحياة.

ولم يجد أدهم في حديثه الوعظي الأصداء التي انتظرها، كان أخوته فقراء كأنهم مسيرو الاختيار، يسري عليهم المثل : "القرد ما كان له أن يخشى التهديد بالمسخ.."، وكانت قد جذبت صورتهم المتشاحنة انتباه العابرين الذين أحدثوا حول وقفة الأربعة ما يشبه البون الكبير وإن ظلوا على ما هم فيه من الحركة الدؤوبة، فلما أدرك أدهم حقيقة المشهد في لحظة رؤية شاملة انتابه شعور بالانفصال المجتمعي وسطهم وثق شعوره الأصيل بانحرافهم وبغيهم عن مجموع البشر، ومضى عنهم يقول :

- إن هذا فراق بيني وبينكم.

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له

الفصل الثالث : ليس في حياتي ما خفيه

الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 

الفصل الخامس : ما لا نبوح به

 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت

الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى

الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك

                    الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

      الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي.. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق